مصر في حالة حرب. الدولة المصرية مستهدفة. مشروع تفكيك المنطقة العربية يتقدم بخطي سريعة من حولنا، في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا. صحيح أن الشعب المصري قد سدد ضربة في الصميم لمشروع هدم وتفكيك الدولة المصرية عندما أسقط حكم الإخوان ومشروع هيمنة الدولة الدينية، إلا أن قوي الظلام في الداخل، والقوي المتربصة بالدولة المصرية في الخارج تأبي أن تتراجع وتصر علي استمرار المحاولة، وتشهر في وجوهنا سلاح الإرهاب. عندما تكون الدول في حالة حرب، تعبئ كل جهودها، يتكاتف كل أبنائها لدرء الخطر. عشنا تلك الحالة بعد هزيمة عام 1967 وعبأنا كل قوانا لتجاوز الهزيمة وإعادة بناء قدراتنا وخضنا حرب استنزاف للعدو علي مدي عدة سنوات ثم انتصرنا في حرب 1973. الشعب كله تكاتف لإعادة البناء وتحقيق النصر. الجميع اشترك في التضحية وتحمل الأعباء. من عاشوا تلك الفترة يذكرون جيدا كيف ظل جميع العاملين لدي الحكومة والقطاع العام طوال سنوات الاستعداد للحرب يتبرعون شهريا بجزء من رواتبهم للمجهود الحربي، وكيف تم إغلاق باب استيراد السلع الكمالية وإغلاق شارع الشواربي، الذي كان يمثل آنذاك أشهر منفذ لبيع الملابس المستوردة لعلية القوم في مصر. عشنا اقتصاد حرب يشترك فيه الجميع في تحمل التضحية والأعباء، وفي الوقت نفسه يتمكن كل أبناء الشعب من الحصول علي احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والكساء والمسكن والتعليم والعلاج. لم نحبط من التضحيات، لم نتطلع إلي الكماليات، تطلعنا إلي استرداد الكرامة وتحقيق النصر. عندما خرجنا في المظاهرات عام 1972خرجنا احتجاجا علي التباطؤ في اتخاذ قرار الحرب، ولهفة وتصميما علي محو عار الهزيمة. نحتاج اليوم إلي اقتصاد حرب. نحتاج إلي خوض معركة مزدوجة ضد الإرهاب وضد عودة واستنساخ كل السياسات الاقتصادية التي أدت إلي إفقار القاعدة العريضة من الشعب المصري. نحتاج إلي بث اليقين بأننا جميعا نشترك في تحمل الأعباء والتضحيات. فلا يعقل أن يكون الفقراء والشريحة الدنيا للطبقة المتوسطة هم وحدهم الذين يتحملون التكلفة. الفقراء تحملوا بصبر وشجاعة رفع أسعار المنتجات البترولية وما تلاها من ارتفاع في أسعار السلع والخدمات وتكاليف النقل، أما القادرون فيرفضون التنازل عن مليم واحد من أرباحهم، ويرفضون المساس بثرواتهم. احتكارات حديد التسليح نجحت في الضغط علي الحكومة لإصدار قرار بفرض رسوم حماية علي الحديد المستورد، كي تتمكن من الإنفراد بالسوق المحلية والاستمرار في البيع لنا بأسعار أعلي من متوسط الأسعار العالمية، ونقل أثر الزيادة في أسعار المنتجات البترولية إلي المشتري المحلي. وفي اليوم نفسه الذي صدر فيه قرار حماية احتكارات حديد التسليح صدر قرار آخر برفع أسعار الأسمدة المدعمة للفلاحين. بيوت الفلاحين التي اتشحت بالسواد علي شهدائها الذين سقطوا ضحية الإرهاب، هي نفسها التي تجأر بالشكوي من توالي سياسات إفقار الفلاحين وانتزاع حيازاتهم، بدءا من قانون تحرير إيجارات الأراضي الزراعية، ورفع تكلفة الأسمدة ومستلزمات الإنتاج و انتهاء بخفض أسعار المحاصيل وقت الحصاد. يحرقون القطن لأن ثمنه في السوق لا يكفي لتغطية تكاليف الجني، ناهيك عن كامل تكاليف زراعته. عندما تكون في حالة حرب وتحتاج إلي تكاتف وتعبئة جهود القاعدة العريضة من أبناء الشعب، لا يعقل أن يكون انحيازك الاجتماعي بعيدا عنهم. لا يعقل أن يظل الرهان علي نفس الشريحة الاجتماعية التي نهبت ثروات الشعب ونفس السياسات التي فجرت الثورة. لا يعقل أن ترفع أسعار المنتجات البترولية والكهرباء للمواطن ثم تعلن علي لسان وزير الاستثمار عن النية لإعادة النظر في أسعار الطاقة لرجال الأعمال، في تأكيد جديد لما أعلنه البنك الدولي مؤخرا عن سوق العمل في مصر من أن 80% من شركات رجال الأعمال ذوي العلاقات السياسية القوية يعملون في ظل أساليب حمائية تضمن لهم الانفراد بالسوق المحلية، وتحقيق الأرباح الضخمة، وأن الاحتكارات القريبة من السلطة تستأثر بالمزايا من ناحية، وتفلت من القوانين والقواعد التنظيمية التي تخضع لها بقية الشركات من ناحية أخري، و أن الشركات الكبيرة القريبة من السلطة قد استأثرت بتراخيص حكومية تكفل لها مركزا احتكاريا في صناعات الأسمنت والحديد والصلب، يحول دون دخول ونمو شركات منافسة ويحول بالتالي دون خلق وظائف جديدة. لا يعقل أن تعاني من انخفاض الإيرادات العامة وتعترف بانخفاض معدلات الضرائب في مصر حتي بالمقارنة بالدول الفقيرة، ثم ترفض بإصرار تطبيق الضرائب التصاعدية علي الأغنياء، وتكتفي بضريبة مؤقتة علي الدخول التي تزيد عن المليون جنيه سنويا. لا يعقل أن توفر حصانة قانونية تسري علي كل العقود السابقة واللاحقة التي تبرمها الدولة مع المستثمرين، في الوقت الذي تتوالي فيه أحكام القضاء تؤكد فساد عقود الخصخصة وتحكم ببطلانها. لا يعقل أن يحكم القضاء بإعادة العمال الذين أجبروا علي المعاش المبكر في تلك الشركات ثم تمتنع الدولة عن التنفيذ. لا يعقل أن يصر مشروع قانون العمل الجديد علي استمرار استبعاد العمالة الزراعية وتيسير عمليات الفصل التعسفي للعمال. لا يعقل أن ينص الدستور علي زيادة الإنفاق علي الصحة فتقوم الحكومة بإلغاء دعم التأمين الصحي الشامل وخفض دعم الأدوية وألبان الأطفال إلي أقل من النصف. لا يعقل أن يكون الحب بين الفقراء والدولة حب من طرف واحد. ولا يعقل تصور أن هذا الحب شيك علي بياض! لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى