هو أحد نجوم شهر مصر القديس، وأعنى به (نوفمبر)، ولما سألنى- مطلع التسعينيات- خلال جلسة جمعتنا بمكتبه الصغير فى مبنى وزارة الخارجية القديم: لماذا تسميه (القديس)؟.. أجبته من فورى متضاحكا «لأنه شهر ميلاد كل منا!!، أنا فى الرابع من ذلك الشهر، وأنت فى الرابع عشر يا دكتور بطرس». وبالمناسبة.. ورغم احترامى ومحبتى وصلاتى الوثيقة بعدد كبير من كوادر وزارة الخارجية المنتمين لأجيال مختلفة، ورغم معرفتى بانتساب الكثيرين منهم إلى أصول عائلية عريقة وارستقراطية، فلم يك مبنى الوزارة القديم فى التحرير يذكرنى إلا بالدكتور بطرس غالى الذى خلته- دائما – شقفة من جدران القصر وسقوفه ومعماره، وطقسه، وزحام ما شهده من وقائع وأحداث. كان قصر الأميرة نعمة الله ابنة الخديو توفيق، وزوجة ابن السلطان حسين كامل شقيق الملك فؤاد الأول – يبدو كأنه (الموطن الاصلى) للدكتور بطرس، أو (المحمية الطبيعية) التى تخندق فيها ليأمن عصف اغارات اجتماعية جاهلة فهمت مشروع التغيير الثورى فى 1952، على أنه إطاحة لكل ما شيد أو كل من عاش قبله.. وهو ما يتكرر- الآن – ربما بطرق أكثر شراسة وجهلا فى سياق زمنى آخر بدأ مع يناير 2011. لم تتقاطع إيحاءات والهامات قصر نعمة الله مع حضور الدكتور بطرس، إلا فى جزء يسير من سيرة صاحبة المبنى، وهو صوفيتها وزهدها اللذين دفعاها نحو هجرة قصرها إلى بناء صغير مجاور عاشت فيه أياما من الزهد والتقشف فيما أهدت القصر إلى وزارة الخارجية عام 1930 وقتما كان بطرس فى الثامنة من عمره. ورغم أن مكتب د. بطرس فى ذلك المبنى كان صغيرا (محندقا)، إلا أننى شعرت وكأن انطونيو لوشياك مصمم المبنى الفريد قد شيده لأجل بطرس غالى بطرزه وزخارفه المستوحاة من مبانى البندقية فى عصر النهضة، والذى- لعبقرية تصميمه مع مبان أخرى مثل قصر المنتزه وعمارة ساويرس وقصر الأمير يوسف كمال بالمطرية ومبنى بنك مصر فى شارع محمد فريد- حصل على الباكوية وصار عام 1907 كبير مهندسى القصور الملكية، وقد كتبت عن ذلك المعمارى الرائع والشهير جدا فى أوروبا، ضمن سلسلة مقالاتى التى عنونتها: (الشوارعيزم) وبالذات ما كنت أطالب فيه عام 2008 بإحياء وترميم مبانى القاهرة الخديوية، وهو ما بدأ اليوم، وأتضرع إلى الله أن يحدث على نحو علمى وفنى رفيع يناسب القيمة الأثرية والمعمارية لمبانى وسط القاهرة، فالموضوع ليس تلطيش المبانى بالبوية أو طمس تفاصيلها عبر تسييد ثقافة عمال غير متخصصين، أو دهان واجهة على الشارع العمومى وإهمال باقى الواجهات، أو العناية بخارج المبانى دون علاج خراب مرافقها فى الداخل. نهايته.. على الرغم من أننى أجريت الكثير من الحوارات مع الدكتور بطرس صحفيا وتليفزيونيا فى سياقات تنوعت بحسب المواقع الوظيفية التى شغلها، أو الملفات التى تولى مسئوليتها فإن حوارا – بالذات – جمعنى به عام 1992 شعرت أنه الأقرب إلى قلبى وهو ما أشرت خلاله إلى ما ورد فى استفتاح هذه السطور عن شهر مصر القديس. إذ فى ذلك الحوار سعيت إلى (تفكيك) الظاهرة الثقافية فى عقل ونفس هذا السياسى العريق – بعبارة أخرى – رحت أبحر فى لجة الفنان والأديب الذى جزمت بأنه يسكن نفس هذا الرجل من خلال مراقبتى له، وانصاتى إلى كلماته وتأملى لزوايا اقتراباته من الأشياء، ولسنوات طويلة. قررت أن اقتحمه من اللحظة الأولى بكلام يعبر المداخل السياسية التقليدية ، ويوغل – مباشرة – فى حديث ذى فنون! رحت اتأمل القطع الفنية التى رصعت جدران مكتبه أو استقرت على منضدة هنا أو هناك، متسائلا عنها، جائلا فى فراغ الغرفة، فيما الرجل – بنصف دهشة وبكامل صبر كذلك – يجيبنى عما سألت عنه.. لوحة نسيجية لرمسيس الثانى فى موقعة قادش التى أعقبها توقيع أول (معاهدة سلام) فى التاريخ مع الحيثيين، ولوحة زيتية لسيد عبد الرسول، وتمثال افريقى بديع، ورسم كاريكاتورى قديم يصور الوفد المصرى الذى وقع اتفاقية «موننرو» عن المحاكم المختلطة فى مصر، وضم مصطفى باشا النحاس، وأحمد ماهر باشا. ووجدتنى أسأل د. بطرس: (هل تضحك لرسوم كاريكاتور تتناولك؟) فاجابنى: طبعا وعموما أميل للكاريكاتور عن الصورة الفوتوغرافية، وعاودت: (ماهى أكثر الرسوم الكاريكاتورية التى تناولتك وأضحكتك؟)، وسرح كمن يتذكر شيئا وقال: رسم لمصطفى حسين يصورنى مع إلياهو بن أليسار- أول سفير اسرائيلى فى القاهرة- وكان يواجه إشكالات فى الحصول على مبنى لتشغله السفارة، وجعلنى الرسام أخاطب أليسار قائلا: «مستعدين نساعدك بس بشرط ما تحولش المبنى إلى مستوطنة»!! ربما أعد هذا المدخل بيئة صديقة لإجراء حوار مع د. بطرس عن الفنون، وهو ما وجدتنى – منذ اللحظة الأولى – أسير فكرة حاكمة فيه هى عناق الثقافتين الفرانكفونية والعربية وأثره فى تشكيل دماغ هذا المفكر، وهو- ربما – ما حدثنى عنه مرة مشيرا إلى خلطة العوامل التى صاغت وجدانه وعقله والتى انقسمت بين (عربية) و(فرنسية)، وكيف أن أهله استقدموا شيخا من الأزهر ليعلمه أصول اللغة العربية وليشكل معادلا موضوعيا مع تأثير مربيته الفرنسية، وقال لى د. بطرس عن تلك المسألة: «ربما بسبب ازدواجية التأثير هذه حرصت على اجتياز امتحانى البكالوريا المصرية والبكالوريا الفرنسية فى نفس الوقت، ومازلت اشعر أن كتابتى بالعربية فيها بعض التركيب والإيقاع الفرنسى، كما أن كتابتى بالفرنسية فيها تأثير السجع العربى والجمل الطويلة». وبالقطع فإن ذلك الخليط- فى الحالات العادية – كان سيؤدى إلى خفوت منطق (عروبة مصر) فى خطاب أى مثقف، ولكنه فى حالة بطرس غالى – بالذات – حرضه على التشدد فى تبنى مسألة (العروبة) التى يحاول البعض إنكارها عليه، اتكاء على معرفتهم بتلك الثأثيرات الفرنسية عليه. وفى حواره معى وحين سألته عن نوع الحوارات التى جمعت بينه – وقتما كان رئيسا لتحرير (الأهرام الاقتصادى) ثم رئيسا لتحرير (السياسة الدولية)- وبين كوكبة الأدباء والمثقفين الكبار الذين كانوا يُعرفون باسم: (مجلس الحكماء) فى الأهرام، وما إذا كانت تلك الحوارات تعرضت لموضوع (العروبة) أجابنى: «كان أكثر حواراتى مع توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزى، وكانت أقل مع إحسان عبد القدوس.. ولقد شهدت مشاجرات فكرية مثيرة بين الكاتب اللبنانى حسن صعب وهو من أنصار العروبة، وبين حسين فوزى الذى يعد من خصومها، واذكر اننى كتبت مقالا فى صحيفة الجمهورية عام 1957 عن (عروبة مصر) فهاجمنى المعمارى الشهير حسن فتحى، وقال اننى اكتب كلاما فارغا – فقط – لأرضى عبد الناصر، وقلت له اننى اكتب ما أؤمن به، ولم يقتنع لأنه رأى تضادا بين هذه الفكرة ومنابعى الثقافية التى يعرفها.. بالنسبة لعروبة مصر، كان حسن فتحى مثل الدكتور حسين فوزى، وتوفيق الحكيم، إلا أن الحكيم كان يخفى آرائه!» وأضاف: «هذه مدرسة تنظر إلى الشمال باعتبار أن ارتباطنا به هو الذى سيرتفع بفكرنا» وتوقفت – كثيرا – أمام ما ورد فى حديث د. بطرس عن اتهام حسن فتحى له بأنه يجارى عروبية عبد الناصر، وما ورد – كذلك- فى اتهامه لتوفيق الحكيم بأنه كان يخفى آراءه المناهضة لعروبة مصر، فسألته عن المدى الذى وصل إليه المثقف المصرى من القدرة على الاختلاف مع المشروع السياسى للنظام بعد إقرار التعددية السياسية، فقال صار التحرر من الالتزام الحديدى بخط الدولة حاضرا إلى حد كبير، بدليل ما نقرؤه من أدبيات التيارين اليسارى والاصولى، ومن خلال واجهات صحفية وإعلامية تصدر وتبث من مصر، ولكن الغلطة التى نقع فيها هى المقارنة بين الوضع الثقافى فى مصر ونظيره فى فرنسا أو انجلترا.. المقارنة لا تكون بدول لها تقاليد برلمانية عريقة وعتيقة عمرها خمسمائة عام، نحن دولة (افريقية- آسيوية) والمقارنة لا تكون إلا بيننا ودول العالم الثالث» وواصل د. بطرس: «لكى ندخل حوارا مع الآخر المتحضر لابد أن نمتلك أدوات تفهم مفراداته الثقافية وعلى رأسها اللغة.. ولقد ربطتنى حوارات عدة بألبير كامو أيام كنت طالبا فى باريس، وكنت استمع إليه أكثر مما أتكلم، وأتذكر – طويلا – ما كان يقوله عن أهمية ربط جنوب البحر المتوسط بشماله، ولعل كلامه أثار اهتمامى – فى البداية – كونى امثل الجنوب، وهو – أيضا – لأنه كان يعتبر نفسه جزائريا على الرغم من انه عاش فى فرنسا.. ولكن من تأثرت به – أكثر – فى ذلك السياق – كان مستشرقا فرنسيا اسمه (ماسينيون) الذى اصدر عدة مجلات وصحف فى مصر، وتم قبوله كعضو فى المجمع اللغوى المصرى، وتعودت رؤيته مرة كل أسبوع فى باريس، وكان ذهب إلى دمشق عام 1919 حيث مثل المكتب الفرنسى، بينما كان لورانس العرب يمثل المكتب الانجليزى». وقلت للدكتور بطرس: «كل ما ترويه لى فى إطار تجربتك الشخصية لا يعنى استحالة الحوار بين الشمال والجنوب، ولا يعنى أن نظل سجناء مربع العالم الثالث الذى ننتمى إليه» فعقب قائلا: ما قصدته هو ضرورة اكتساب أدوات الحوار مع الشمال، والتوقف عن الشكوى المتواصلة بأن الاستعمار يقف ضدنا ويمنع توحدنا أو بلوغ واستشراف عتبات تقدم حضارى حقيقى يمكننا من الحوار مع الدول المتقدمة.. لقد كانت تربطنى علاقة شخصية بأسرة الدكتور طه حسين، وزاملنى أولاده فى تمثيل اوبريتات باللغة الفرنسية، وتأثرت كثيرا بأسلوب عميد الأدب العربى وشهرته، وتمثلته – طويلا – وأنا اكتب أول مقال فى حياتى لمجلة اسمها الشعلة عام 1944 (وكان سنى 22 سنة)، وكنت عدت لتوى من رحلة إلى الخرطوم، بدأتها بالقطار إلى أسوان، ثم بالباخرة إلى وادى حلفا، وأخيرا بالقطار إلى الخرطوم، وصدمنى- كشاب – توقف خط السكك الحديدية عند حدود البلدين، غير اننى اليوم، وبعد ما يقرب من نصف قرن أجد أن خط السكك الحديدية لم يكتمل أو يتصل، مما يؤكد أن الاستعمار لم يك مسئولا عن هذا، ولكنها على اية حال بعض جوانب العقدة التآمرية المنتشرة فى الفكر والوجدان العربى». وقررت مواصلة المحاججة واللجاج حول الفكرة، فقلت للدكتور بطرس: «شعرت أنك رهنت تقدمنا بتطلعنا إلى الشمال مثل حسين فوزى ولويس عوض (جهرا) وتوفيق الحكيم (سرا)، ولكننى ألاحظ أن معظم الحاصلين على نوبل فى الآداب – خلال السنوات الأخيرة – كانوا من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكأن الشمال هو الذى ينظر إلى الجنوب». وعند ذلك التعليق، راح د. بطرس يسهب فى تقديم تفسير حرص على أن يجعله تفصيليا فقال: «هذه مسألة ليس لها تفسير، ولا أظن أنهم يكتشفون آداب أفريقيا وأمريكاالجنوبية لأن معاييرهم أوروبية محضة ومرهونة بالترجمة إلى اللغات الأوروبية.. مكثت عاما كاملا أترجم كتابا لهارولد لاسكى بعنوان (قواعد السياسة) ولكن عندما أردت تأليف كتاب (مدخل فى العلوم السياسية) عدت إلى مؤلفات الفارابى عن المدينة الفاضلة، واستعنت بما كتبه عبد الرحمن الكواكبى، ورجعت إلى المؤلفات التاريخية الهندية، وهى نصوص مهمة لم يفكر أحد فى ترجمتها إلى اللغات الأجنبية كما ترجمت – أنا – لاسكى.. قد يكون السبب هو الاستعمار الثقافى، أو قد يكون المبرر هو الإشعاع الحقيقى للثقافة الأوروبية علينا، وهو أمر جعل الدكتور طه حسين يكتب فى أخر صفحات مؤلفه (مستقبل الثقافة فى مصر) : انظر إلى أوروبا وآمل أن نصبح جزءا منها وأن يكون مستقبل الثقافة فى مصر مرتبطا بالثقافة الأوروبية.. وفكرة طه حسين هى – نفسها - التى راودت الخديو إسماعيل وجعلته يقول: أملى أن نكون جزءا من أوروبا.. كانت هذه هى النظرة الحاكمة حتى 1945، التى دفعت مصر ومثقفيها للاتجاه إلى أوروبا، فإذا بدأنا – بلغة الأدب- عملية (عودة الروح) كان ذلك متواكبا مع انقسام العالم إلى معسكرين بشكل فرض علينا العودة إلى مربعنا أو تراثنا». وفيما خلا د.طه حسين، وتوفيق الحكيم وحسين فوزى، وأحيانا إحسان عبد القدوس لم يذكر لى د. بطرس غالى سوى أسماء للمبدعين الأجانب، وبما فرض أن أحاكيه حديثا عنهم وبعض أقوالهم المأثورة الدالة. فقلت: «لابرويه» له كلمة شهيرة تقول: نوع من الخزى يعترينا كوننا سعداء وحولنا كل هذا البؤس.. فهل تعتقد أن الفن – عادة – يكون وليد المعاناة؟. وأجاب: «لا أظن أن الفن نتيجة للمعاناة.. لوچينى قال: العبقرية هى 95 فى المائة عمل، وخمسة فى المائة موهبة.. والأمر كما ترى مرهون بالمقدرة على العمل الدؤوب. وأوغلت فى تفاصيل أكبر عن علاقة الرجل بالفن، فقال: أنا ميال للمدرسة التأثيرية الفرنسية وفى الفنون التشكيلية اجدنى مشدودا إلى «جوجان» و»ماتييس»، وفى الأدب أحب «ألبير كادو» وفى الموسيقى «دى بوسيه» و»رافاييل»، وهى موسيقى لا تسطيع أن تقول إنها كلاسيكية بالمعنى المتعارف عليه، ولكنها «كلاسيك/ مودرنزيه». وسألته: العالم كله مشغول بالثرثرة حول الأديبة التى أصدرت جزءا ثانيا من رواية «ذهب مع الريح»، فما هى الرواية التى قرأتها ورأيت أنها تستحق جزءا ثانيا.. فاجابنى: قصة للأطفال لأنطوان دى سانت إجزبرى بعنوان (الأمير الصغير)، ورواية (الغريب) لألبير كادو، ومجموعة أعمال دستوڤيسكى. ودفعنى حديثه البديع إلى مقارنة رأيتها واجبة فى سياق الحوار وإطاره، بين الإبداع الفنى والإبداع السياسى فقلت له: إن إبداع الفنان يتم فى السكون، أما إبداع السياسى فيتم من الحركة وسط أنواء وعواصف واذكر أن ألفريددى موسيه قال: «تعود الا تخط شيئا على الرمال وقت مرور العاصفة»، فكيف يتغلب السياسى على مأزقه الابداعى هذا؟» فقال: السياسى يجب أن يعرف كم من الوقت ستستمر العاصفة، فإذا كانت العاصفة ستمكث مدة طويلة، يجب أن يعمل ويبنى حتى ولو كان بناؤه هشا وليس له مستقبل، ولقد كتبت – مثلا مجموعة مقالات وأحاديث إبان أزمة حرب الخليج الثانية، وركزت فيها على ضرورة التفكير فيما بعد الأزمة (العاصفة)، وكيفية الاستفادة منها لإعادة بناء البيت العربى محاكاة لأوروبا بعد 1945، حين صاغت مشروع مارشال، والتقارب الفرنسى/ الالمانى الذى جاء بعد ثلاثة حروب دامية (1870 - 1914 - 1939) وهناك خيط ما يربط الفنان بالسياسى، إذ إن المشاكل السياسية تفرض لونا من استعمال الخيال، وربما كان هذا هو الإبداع الذى اقصده، فديجول وأديناور، ابتكرا اساليبا معينة لتدعيم المصالحة الألمانية/ الفرنسية، وأنور السادات فكر فى رحلة القدس عام 1977، وتشرشل- أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1940، كان يورد فى خطاباته السرية إلى روزفلت فكرة إنشاء الأممالمتحدة فيما بعد الحرب، وهذا هو الفارق بين الإدارة والسياسة، فالإدارة تعالج مشاكل اليوم والسياسة تعالج مشاكل الغد، ومن هنا كان ارتباط السياسة بالخيال والإبداع إذا أردت. وفى تلك الاسترسالات الفنية والإبداعية جاء دور الإبداع الصحفى، فقال: «دخلت إلى الصحافة من زاوية شديدة التخصص، وكنت اكتب بثلاث لغات بما اضر باسلوبى فى الأمور التى لم أتخصص فيها.. فأنت تحتاج إلى حياة كاملة كى تصبح كاتبا وتسيطر على اللغة، وترتب على ذلك أن كتابتى جاءت فى التخصص فقط، أى أنها اقتصرت على الكتابة السياسية والاقتصادية، فلو أردت أن اخرج من هذا لأصبح كاتب روايات مثل إحسان عبد القدوس – مثلا – لا استطيع لأن هذا الأمر يحتاج منى إلى إتقان عشرات الآلاف من التعبيرات والكلمات التى تصف الحالات المختلفة للتفكير أو الإحساس (وضحك).. أنا – فقط – استطيع أن اكتب لك عن الفارق بين «التعايش السلمى» و»الحياد الايجابي»، و(ضحك مرة ثانية قبل أن يفاجئنى): ومع ذلك وجدت فى نفسى الجرأة والتهور لأكتب الشعر شابا، ولكنه (واغرق فى الضحك) كان من مستوى متواضع جدا.. جدا! وكأن الرجل أراد أن يلملم بعض خواطره الفنية المتناثرة كذلك قبيل ختام الحوار فوجدته يقول لى: لا أحب الاغانى الشبابية الجديدة، أنا أهوى اغانى أم كلثوم وعبد الوهاب، وبالذات إذا لم تدخل عليها مؤثرات اوركسترالية غربية، فإذا اقتضى الأمر دخول آلة واحدة غربية أو آلتين فلا بأس، أما التوزيع الغربى الكامل فلم أتفاعل معه. و(لاحظ الدكتور بطرس ابتسامتى التى حاولت ستر خبثها بعدما اخبرني أخيرا بأسماء مبدعين مصريين فى هذا الحوار الطويل حول الإبداع) فقال لى: «أنا فاهم لماذا تضحك.. ولذلك سأتحدث عن كل المؤثرات التى تصوغ رؤيتى أيا كانت جنسيتها، وفى إطار كلامى عن الموسيقى، فقد كنت احتفظ بمجموعة هائلة من التسجيلات الفلكلورية الموسيقية الإفريقية وقتما كنت أستاذا فى أمريكا، وكنت اشعر بتجاوب الأمريكان معها مما يؤكد عالميتها». وعاد الدكتور بطرس ليقول: الإبداع لغة كونية، وقبل أن تضحك مرة ثانية فسوف اذكر لك شيئا عن علاقتى بالسينما المصرية، والمصرية بالذات، فانا ربما لا أشاهد سوى فيلم فى السنة، ولكننى تعرفت شخصيا على بعض السينمائيين المصريين المتميزين وتابعت أعمالهم مثل فاتن حمامة، ويوسف شاهين وحسين فهمى ، وعادة ما تكون مشاهدتى للأفلام السينمائية فى الطائرة. ........................... ومختتما هذا الحوار، وفيما أجمع اوراقى خطر لى أن أسال هذا المثقف المهم عن ظاهرة الارتباط بالماضى (فكرا وشخوصا) فى الإبداعات المصرية، والتى تذكرنى بمقولة لامارتين: «شمس الأحياء لا تدفئ الموتى»، فقد تجمدنا عند نتاج الستينيات ونجومها ولم تعد عندنا المقدرة على إنتاج موجات جديدة من المبدعين والإبداعات، فاجابنى د. بطرس: «إن ذلك يرتبط بأفكار أصبح لها صبغة سياسية، وهى تماثل ما جرى فى أوروبا فى الحرب بين الكاثوليكية والبروتستانتية التى كانت ترى أن الكنيسة انحرفت ولابد من العودة للأصول.. يعنى التجمد عند الأعمال الفنية القديمة والمبدعين القدامى، هو لون من (الأصولية الإبداعية) إذا جاز التعبير».