تظل السينما الخيالية قريبة من المتفرج بقدر قربها وحديثها عن الإنسان رغم أن أحداثها تدور حول شخصيات تم تخليقها، ورغم أنها تتحدث عن كواكب وأماكن خارج كوكبنا الصغير، ولو استبعدت لعبة الإبهار بالمؤثرات البصرية والسمعية لما تبقي لنا سوي مدي رؤية هذه الأفلام للإنسان ومستقبله، وفي الفيلم الضخم ثلاثي الأبعاد «آفاتار» (Avatar) الذي كتبه وأخرجه «جيمس كاميرون» صاحب ملحمة «تيتانيك» يبدو الجدل طوال الوقت بين الإنسان كما نعرفه علي الأرض، وإنسان آخر افتراضي يطلق عليه اسم «آفاتار» هو مزيج من إنسان الأرض وجينات كائنات أخري تعيش علي كوكب افتراضي يحمل اسم «باندورا» وفي حين يتصاعد الصراع حتي المواجهة العنيفة، ينتهي الفيلم إلي الانحياز إلي هذا «الآفاتار» التي تملأ الشاشة صورته في آخر اللقطات، وسيتزوج هذا الكائن من نساء «باندورا» ويتصاهر رسميا مع سكانها البسطاء الذين يحملون اسم «نافي» ولنا أن نتخيل سلالة جديدة من هذه المصاهرة! يعتمد السيناريو علي السرد من خلال عيون بطل الفيلم جندي المارينز القعيد «جيك سلي» الذي يذهب مع بعثة فضائية بشرية إلي كوكب «باندورا»، إنه يسجل بالصوت والصورة تجربته الغريبة، ثم يتداخل هذا السرد الذاتي مع سرد موضوعي ينقل لنا تفصيلات إضافية، لقد تم اختيار «جيك» رغم حالته الصحية لأنه توءم لعالم اسمه «تومي» توفي فجأة بعد أن قطع شوطًا في أن يصبح «آفاتار»، أي مخلوق هجين بين الإنسان وهؤلاء السكان الأصليين الافتراضيين، وأصبح علي «جيك» أن يكمل التجربة، وسنلاحظ أن هذا التحول الذي يتم افتراضيا في عقله عندما يدخل كبسولة خاصة لن يمكنه من الجري فقط ولكن من الطيران، قد يكون الإنسان الحقيقي أكثر وسامة ولكنه أقل بالتأكيد في القدرات، أما لماذا يريد العلماء أن يحولوا بعض البشر إلي «آفاتار»، فلأن تلك الكائنات هي الأقدر علي الاتصال بكائنات «النافي»، وسيكون «جيك» مكلفًا بعد تحوله إلي إقناع هؤلاء السكان الأصليين بالرحيل عن موطنهم حتي يفسحوا المجال للإنسان لاستغلال أحجار ثمينة علي «باندورا». هذا هو إطار المغامرة، الإنسان بحضارته المادية مقابل عالم بدائي شديد البساطة تظهر فيه كائنات أسطورية كالتنين المحلق والخيول العجيبة، ولعل الملاحظة الواضحة جدا سواء في «آفاتار» أو في «النافي» إنهم كائنات بها ملامح شبه حيوانية كما يتضح في شكل الأذنين والزيل الطويل، كما أنها كائنات كانت أكثر تكيفًا مع البيئة حتي لو كانت غابة ضخمة بها كائنات شديدة الشراسة، ويبدو «النافي» مرتبطين بالدين بمفهومه البدائي حيث يؤمنون بكائن يطلقون عليه اسم «أيوا» يهب الموجودات الطاقة ويحقق التوازن بينهما، ومن حيث الشكل أيضًا يظهر أفراد «النافي» قريبين جدا من الهنود الحمر البدائيين لغتهم خاصة وعالمهم مغلق وأصواتهم عند الصياح تقترب من الزغاريد، وهم متمسكون بالمكان الذي يعيشون فيه، ويبدون جزءًا منه تماما مثل الشجرة العملاقة التي يعيشون عليها، والحقيقة أن مغامرة «جيك» بعد أن تحول إلي «آفاتار» للاندماج والعيش في عالم «النافي» لا تختلف كثيرًا عن مغامرة أي إنسان أبيض قادته الصدفة ليصبح داخل عالم الهنود الحمر المهددين طوال الوقت بالطرد أو الإبادة. هناك إذن مستويان واضحان: الأول أمريكي محلي يسقط الصراع والحكاية علي صراع الإنسان الأبيض مع الهنود الحمر، ثم تتسع الدائرة في الربع الأخير من الفيلم عندما يصبح الإسقاط واضحًا جدًا علي صراع أمريكا ضد شعوب أقل تقدما بحجة الحرب علي الإرهاب، وتسمع قائد القوات الأمريكية الفضائية «كوارتشي» وهو يتحدث عن مقاومة «الإرهاب بالإرهاب». وعن فكرة الصدمة والترويع، ولكن الصراع يأخذ أيضاً مستوي آخر أوسع هو المستوي الكوني، أولئك الذين دمروا البيئة في مقابل أولئك الذين يعيشون منسجمين معها، وفيلم «آفاتار» بدون جدال يتبني بوضوح فكرة العودة إلي الطبيعة، بل إن هناك مشهداً رومانسياً رقيقاً يجعل «جيك» وحبيبته «نايتيري» ينامان علي أوراق خضراء عملاقة أشبه ما تكون بالمهد المعلق في الهواء، ويمكن أن تعتبر الفيلم بكل كائناته الغريبة الأسطورية وذات الأصول الواقعية يحمل هذا الحنين الجارف للماضي البدائي للبشرية. لا تختلف «نايتيري» في جمعها بين الرقة والشراسة عن أي فتاة هندية وقعت في غرام أحد رعاة البقر ولا تختلف قبيلتها بسهامها وبطقوسها وبعشقها للخيول أو مثيلتها الأسطورية عن أي قبيلة شاهدناها في أفلام الهنود الحمر، حتي الصلاة والطقوس والموسيقي التي تتعالي فيها الأصوات البدائية تعيدك فوراً إلي عوادم هذه الأفلام البدائية، ثلاثة شهور سيعيشها «جيك» مع «النافي» علي «باندورا» يتعلم لغتهم ويركب خيولهم الغريبة ويروض التنين الطائر ويدهن وجهه باللون الأبيض مثلهم، ويتزوج من «نايتيري» وتشاركه في التحول إلي «أفاتار» العالمة الأمريكية «جريس» (سيجورني ويفر) عاشقة النباتات الغريبة علي كوكب «باندورا» وأرجو أن تتذكر دائماً أن جندي المشاة والعالمة الأمريكية يعودان إلي صورتهما البشرية من هذا العالم الافتراضي الذي لايتم الوصول إليه إلا «عبر كبسولة مغلقة». الصراع بين الافتراضي والحقيقي لا يتم فقط من خلال المضمون ولكن من خلال المزج بين عالم الممثلين الحقيقيين وبين عالم التحريك ثلاثي الأبعاد، ورغم أن العالم الحقيقي مليء بالأجهزة العلمية والكائنات الآلية وأجهزة الكمبيوتر الضخمة والشاشات العملاقة، إلا أن العالم الافتراضي هو الأكثر جاذبية وجمالاً ربما لأنه يذكرنا بعالم الحواديت حيث الغابات الضخمة، والكائنات الأسطورية، والحياة علي فروع شجرة عملاقة، حيث الإنسان أقرب إلي القرود القافزة، والطيور المحلقة حيث الإنسان جزء من الطبيعة بكل عناصرها، المطالب محدودة والقبيلة هي الوطن، والآلهة تمنح وتحمي وتنتظر القرابين. هناك فريق ضخم أبدع في رسم هذا العالم الافتراضي فجعل المتفرج يحن إليه وهو لا يعرف أنه يحن في الواقع إلي فجر البشرية، مرت ثلاثة شهور فشل فيها «جيك» في اقناع النافي بالرحيل، فلم يعد هناك سوي استخدام البلدوزر في تدمير شجرة وطنهم، ولكنه سينضم أخيراً إليهم، وسيقودهم في ثوب «آفاتار» إلي حرب مباشرة مع الإنسان الشرس عدو البيئة والطبيعة، ويتحول الفيلم إلي معركة مباشرة بين الممثل الحقيقي والممثل في صورته ثلاثية الأبعاد، التنين الطائر الاسطوري يواجه الطائرة العملاقة التي تحمل أيضاً اسم «دراجون» أي التنين، كائنات الغابة الأسطورية التي تشبه الخرتيت في مواجهة الربوت العملاقة الذي يديره الإنسان، السهم الخشبي في مواجهة قنابل الصدمة والترويع، ويختار «كاميرون» بعد رسم عالمه ببراعة أن يخسر الإنسان المعاصر معركته أمام الإنسان الافتراضي الذي يبدو أقرب - في الواقع - إلي إنسان الغابة والطبيعة البدائية والمشاعر الأكثر بساطة ورومانسية. فيلم «آفاتار» عمل معاصر جداً وإن كان يحلق بأجنحة الخيال، «كاميرون» يحلم هنا بإنسان جديد يعيش علي كوكب تاني حيث الطبيعة والإنسان شيء واحد، وحيث ما فوق الأرض أثمن مما بداخلها، وحيث المشاعر والأحاسيس أقوي من الأسلحة والآلات!