كان ولا بدَّ أن يكون بطل فيلم «أفاتار» الجندي الأمريكي كسيحًا. فكلمة أفاتار باللغة السنسكريتية في الفلسفة الهندوسية تعني حلول الآلهة في أجساد أرضية سفلية لأهداف خاصة. وهكذا ووفقًا لهذا المعنى تحل بعض أرواح الآلهة الأمريكان في أجساد مقلدة لكائنات أدنى منها للسيطرة عليها، فهل كان «كاميرون» يقصد أن مَن أراد لعب دور الإله لا بدَّ وأن يكون كسيحًا؟ لا أدري كم مرة شاهدت هذا الفيلم، لكنني أعرف أنني سألت نفسي في كلّ مرة السؤال نفسه مع نزول تتر النهاية: أما كان من واجبنا الفني أن ننجز هذه التحفة السينمائية حتى من باب الدفاع عن وجودنا؟! توافرت لفيلم «أفاتار» كل أسباب النجاح والبقاء كتحفة سينمائية حتى هذه اللحظة، فمخرجه هو المخرج الاستثنائي «جيمس كاميرون» صاحب تايتانيك أيضًا، كما أنه الفيلم الأكثر تكلفة في تاريخ السينما العالمية، وبالإضافة لترشحه وفوزه بمعظم جوائز الأوسكار بعد عرضه عام 2009، فقد كُتب له أفضل سيناريو، ووضعت له أفضل موسيقى تصويرية، وضعها «جيمس هورنر» المتخصص في موسيقى الشعوب. هكذا يبدأ فيلم «أفاتار»، بموت أحد الضباط المؤهلين تأهيلاً عسكريًّا وعلميًّا رفيع المستوى، ولتقليل خسارات فقده يجدون في ملفه أن له أخًا شبه معاق، لكنهم يكلفونه بالمهمة على الرغم من أنه غير مؤهل وليس بعالم، وإنما ثمة احتمالات كبيرة بأنه تتوفر لديه جينات بيولوجية مثل أخيه ومن ثم يمكنه الحلول في جسد الأفاتار الخاص بالضابط الراحل. يقوم فريقان إحداهما عسكري والآخر علمي بمهمة غزو كوكب «باندورا»، في إشارة إلى تضافر القوة والمعرفة ضمن الخطاب الكولونيالي لغزو الشعوب الأضعف. ويقبل الفريقان المرشح ليكون بديلاً لأخيه الضابط ليكون جاسوسًا وعينًا يقدم تقارير مخابراتية وعلمية تساعد الفريق العسكري في إنجاز مهمته بتدمير الكوكب وقتل سكانه قبيلة «النافي» المسالمة المحبة للحياة، وتدمير حضارتها المكتملة بملامحها ومعتقداتها وديانتها وعاداتها وتقاليدها، للحصول على معدن ثمين تحتاجه أمريكا وهو موجود في منجم تحت شجرة يقدسونها تُسمى شجرة «إيوا». وسكان قبيلة «النافي» عمالقة يصل طول الفرد فيها إلى ثلاثة أمتار، ولا يمكن لأي كائن أرضي أن يعيش على كوكبها دون أقنعة تنفس، والأمريكان يطلقون عليهم القرود الزرقاء ويريدون أن يمنحوهم فرصة للتفاوض لكي يغادروا أرضهم تاركين المعدن الثمين لهم، مقابل تعبيد الطرق في الأرض وتحويل حياتهم إلى نمط مشابه لحضارتهم. ما لم يراهن عليه فريق العسكر والعلماء أن إلههم الكسيح الذي زرعوه في جسد أفاتار في الكوكب واندمج مع السكان المسالمين بل أحبهم، سيبدأ في طرح أسئلة بكر تتناسب مع جمال طبيعة الكوكب التي لم تتلوث بعدُ بأطماع البشر، حيث تعيش كائنات عملاقة غريبة وتبدو متوحشة لكنها ستعلمه الفرق بين الوحش والتوحش، فالوحش لا يهاجم بشراسة إلا لتأمين استمرارية وجوده، بينما التوحش صفة ثقافية ملتصقة بالغزاة الذين يواصلون إقصاء الآخر والرغبة في الاستحواذ على مقدراته، والأنانية والسيطرة وربما إخضاعه أو إبادته إذا قاوم. سينحاز الجندي «جاك سولي» للإجابات البديهية الأولى والتي دعت إلى تحقيقها كل الديانات وكل الحضارات العريقة، وسيبدأ في تهجي أوَّل أبجديات الكون من جديد بصفاء الطبيعة من حوله، وسيسأل عن أحقية أن تلغي حضارةٌ حضارة أخرى مهما كانت درجة تحضر الأولى، وعن إدانة الأقوى بأنه هو نفسه الذي لا يستطيع قبول الآخر، وستنطلق روحه حتى يتعلم أن عبارة: إني أراكَ. والتي يستخدمونها بلغة الكوكب بديلاً عن عبارة: إني أحبك. هي في الواقع أروع وأعمق. سيؤدي الجندي رسالته وسيحاول توصيل رسالته ورسالة الكوكب إلى أصحاب القوة العسكرية والعلمية بأن سكان الكوكب لا يريدون بنطلونات الجينز الأمريكية ولا السجائر ولا تعبيد الطرق ولا كل ما يميز الحضارة الغربية، وإنما يريدون السلام والحفاظ على تراثهم عامًا بعد عام والحنو على الكائنات التي تبدو غريبة للآخر والحفاظ على أمهم الأرض وألا يجتث الأجنبي شجرتهم المقدسة. بدأ «كاميرون» في كتابة الفيلم عام 1994، ثم توقف عن استكماله استشعارًا منه بأن التقنية العلمية لن تستطيع تحقيق حلمه البصري على الشاشة، فالفيلم على كل حال مصنف من أفلام الخيال العلمي. بدأ كتابة الفيلم قبل غزو أمريكا للعراق عام 2003، قبل أن نعرف أن المعدن الثمين الذي غزت كوكب «باندورا» من أجله، ربما يتحول إلى النفط في حالة العراق أو إلى الديمقراطية بعد عام 2010، أو إلى خطط لا يستطيع وضعها إبليس نفسه بإنجاب جماعات شائهة من أجل الحفاظ على أمن طفلهم المدلل إسرائيل. وكما في فيلم «أفاتار» حاولت أمريكا منح العراق فرصة آنذاك، محاولة التفاوض معها بمنحها الديمقراطية، كما رددت أكذوبة البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي لم تظهر حتى هذه اللحظة. قد أستطيع مسامحة «كاميرون» المخرج العبقري لأنه جعل الجندي الأمريكي الكسيح يخوض مع القبيلة المسالمة التي أحبها حربًا وبالطبع جعله يقودها هو، بل يمتطي كائنًا خرافيًّا لديهم لم يستطع أحدٌ قبله الهيمنة عليه، ولكن كيف أسامحه وقد جعل الجندي الأمريكي الكسيح ينتصر هو والشعب المسالم على أحدث البارجات الحربية الأمريكية الطائرة التي كانت تلون سماء الكوكب بدخانها الأسود؟! نعم عادة ما تفشل الأفلام ذات النهايات التعيسة المنهزمة، بينما تنجح الأفلام التي ينتصر فيها الخير على الشر، لكنني أهمس في أذن «كاميرون» أن العراق لم تنهض بل لحقت بها سوريا وليبيا واليمن. وما زال البحث جاريًا عن نهاية بسهولة نهايتك للخلاص.