أعتبر مع كثيرين غيري أن ما وصفت به رضوي عاشور فرانز فانون وإدوارد سعيد وإقبال أحمد من أنهم نماذج للمثقف الناقد المرتبط بقضايا الحرية عمومًا والتحرر القومي تحديدًا ينطبق عليها ويصف دورها كمثقفة مبدعة مناضلة. فقد ظلت رضوي عاشور صوتًا مدويًا وسط كتاب وكاتبات الستينيات ذات شجاعة واتساق فكري استثنائيين. وقد أعلنت منذ البداية أنها امرأة عربية ومواطنة من العالم الثالث، وتراثها في الحالتين معرض للخنق وواجبها الكتابة دفاعًا عن الذات وعن آخرين مثلها لا يحصي عددهم وتتطابق معهم. وعبر تضحيات شخصية وعائلية وسلسلة من الروايات والسير الذاتية والمذكرات والدراسات الأدبية سجلت رضوي موقفها النضالي من الاضطراب والعسف بلا نهاية لزمنها حينما كافحت مع معاصريها من أجل الحريات في مواجهة الاستعمار الخارجي والقمع الداخلي. وكانت الفاعلية السياسية مغروسة مع تخصصها الأكاديمي، فحينما دعا السادات إلي التطبيع مع إسرائيل اشتركت رضوي في تأسيس اللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية في الجامعات المصرية. وبعد أن تدخل الأمن أثناء حكم مبارك في الحياة الجامعية شاركت في تأسيس جماعة 9 مارس من أجل استقلال الجامعات. وفي الثمانينيات واصل شكلها الخاص في السرد الروائي وأداء الشهادة تبلوره منذ كتابها الأول الرحلة - مذكرات طالبة مصرية في أمريكا الذي صدر عام 1983. كما ظهرت روايتها الأولي حجر دافئ بعد عامين ثم توالت أعمال متزايدة الطموح: سراج عام 1993، مزيج من مغامرة سندبادية ومجاز تمثيلي عن استبداد استعماري وقمع داخلي فوق جزيرة خيالية في الخليج العربي. ثم ظهرت رائعتها ثلاثية غرناطة عن بداية تعايش المسيحيين والمسلمين واليهود وانتهاء بدمار ذلك التعايش. ولم تستعمل رضوي القص التاريخي لتعقب آثار الماضي، بل تبنت هذا الشكل باعتباره عدسة يمكن بواسطتها النظر بعمق أكبر إلي قهر معاصر. ومن المعروف أنه في الستينيات والسبعينيات المصرية بلغ البحث الروائي عن طريقة جديدة للنظر إلي الواقع درجة عالية من الإلحاح. فالتصورات التي كان يروجها المذياع والتليفزيون والصحف تصطدم بما كان يلمسه الروائي مع الناس في الحياة اليومية، وكانت هناك درجة كبيرة من الانفصال بين الشعارات والواقع. وبدا الواقع الاجتماعي أرض معركة كان معظم الناس مبعدين عنها إلا كمتفرجين مصفقين توالت أمامهم أحداث خوضها. وكانت الأجزاء التي تم كسبها قد استولي عليها البيروقراطيون والمقاولون والبصاصون، فالمشاريع والمؤسسات والمعارك وسلسلة الثورات الفوقية لم تكن شبكات من الفاعلية الجماهيرية. وصار معظم الناس الذين يدار الحكم باسمهم غرباء عن المشاركة في صناعة مصيرهم. فالقمع كان منتشرًا والسجن مقرًا مألوفًا تؤمه شخصيات الروايات والقصص القصيرة. وكان من الطبيعي أن يطرح الروائيون والنقاد للتساؤل الأنظمة السياسية والفكرية السائدة، وأن يحيط الشك ببعض المسلمات عن معني الحياة ومعايير الحكم علي الأفعال وأن يحل محلها تحسس تجريبي فردي للموقف القمعي الشامل. ولم تصل رضوي مع غيرها من روائيي الستينيات إلي رؤية ترفض وجود الواقع أو إلي فهم ذاتي مغلق، أو اعتبار التاريخ كابوسًأ. بل كان الاهتمام منصبًا علي خصوصية الأدب ونوعيته مع علاقاته بالسياسة والفكر الاجتماعي. يلاحظ النقاد أن الروائي يقوم بدور المؤرخ غير الرسمي للماضي والحاضر، فهو يعيد تخيل الوقائع والحقائق الجزئية في سياق أو نظام سردي لكن القوي المختلفة تروي تاريخًا مختلفًا عن الوقائع والحقائق نفسها، ويتحول الواقع إلي أنظمة متناقضة في الأذهان والروايات وكتب التاريخ والصحف ونشرات الأخبار. فبين كل نظام ونظام، بين التسجيلية والأساطير المقننة يتحول الروائي شاء أو أبي إلي مؤرخ غير رسمي حينما يروي قصة حياة أشخاص داخل سجل اجتماعي معارضً للرواية الرسمية المقننة للتاريخ. إن رواية حجر دافئ لرضوي عاشور تعيد تعريف الواقع الراهن واستخلاصه من شرك الأسطورة التي تنفثها السلطات المختلفة، وتستخدم رموز حياة شديدة البساطة والوضوح من تمثال رمسيس وبيوت القرية كأنها المعابد والنصب التذكاري لشهداء الجامعة ودفء الفلاحة الحجرية الناهضة توقظ أبا الهول. ولهذه الرموز دور بنائي في نمو الاحداث وترابط معانيها، وتومئ إلي أن التاريخ المصري مثل أعلي يحتضن الأصول الأولي والغايات النهائية ويتدفق منطقه الأبدي في الحاضر بوصفه مبدأ عميقًا خفيًا للتماسك والاتساق. وتقدم غرناطة رضوي عاشور شيئًا جديًدا يختلف عما هو مألوف: تصوير الفعل الإيجابي من جانب الشخصية النسائية الرئيسية وهو فعل تلقائي شديد الارتباط بالتكوين الفكري والعاطفي للشخصية. فالمرأة ليست رمزًا لأنوثة خالدة أو لدور جاهز كالوطن أو لقضية عامة، بل هي وافد إبداعي وشخصية متعددة المواهب. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى