تأكيد المؤكد و التدليل علي ما هو واضح وضوح الشمس وملموس و محسوس.. إحساس أكاد أجزم بأنه ينتاب معظمنا كلما استوجب الأمر الحديث عن وحدة الدم و المصير والتاريخ التي صنعت البوتقة التي انصهر فيها أقباط مصر مسيحيين كانوا أو مسلمين ليصنعوا نسيجا مصريا فريدا. جسد البناء الأخلاقي و الروحي الذي آمن به أجدادنا وجعلوه دستورا لحياتهم الدنيوية وفي الآخرة, فكان السر الذي لخصه هنري بريستد في مؤلفه الشهير فجر الضمير و أشار إليه كثيرون ممن استطلعوا معالم حضارة مازالت البشرية تقف مشدوهة أمامها, وكان و مازال وقودا لجذوة تتأجج في صدورنا كلما تعرضت مصر للمحن. ولكن لأن التاريخ يروي بعض الأحداث الطائفية التي وقعت علي خلفية نقص الوعي وتعصب يحاول اليوم البعض استثماره, ولأننا اليوم في لحظة نكون فيها أو لا نكون, فمع إشراقة صباح ميلاد السيد المسيح عليه السلام نقرأ سطورا و نستعيد حكايات تتداعي عبر مراياها بعض ملامح الثقافة القبطية القديمة و علاقتها بالتراث المصري الفرعوني والتراث الإسلامي.نحاول أن نستنطق الأحجار وما بين سطور الأوراق لاستعادة ذاكرة المكان وسيرة البشر و كيف حفظ التراث المصري علي مر العصور رؤي جمعت بين القدسي و الأرضي, وجاوزت الدنيوي المحدود إلي المطلق اللانهائي.. نطالع صورا وسطورا من التراث القبطي علي أرض مصر في محاولة لاستقراء تفاعل هذا التراث الثري مؤثرا ومتأثرا بالواقع الثقافي المصري. يقول جمال حمدان في كتابه شخصية مصر كانت مصر طرفا دائما في قصة التوحيد بفصولها الثلاثة, فكانت لموسي قاعدة ومنطلقا, ولعيسي ملجأ وملاذا, بينما كانت مع النبي محمد هدية ونسبا.. وتروي المأثورات أن العائلة المقدسة في رحلتها لصعيد مصر حلت بمسطرد و المطرية وأن المكان الذي تشغله كنيسة العذراء علي نيل المعادي أقامت فيه السيدة العذراء والسيد المسيح إلي أن حملتها مياه النيل إلي جنوب الوادي.و تتواتر روايات حول البئر التي تقع في الركن الجنوبي من الكنيسة, إذ يقال إن ماءها روي عطش العائلة المقدسة و تنسب إليها قدرات أشبه بالمعجزات. وفي لفافات عتيقة تطالعنا سطور عن أثر مدرسة الإسكندرية التي هيأت للمسيحيين الأوائل سبل التوفيق بين عقيدتهم المسيحية وخلفيتهم الثقافية المصرية, فظهرت الكنيسة القبطية المصرية بما لها من مكانة روحية وتاريخية وكان نظام الرهبنة الذي نشأ في صحاري مصر هدية مصرية خالصة إلي التراث العقائدي العالمي. و تشير دراسات الفلكلور إلي أن المعتقد الشعبي المصري يحمل في طياته مزيجا من التسامح و الحب الممزوج بمورثات المصريين القدماء وأن المصريين المحدثين لا يزالون يمارسون هذه الموروثات تارة باسم الإسلام و أخري باسم المسيحية وأن بسطاء المصريين يحتفلون معا بالموالد والأولياء والقديسين وأن الوجدان الشعبي تجاوز كل المتناقضات وخلق حالة من التسامح الديني ليحتفل ويتبرك المسيحيون والمسلمون بنفس القديسين والعارفين بالله. و يوضح عصام ستاتي في كتابه مقدمة في الفلكلور القبطي أن البحث في الفلكلور القبطي إنما هو بحث في الهوية المصرية في مكوناتها الإنسانية والمعرفية و عنصر الاستمرارية والتواصل في الوجدان الشعبي المصري الذي رد بعض الكلمات العامية أو العربية لأصولها المصرية القديمة,وحفظ لمسيحيي و مسلمي مصر علاقة أبعد ما تكون عن التعصب والتطرف من خلال أمثلة التبرك بالأولياء والقديسين وعمل البناء المصري المسلم في بناء وترميم الكنائس واحتفاء المصريين بالأعياد وامتزاج كلمتي كيرا ليسيون بالله أكبر عند مواجهة مصر للمحن. وفي كتاب مصر في الحقبة المسيحية الفن والآثار القبطية عبر ألفيتين و من خلال استعراض ماسيمو كابواني و اوتومينا رودس و ماري راتشو سكايا وجودت جبرة تطالع نماذج الفن القبطي في رسوم الجدران و الرسوم الملونة علي الخشب والأيقونات ونقوش المخطوطات والمنسوجات وتصميم وبناء الأديرة و الكنائس وتقسيم الكنائس لنوعين حضرية وديرية: إن مصر القبطية التي اعتنق في مرحلة لاحقة غالبية أهلها الإسلام دينا واتخذوا العربية لغة ظلت محافظة علي طابعها القومي و سماتها الخاصة الموروثة من قدماء المصريين. فتوضح الدراسة أن كنائس ساحل البحر المتوسط و الدلتا تختلف عن كناس وادي النيل. ففي وادي النيل يتبع المعمار موروثا ثقافيا وفنيا محليا, في حين أن كنائس الساحل الشمالي والدلتا اقرب للفن و الثقافة البيزنطية. في السياق نفسه يكشف الباحث محمد إسماعيل حسين في دراسته عن عمارة الكنائس و الأديرة في العصر الإسلامي ظاهرة تماثل العناصر المعمارية و الزخرفية المستخدمة في دور العبادة في العصرين الفاطمي و العثماني مثل كنيسة ابانوب في سمنود, حيث استعارت طراز القباب التي ميزت الخصائص المعمارية في العصر العثماني. ويدور الزمان و نقلب الصفحات لتطالعنا سطور عن الراهب المسيحي ورقة بن نوفل في بداية الوحي بالرسالة المحمدية وعن مساندة ملك الحبشة للمهاجرين المسلمين, وسطور صحيفة المدينةالمنورة واتفاقية النبي صلي الله عليه وسلم مع مسيحيي نجران ونصرة عمر بن الخطاب للقبطي المصري وترجمة المسيحيين للتراث اليوناني والروماني وإسهاماتهم في شتي العلوم كالطب والكيمياء والصيدلة والجغرافيا وغيرها من العلوم التي شكلت المكون الأساسي للحضارة الإسلامية العربية,وفشل محاولات المستعمرين علي مر العصور و حتي اللحظة في انتهاك حرمة الوطن من خلال بث الفتن بين أبناء مصر ومحاولات تحويل الأقباط من( ملة دينية) إلي أقلية دينية وسياسية, فكانت الذروة يوم تسامي قداسة البابا تواضروس وشعب الكنيسة المصرية عما حدث في صعيد مصر من تدمير لكنائس يذكر فيها اسم الله, لتبقي مصر أمة واحدة ووطنا للجميع. سطور و حكايات حفظتها خزانة الوعي المصري مثلما حفظت سر مصر وصوت ضميرها الهادر وقت المحن لك يا مصر السلام..فالدين لله و الوطن للجميع...