تعبر الهوية المعمارية تعبيرًا حيًا وصادقًا عن ثقافة المجتمعات، فهي الترجمان الصادق لطابع المجتمع في أبعاده المادية والروحية، وهي تذكير دائم وحلقة وصل بين المراحل الكبرى للتطور في ثقافة الشخصية الوطنية، وهي ليست مرادفًا للعمارة التراثية بل إن التراث ما هو إلا عاملا مؤثرا فيها، فالهوية المعمارية تترجم الهوية الثقافية للمجتمع في سياق تفاعلها الإنساني والحضاري عبر الأزمنة المختلفة، فما تتضمنه الهوية المعمارية ماهو إلا تعبيرعن الوعي بالهوية الثقافية وفهم المجتمع وانتمائه لهويته الوطنية،أما العمارة ضبابية الملامح فلا تعكس إلا تشوشًا في صياغة ملامح الهوية الثقافية الوطنية. الهوية تُعرَّف بأنها سمات خاصة يمكن من خلالها تمييز شخص عن آخر أو جماعة عن أخرى أو ثقافة عن أخرى ..وهي الخصوصية الثقافية التي تنمي الإحساس بالذات وتفعل الأنا وتحدد الشخصية الحضارية وتؤكد موقعها في الحضارة العالمية.. فهي باختصار الإجابة على سؤال من أكون . والهوية مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصفاه التي تسمح بتعريف خاص للشخصية الوطنية ،وطالما أنها مركب من عناصر فهي ضرورة متغيرة في الوقت ذاته الذي تتميز فيه بثبات معين، وهي ليست كتابًا يُعطَى دفعة واحدة وإلى الأبد إنما هي حقيقة تولد وتنمو وتتكون وتتغاير وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب . . أما الهوية المعمارية فهي التفرد والتميز المعماري لمجتمع ما، ويأتي هذا التفرد من العوامل المحيطة بهذا المجتمع من عوامل سياسية واقتصادية وبيئية واجتماعية وثقافية، ولا يمكننا التطرق للهوية المعمارية دون أن يصبح الحديث عن الهوية الثقافية الوطنية شيئا محوريًا ،لأن تشكيل الهوية الثقافية يؤثر بشكل لافت على الهوية المعمارية التي بدورها تعبر بشكل حيّ عن ثقافة المجتمعات وتعتبر انعكاسا اصيلا وترجمة حقيقية لطبيعة المجتمع وتقاليده بأبعاده الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية والتاريخية ، فالعمارة كما يراها مارتن لوثر هى سجل لعقائد المجتمعات والشعوب ويقول عنها فيكتور هوجو هى المرآة التى تنعكس عليها ثقافات الشعوب ونهضتها وتطورها ومعنى ذلك أن العمارة هى صورة للمجتمع .
عرب أم فراعنة ؟ طراز فرعوني أم طراز إسلامي ؟ سجال لم ينته منذ عقود ولكن يتجلى منه ربط الهوية المعمارية بهوية الشخصية الوطنية مع فوضى في استخدام المصطلحات. وربما لو دققنا في معنى المصطلح وأعدنا صياغة السؤال لظهرت الإجابة تلقائيًا، يجب أولا أن نحدد ما المقصود بكلمة عرب هل المقصود أن بعدنا الحضاري يرجع أصوله إلى شبه الجزيرة العربية واليمن تحديدًا أي عرب بالمعنى الإثني للكلمة أم المقصود أننا شعب يتحدث اللغة العربية .ردًا على الفرضية الأولى يكفى أن أذكر أن تاريخ بناء سد مأرب الذي نزحت على إثر انهياره القبائل اليمنية إلى مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية كان في القرن السابع قبل الميلاد أي بعد بناء أهرامات الجيزة بحوالى ثمانية عشر قرنًا، فقد بُنيت الأهرامات في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد . لذا لا يمكن أن نكون عربا من المنظور العرقي للكلمة ،أما اذا كان المقصود أننا عرب من زاوية اننا شعبٌ يتحدث العربية لجاز لنا أن نقول على الشعب الجزائري فرنسيين أو أن نَصف الشعب الاسترالي بالإنجليز . عندما دخل عمرو ابن العاص مصر لم ينتقل من الحضارة العربية سواء من الثقافة أو العمارة أو العمران سوى اللغة التي دخلت مع دخول الاسلام فاقترانها كان بالدين وليس تأثرًا بالثقافة العربية التي لم تنتقل أصلا حتى يومنا هذا ،فالأدق أن نقول أننا مصريون نتحدث اللغة العربية وبما أن عمرو بن العاص لم يأت بشعب إسلامي إستوطن مصر بل إن المصريين هم من اعتنقوا الدين الإسلامي فنحن «مصريون» نتحدث اللغة العربية ويتخذ معظمنا الدين الاسلامي ديانة، وقد تعرض الأديب السوداني عبد العزيز بركة ساكن لتلك الجدلية في روايته مخيلة الخندريس حين عرف نفسه قائلاً أنه ليس كاتباً عربياً بل كاتب سوداني يكتب بالعربية. أما كوننا فراعنة ففي حقيقة الأمر أن الفراعنة هي طبقة الحكم وصاحبة الديانة فالفرعون يشابه القيصر في الحضارة الرومانية والتي لم نسمع قط أنها تدعى الحضارة القيصرية ولذلك فإن حضارة مصر القديمة يمكن أن تسمى الحضارة المصرية ذات المعتقد الفرعوني . أما فيما يتعلق بالطرز فيبدو الخلط واضحا بين الطراز والطابع 'فالطراز المعماري له محددات وعناصر وقدر من الفردات التي لا يمكن الخروج عنها ،فهناك طرز فرعونية مختلفة ،فطراز معبد زوسر يختلف عن طراز معبد الكرنك والإثنان يختلفان كليا عن طراز معبد حتشبسوت ،ولكن كل هذه الطرز تحمل الطابع الفرعوني لاعتمادها على مفردات متشابهة واذا افترضنا أن هناك ما يسمى بالطراز الإسلامي لوجدنا المساجد في كل أنحاء العالم الإسلامي تحمل نفس الطراز وهذا غير صحيح فهم مشتركون كونهم مبان دينية إسلامية لكن المفردات المتباينة لكل منهم مستمدة من الموروث الحضاري للمكان، فهناك طراز مملوكي وطراز أيوبي وطراز فاطمي جميعهم يحمل الطابع الإسلامي المستمد من بعض العناصر والمفردات ،فالمفردات المعمارية هي التي تخلق الطابع في إطار الطراز .
التراث والتقليد الفرق بين التراث والتقليد أن التراث ماهو إلا تقليد لم يعد مستخدما سواء كان حرفة أو لغة أو نمط من أنماط الحياة فعندما يموت التقليد يصبح تراثًا لذا لا نستطيع أن نقول إحياء العمارة الفرعونية ولكن إحياء الطابع الفرعوني، والسؤال المطروح فيما يخص الهوية الحالية ما الذي سنستحضره من الموروث والذي سوف نحافظ عليه من التقليد وهل التقليد يتعارض أم يتماشى مع احتياجاتنا العصرية ؟ يمكن أن نستعيد من الموروث ملامح في صورة مفردات نغذي بها الطرز الحديثة المتلائمة مع احتياجاتنا العصرية فأضيف لكل ما هو عصري بعدا حضاريا فيما يعرف ببصمة الهوية، يقول بوراسا «إن هويات الجماعات الثقافية يمكن تحقيقها رمزيًا فلا توجد ثقافة دون نظام للرموز لتمثيل هذه الثقافة، والثقافة لا تسعى إلى تأكيد فقط في الأشكال الرمزية لكنها تسعى للحفاظ على نفسها عبر هذه الأشكال «.ففطرة الانسان مبنية على بناء علاقات قوية مع ما يحيط به من أشكال فكلما كان الشكل معبرًا عن الشخص أي مرتبطًا بمعتقداته وقيمه وأعرافه كلما أصبح جزءا من الذاكرة الجماعية المحلية وأصبح قادرا على الاستمرار عبر الزمن .وهذا يفسر لنا أن المعابد التي شُيدت في مصر على الطراز البطلمي وهو مزيج مابين الحضارة الإغريقية والحضارة المصرية لم تتكرر أو تستمر لأنها مفتعلة ولا تعبر حقيقة عن هوية المصريين . عندما دخل المسلمون مصر وجدوا الطرز الفرعونية المختلفة والطراز البطلمي ونوعين من العمارة المسيحية (فجر المسيحية والقسطنطينية ) ، أخذوا القبة من الطراز القسطنطيني والأعمدة من الطرز الفرعونية والرومانية وفكرة المأذنة من أبراج الكنائس ،لكن الفنان المصري المسلم عبر عن الإسلام بثقافته المصرية ، فعلى سبيل المثال لا الحصر قد دأب المصري على زخرفة جدران المعابد ولم يتنازل عن هذه الثقافة بسبب تحريم الاسلام للتصوير لكنه استبدلها بالزخارف الهندسية والتحورات النباتية والخط وأبدع فيهم بشكل استثنائي، فقد أوجد لنفسه نظما ومفردات تتماشى مع كونه مسلما «مصريا». لذا كانت أكثر الطرز استمرارا في مصر هو الطراز المملوكي لأنه اعتمد بنسبة عالية على الموروث الثقافي المصري، وللسبب المقابل لم يتكرر نمط جامع محمد على في مصر لأنه منقول من جامع آيا صوفيا (كنيسة آيا صوفيا سابقا) التي تعد من أبرز الأمثلة على العمارة البيزنطية والزخرفة العثمانية، وكذلك مأذنة أحمد ابن طولون المأخوذ من ملوية سامراء في العراق لأن كليهما ليس له علاقة بالثقافة المصرية رغم أنهما مبان إسلامية . فقد أثر التراث الفرعوني في الثقافة الإسلامية وانعكس هذا التأثير في الشخصية المعمارية الإسلامية ، ونجد ذلك واضحًا في العمارة الحربية فأسوار بوابات القاهرة تشبه إلى حد بعيد صرح المعبد الفرعوني، فما تم إنتاجه من مبان في العصور الإسلامية كانت مقبولة على مستوى الثقافة المصرية، ربما لتشابه المضمون الإسلامي مع المعتقد الفرعوني ففكرة الحياة الأخرى والحساب والثواب والعقاب كلها أفكار متأصلة عند المصريين كما أن فكرة التوحيد لم تكن غريبة عليهم فقد اعتنقوها في عهد امنحوتب الرابع ، فالمعتقدات الرئيسية لم تكن مختلفة بل إن مفهوم التساوي وهو أحد الاختلافات الجوهرية قد أضاف شعورا بالرضى من العامة بتساويهم مع الفرعون أو الحاكم أو أيا كانت السلطة ، وانتقالا إلى مردود التغير عمرانيا ومعماريا، تقافيا وتعبيريا، فإن الحضارة المصرية وقت إزدهار الدولة الإسلامية في العالم سواء كانت مصر دولة مستقلة تماما في فترات انفصالها عن الخلافة العباسية أو في فترات وجود دول قوية بعد الحروب كالدولة المملوكية والأيوبية أو حتى في فترات وجود الخلافة في مصر كالدولة الفاطمية، كانت تلك الحضارة هي حضارة مصرية خالصة اختلفت تماما عن حضارات الدول الإسلامية الأخرى فمثلا العمارة الإسلامية في إيران تعبر عن حضارة فارسية خالصة تتشابه فيها العناصر المعمارية وتختلف مفردات التعبير، تختلف النسب وبالتالي تختلف الصورة تماما، لذا فبيت القصيد هو أن شكل العمارة وشكل العمران، صورة الحضارة تغيرت في مصر فقط عند تغير المعتقد لكن كلا الحضارتين قد بنيت بسواعد مصرية وبفكر مصري، ولأن الدولة المصرية القديمة كانت كهنوتية فإن الغوص في بحور العقيدة وتسخير وسائل التعبير في خدمة العقيدة كان من مهارات الشعب المصري على اختلاف مستوياته الفكرية، فبدلا من استخدام المسلة كرمز للانتقال من الأرض للسماء ظهرت المأذنة كوسلية نشر الدعوة للصلاة من أعلى لأسفل وجاءت عرائس المسجد لتشير إلى تعشيق الأرض بالسماء تلك هي العقلية المصرية، فما وجده المصريون من اختلافات جعلهم يخلقون صيغة مناسبة يحافظون بها على ثقافتهم الموروثة في ظل معطيات الدين الجديد، فالمصريون استطاعوا تغيير التفصيلة باستخدام نفس القماش لكنهم لم يستبدلوه بقماش آخر.
قاهرة الخديوي مع دخول مصر تحت مظلة الدولة العثمانية في بدايات القرن السادس عشر ،لم تقل أهمية المعتقد أو هيمنته في تشكيل الهوية الثقافية المصرية ، لكن كانت السلطة العليا ( الباب العالي) تنظر إلى مصر كمصدر للثروات والمهارات متجاهلة تماما موروث مصر الثقافي، فمرت البلاد بعدة قرون من الخفوت كحضارة مؤثرة في المنطقة والعالم حتي بدأت مرحلة جديدة من التغيير مع بداية القرن التاسع عشر تزامنًا مع تولى محمد على الكبير حكم مصر وتعد تلك المرحلة من أهم المراحل الانتقالية في تاريخ الشخصية المصرية ، فقد بدأ بتغيير المؤسسة المهيمنة من المؤسسة الدينية إلى المؤسسة العسكرية وكان هذا أول تحول وبعد أقل من نصف قرن استطاعت أسرة محمد على تغييرالدور التاريخي لمصر منذ فجر التاريخ، فدائما وأبدا كانت مصر مصدرا للضوء في جميع المجالات حتى تحولت مع فكرة التحديث إلى لعب دور المتلقي المظلم وهذا التغيير هو الذي أوجد ما يعرف بقاهرة الخديوي والتي تعتبر ترجمة للتغيير الذي أصاب الشخصية المصرية لأن هذه المرة تم استيراد ثقافة بجنباتها من سلوك ولغة ووسائل تعبير ربما لم تمتد وتتوسع لكنها وُجدت ولا يمكن تجاهل تأثيرها في المسار الزمني للشخصية المصرية ويعتبر هذا هو التحول الثاني .
باريس الشرق وسط البلد ،مركز المدينة ،تخطيط شعاعي ،باريس الشرق ..هكذا كان حلم الخديوي اسماعيل في أن تصبح القاهرةباريس الشرق ، وهنا فتحت البلاد أبوابا على مصراعيها للثقافة الأوروبية الطعام ،الملابس،الأدب وأخيرا العمارة حيث وُجدت في القاهرة في مركز المدينة تقريبا كافة الطرز ومدارس التعبير التي كانت موجودة في أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر والتي لم تؤثر فقط على مركز المدينة ولكن على المناطق المحيطة بها أيضا، وأعطت نواة للعمارة والعمران ساعدت على أن تواكب العمارة المصرية العمارة الأوروبية، وبرغم أن كتاب «باريس على النيل « يصف هذه الفترة أنها أكثر فترات مصر ثراءا في العمارة والعمران إلا أني أرى أن استيراد مفردات كاملة لثقافة ما لا يدل إلا على فقدان ملامح الهوية الثقافية الوطنية . إن «المصريّ» لم يكن يوما مشوشا فيما يخص ملامح هويته الثقافية ،وكان خير من عبر عنها في الفنون المختلفة ولا سيما العمارة التي رصدت كيف يعنى المصري بالمحافظة على هويته الثقافية عن طريق تطويعها لتتناسب مع المعطيات المتجددة دوما ضمن مراحل التطور المختلفة والعصور المتباينة التي مرت عليه ، فهو لم يطمسها ولم يستبدلها وكانت هي الأصل الذي صاغه بما يلائم ما يتأثر به من حديث وما يطرأ على ثقافته من وارد يتبناه ليفرز لنا منتجا «مصريا» في ثوب يناسب عصره ، وقد أدهشنا هذا المصري بقدرته على لفظ كل ما لا يعبر عنه أو يمثله وإن كان بديعا ، وحساسيته تجاه كل ما هو مفتعل بفعل ظروف سياسية لأنظمة حكم مختلفة توالت عليه فلم يعلق بذاكرته إلا كل ما شعر أنه يشبه ملامحه، فكانت هويته الثقافية مُعَرَّفة وواضحة صاغها بأشكال مختلفة تعبيرا عن تفاعلها الإنساني والحضاري. أما ما نراه الآن هو حالة من الفوضى المعمارية و دليل واضح على فقدان ملامح ومحددات الشخصية الثقافية الوطنية، فأصبحت المدينة خلفية لصورة هوية لم تحدد بعد ،وأصبحت العمارة صماء فاقدة لكل وسائل تفاعلها مع المستخدم ،يجب أن نبدأ في تحديد الملامح الثقافية للشخصية المصرية من هى الآن وما الذي يعبر عنها ، ما هي نسبة الموروث داخلها وما هو قدر المدخل من الثقافات الغربية، ماهى رسالة الدولة التي يجب أن تنعكس في مبانيها الحكومية ، يجب أن نحدد الإجابات على كل تلك الأسئلة قبل البدء في أية مشروعات عمرانية جديدة حتي لا نصيب الشخصية المصرية بمزيد من التشوه وفقدان الملامح الذي حتما سينعكس على الحياة الاجتماعية من سلوك فوضوي ويؤثر على الحالة الشعورية فيفرز فنا عبثيا مشوها فاقدا للرؤية والهدف والرسالة ، إن الفوضى العمرانية كما تبدو عشوائية الاتجاه والطابع إلا أنها خلفية محايدة لأي توجه واضح تتبنى فيه الدولة نموذجا يعبر عن شخصيتها ويؤمن بتلك الشخصية المبدعون فيعبروا عنها إبداعياً فتعبر الموسيقى عما يعبر عنه الفن التشكيلي وتعكس العمارة مخلوط الفن كتعبير شعوري والتصميم كتعبير فكري تلك الشخصية، فلم يفت الآوان بعد لقيام الدولة بتحديد رسالتها ولم ينضب العقل المصري بعد عن ضخ منتجه الإبداعي والعصري.