إن الحديث عن دور الثقافة والفنون فى إرساء الوحدة العربية، أو لنقل دورها فى إرساء التفاهم والتفاعل الخلاق بين الشعوب العربية، أو دورها فى «استنارة» العقل والفكر، هو أمر جد خطير، ونحن فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين... وتثار أسئلة كثيرة فى ذهن الكاتب تمس الفجوة الكبيرة بين المأمول والواقع، لأن الحديث عن دور ما نسميه اليوم ب «القوة الناعمة» وقدرتها على تحقيق التكامل الثقافى بين الشعوب العربية، سوف يرتطم وبقوة فى «صخرة العولمة» ومتغيراتها... هل يمكن فى عصر التواصل الاجتماعى social media، حين يكون الشباب (أقل من 35 عاما) هم المستخدمين الرئيسيين للانترنت والفيس بوك، أن نتحدث – حتى على مستوى المجتمع الواحد- عن الانصهار فى بوتقة ثقافية تحقق التكامل وتعمق الانتماء وتنهض بالفكر والفنون...؟ وهل يمكن أن نتحدث عن قيم التسامح وقبول الرأى الآخر واحترام أدب الحوار، ونحن نتابع فى معظم الدول العربية الصدامات والانشقاقات بين الأفراد والجماعات وتدنى لغة الحوار، حين تتداخل السياسة مع الدين، وتتعدد وتتنوع «المعسكرات» التى يتحصن بها البعض؟ وهل يمكن أن نتغنى بدور الثقافة والفنون فى النهوض بالمجتمعات العربية، حين نعيش ونتابع مئات الفضائيات العربية، وهى فى معظمها «خاصة» تسوق لفنون «متردية» لتصبح هى التجارة الرائجة؟ وفضائيات أخرى كثيرة تروج لأفكار سلفية دينية، ويصدر عنها آلاف «الفتاوي» التى تشجع التطرف، وتبتعد عن مضمون الدين ومبادئه السمحة؟ بل إن بعضها يحرم الفنون التشكيلية والغناء والسينما والمسرح ويهاجم الأدب والأدباء؟ وعلى الجانب الآخر، قطاعات عديدة من الشباب، تسعى للتحرر من كل ما هو «عربي»، تتحدث باللغة الإنجليزية، وتتعامل «بازدراء» مع الثقافة العربية والقيم والتقاليد، وتنظر إليهم الأسر العربية – التى ينتمون إليها- بكل فخر ومنذ نعومة أظافر الأطفال، لأنهم ببساطة يتحدثون بالإنجليزية ولا يتحدثون العربية؟ إن التكامل الثقافى العربي، كان أحد المحاور الرئيسية – إلى جانب التكامل الاقتصادى والسياسي- التى تمت مناقشتها فى المؤتمر الثالث عشر لمنتدى الفكر العربي، والذى عقد فى المملكة المغربية، وشارك فيه نخبة متميزة من الباحثين والأساتذة والمفكرين، من مختلف الدول العربية. وقد حرصت من خلال الورقة التى قدمتها فى المؤتمر المذكور، ومن خلال متابعتى لنفس المحور – أى التكامل الثقافي - أن أرصد اتجاهات المناقشات والرؤى المتعددة للنهوض الثقافى المجتمعى وحلم «التنوير»... إلا أن الإجماع على مسئولية التعليم منخفض النوعية، وغياب الإعلام المسئول، وتراجع دور الأسرة.. كلها أجهضت «الحلم» المعنون: التكامل الثقافي. إن التطور غير المسبوق فى تكنولوجيا الاتصال، والذى تلحق به التغيرات يومًا بعد يوم، قد «شوه» الأسرة العربية إلى حد كبير... عمق الفجوات بين الأجيال، أوجد داخل الأسرة الواحدة «عوالم ثقافية متعددة» عالم التحرر من كل من القيم والتقاليد، وعالم التطرف الدينى والتشدد، وعالم «يستحي» أن يكون عربيًا، وعالم الحصول على المعلومة المغلفة السريعة، من الفضاء الافتراضي... ولا داعى لبذل المجهود فى القراءة وفى البحث، فهو من وجهة نظر العولمة – ومن أخذ بقشورها- مضيعة للوقت.. إن دور الثقافة والفنون فى إرساء التكامل الثقافي، والنهوض بالمجتمعات العربية، قد أصبح أكثر تعقيدًا وتشابكًا، ونحن فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. ولعل من المهم فى هذا السياق التأكيد على ما يلي: إن أحد المخاطر الرئيسية التى تهدد الأسرة العربية، ووفقًا للتقرير السنوى الحادى عشر للشبكة العربية للمنظمات الأهلية (القاهرة: 2013)، قد أبرز بقوة – عبر عمل جماعى فى 11 دولة عربية - إن المخاطر الحالية تعدت الفقر، والبطالة، وتدنى نوعية التعليم، لتمتد – عبر شبكتها الجهنمية- إلى كل أشكال الفنون والثقافة والقيم والتقاليد العربية. إن تراجع أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية – الأسرة، ومؤسسات التعليم، ومؤسسات الإعلام الخاصة وتلك المملوكة للدولة- يجعلنا أمام «منظومة متكاملة»، لابد أن تتكاتف جميعها عن وعى وإدراك، لمواجهة تحديات ضخمة، تهدد الثقافة العربية.. هناك مبادرات طيبة وإيجابية، فى بعض الدول العربية تسعى لحصار «الآثار الكارثية» للعولمة على الثقافة العربية، وهى مبادرات بدأت فى القواعد الشعبية، لتشجيع الإبداع والمبدعين. وقد سجل التقرير السنوى الثالث عشر للشبكة العربية، بعض هذه المبادرات التى تحتاج للدعم والتشجيع (فى المغرب، ومصر، ولبنان، والإمارات العربية المتحدة... وغيرها)، إلا أنها جميعها لا تكفى لنتحدث – وبثقة- عن التكامل الثقافى العربي. إن التشوه الذى لحق بنمط الاستهلاك، فى الدول العربية الغنية والفقيرة على السواء، واللهث وراء «الماركات العالمية»، لم يقتصر على الاستهلاك المادى (أنماط الملبس والمأكل والمسكن) وإنما امتد إلى أنماط الإقبال على الفنون والثقافة والرموز «القدوة» للأجيال الجديدة.. إن الأولوية تتجه لكل ما هو غربي، وسريع، و»معلب».. وفى مجتمعات تفتقد العدالة الاجتماعية، وتعانى من التفاوتات الحادة بين الأغنياء والفقراء، فإن التقليد أو «محاولة التماثل» من جانب الفقراء للأغنياء، يتجه نحو المتاح لهم والأرخص (تسريحة الشعر، الموبايلات، الملابس الصينية الرخيصة وعليها نفس الماركات العالمية... وهكذا).. الجميع تقريبًا لديهم «أطباق» فوق مساكنهم المهدمة، التى تكاد تنهار، فى محاولتهم متابعة الفضائيات.. وهؤلاء أصبحت لديهم ثقافة خاصة بهم، بل وثقافات فرعية فى المجتمع الواحد، مصطلحات جديدة تم صكها، وأغان خاصة بهم يتم تداولها (تحت مسمى الأغانى الشعبية)، وسلوكيات عنيفة غير مسبوقة، امتدت من الشارع إلى المدرسة وإلى الجامعات... إزاء ذلك لم تعد لدينا مساحة لأطروحات التنوير الثقافي، أو أثر الفنون والثقافة فى ترقية النفس وتهذيبها، أو مناقشة دورها فى تحقيق التكامل الثقافى العربي، وليست لدينا مساحة لنتحدث فى المنطقة العربية عن «صناعة الثقافة»، لكى نتماشى مع ما هو مطروح عالميًا.. إن «تسييس» العمل الأهلى من جانب، و»تديين» المبادرات التطوعية الأهلية من جانب آخر، وذلك فى أغلب الدول العربية، قد لا يترك لنا إلا «حيزا صغيرا» نتحدث منه عن دور المجتمع المدنى فى احترام التنوع الثقافى وإثرائه وتشجيع الإبداع.. إن نسبة لا تزيد على 3% فقط من إجمالى المنظمات الأهلية (أو بمسماها «المعولم»: المجتمع المدني)، تنشغل بالثقافة والفنون والإبداع (إجمالى المنظمات الأهلية العربية حوالى 360 ألف منظمة عام 2014).. ولعل أكثر هذه المبادرات جدية، قد أتت من خارج «أسوار المجتمع المدني»، والذى أصابه «الوهن» فى السنوات الأخيرة... وسط الظلام هناك بصيص من نور، قابل لأن يصبح إشعاعات من الأضواء فى كل بلد عربي، ثم فى المنطقة العربية ككل... وبقى أن نقول إن التكامل الثقافى العربي، يرتبط بأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، وهو أحد تحديات التنمية البشرية التى حاول البعض أن يواجهها، ومن بينها مؤسسة الفكر العربى فى مؤتمر الرباط.. ويبقى أن تتحالف وتتآلف مثل هذه المؤسسات معا لتعميق قيم الانتماء واحترام الثقافة الوطنية، وتبنى دور تنويري... وهى قادرة على ذلك. لمزيد من مقالات د. امانى قنديل