لا يترك لنا الموت فسحة نتأمل فيها مناقب الراحلين، ونتدارس أعمالهم، لنرد عنهم وعن أنفسنا غوائل الموت وعواديه. فقبل أن أوفى محمد ناجى حقه من الاهتمام، وكنت قد وعدت القارئ فى الأسبوع الماضى أن أكتب اليوم عن إحدى رواياته الأخيرة «ليلة سفر»، ها هو الموت يختطف منا عنوة أهم كاتبات جيلنا، رضوى عاشور، وواحدة من أغزر أبناء هذا الجيل، الذى عرف باسم جيل الستينيات، عطاء، وأنقاهم سريرة، وأصلبهم موقفا، ولا غرو، فهى الابنة الفعلية على مستوى الصلابة والموقف، والأدبية على مستوى الإبداع فى المجالين السردى والنقدى، لأهم كاتبات الجيل السابق، وأبرز رموزه الفكرية والأدبية على السواء: الدكتورة لطيفة الزيات. والواقع أننى عرفت رضوى عاشور منذ بدايات الرحلة مع الكتابة والفاعلية فى الواقع الثقافى، فقد شاركنا معا فى المؤتمر الشهير للأدباء الشبان الذى انعقد عام 1969، وتابعت أعمالها بالكتابة عنها منذ روايتها الأولى «حجر دافئ» وحتى روايتها الأخيرة «الطنطورية» التى كتبت عنها دراسة ضافية من ثمانية آلاف كلمة، بمعنى أننى لو جمعت ما كتبته عنها لملأ كتابا، لكنى أود أن أتوقف هنا عند تلك البنوة الفعلية والأدبية للطيفة الزيات، التى أكملت فيها رضوى عاشور طريقا مهما فى مسارات الثقافة المصرية، يكرس مجموعة من القيم الفكرية والضميرية التى أنفقت الزيات عمرها فى تكريسها، خصوصا أن الحظ أسعدنى أنا الآخر بأن تتلمذت فعلا على يدى الدكتورة لطيفة الزيات فى قاعة الدرس فى ستينيات القرن الماضى، وأدركت مدى سحر التأثير الفكرى والإنسانى الكبير لتلك الأستاذة على استقلالها الفكرى كالجمر. لكن رضوى كانت أسعد منى حظًا، فقد تتلمذت على يدى لطيفة الزيات لمدة أطول، وليس لعام واحد مثلى، ربما منذ أعلن رشاد رشدى، مهندس الانحطاط الثقافى، فى ما بعد فى عصر السادات، أنه لا يريد هذه البنت (أى رضوى عاشور) فى قسمه، على الرغم من أنها كانت الأولى على دفعتها، وتستحق التعيين فى القسم، فتركت له «البنت» الجمل بما حمل، وغادرت إلى جامعة عين شمس، حيث كانت لطيفة الزيات، وملأ هو القسم بمن كنا نسميهم وقتها بحملة حقيبة رشاد رشدى، فهل يُذكر اليوم منهم أحد؟ وهل ترك أى منهم أثرا يعادل عشر ما تركته رضوى عاشور فى الواقع الثقافى المصرى؟ التى اُغتصب حقها، وهى لا تزال فى مقتبل العمر، وللظلم وقع مضاعف فى بواكير الشباب وبداية الطريق. كانت لطيفة الزيات، ومنذ سنوات الطلب بالجامعة، عضوا فاعلا فى «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال»، التى لعبت دورا بارزا فى النضال السياسى فى مصر فى أربعينيات القرن الماضى، وزاوجت منذ ذلك الوقت المبكر بين دورها الفكرى ودورها السياسى. وواصلت تلك الرحلة، التى تتطلب جهدا مضاعفا فى القيام بدور المدرس فى الجامعة، والمناضل السياسى فى الواقع المصرى الأعرض، الذى كان دوما فى مسيس الحاجة إلى نخبة لا تساوم ولا يتم احتواؤها، وإلى الكاتب صاحب المواقف الضميرية والمبدئية، ومَن يتأمل الدور الذى لعبته رضوى عاشور فى نفس تلك المجالات التى أسهمت فيها جميعا أستاذتها الكبيرة البديعة، يجد أنها استطاعت أن ترسخ هذا المسار، وأن تبدع فيه وتضيف إليه. خصوصا أنها عاشت ومارست دورها السياسى والجامعى والثقافى وحتى الإبداعى، فى ظروف يمكن القول بأنها أسوأ كثيرا من تلك التى لعبت فيها لطيفة الزيات نفس الأدوار، وقد انفض كثيرون عن طريق الحق وخير الوطن واستقلال الرأى والفكر، لكنها لم تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه، بل واصلت المضى فيه فأضافت وأبدعت. فقد كانت رضوى عاشور عضوا فاعلا فى «لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية»، التى شكلتها لطيفة الزيات ورأستها منذ اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، وهى اللجنة التى لعبت دورا مؤثرا فى الإجهاز على كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيونى فى الثقافة، رغم تمدده السرطانى فى مجال الأعمال بين الخونة من ناهبى ثروات مصر، كما أسهمت فى تأسيس «اللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية فى الجامعات المصرية»، التى شكلت حائط صد دون تغلغل العدو الصهيونى فى الجامعات، ثم واصلت هذا الدور النضالى فى لجنة «9 مارس لاستقلال الجامعة»، رغم ما عانته بسببها من عنت الأمن، وقبلها فى روايتها «أطياف» التى كشفت فيها عن مدى تردى الجامعة وتغلغل الفساد فيها. وأضافت إلى هذا الجانب النضالى دورا مهما فى إرهاف الوعى بشتى أوجه القضية الفلسطينية على صعيدى الدرس «الطريق إلى الخيمة الأخرى» أو الإبداع فى روايتها الكبيرة «الطنطورية». أما دورها كأستاذة مرموقة فى الجامعة فلا شك عندى أنها واصلت فيه دور لطيفة الزيات وتجاوزته، حيث أعرف شخصيا كيف استخدمت ثقلها الفكرى ومكانتها الأدبية فى خلق فرص لطلابها النابهين، ما كان لها أن تتحقق دونها، رغم محدودية إمكانيات الابتعاث للخارج فى ما يعرف بالقناة، للدرس على أيدى أبرز أعلام النقد الإنجليزى الحديث فى كبريات الجامعات الغربية من أمثال إدوار سعيد وتيرى إيجيلتون. لكن الدور الكبير الذى واصلت فيه طريق أستاذتها الكبيرة وتفوقت عليها فيه كان هو الإبداع، فعلى العكس من لطيفة الزيات التى خلفت لنا رواية واحدة مهمة «الباب المفتوح» ومجموعة قصصية «الشيخوخة» وسيرة «حملة تفتيش: أوراق شخصية» تركت لنا رضوى عاشور عديدًا من الروايات البديعة التى جعلتها واحدة من أهم علامات هذه الرواية فى العقود الأربعة الأخيرة، إن لم تكن أهمها جميعًا فى مجال الرواية التى كتبتها المرأة: بدءا من «حجر دافئ» و«خديجة وسوسن» و«ثلاثية غرناطة» و«سراج» و«أطياف» و«فرج» و«قطعة من أوروبا» وحتى «الطنطورية»، وبدلا من المجموعة القصصية اليتيمة للزيات تركت لنا رضوى مجموعتين: «رأيت النخيل» و«تقارير السيدة راء»، وبدلا من السيرة الذاتية الوحيدة تركت لنا رضوى ثلاثا: «الرحلة: مذكرات طالبة مصرية فى أمريكا» و«أثقل من رضوى» وهناك عمل ثالث فى الطريق. لم تستوحش رضوى طريق الحق لقلة سالكيه، وواصلت الحفاظ على استقلالها والنأى بنفسها عن أوحال الحظيرة التى كانت ولا تزال معمورة بكلاب الحراسة، لذلك كان طبيعيا أن ترحل رضوى دون أن تحصل على أى جائزة من جوائز الدولة الفاسدة، التى توزع على التابعين، فهى ليست فى حاجة إلى رأسمال المؤسسة الرمزى المغشوش، لأن رأسمالها الأدبى والفكرى كبير، وسيظل كبيرا وفاعلا، حينما تنحسر الأضواء عن كل الخبث المرصع بجوائز الدولة.