تجسدت كل معاني الألم الممزوج بالحسرة تارة، وبالمرارة تارة أخري، علي ملامح وجه أم يعاني زوجها من مرض شديد، أقعده عن العمل والحركة، وبدأت الأم ذات الثلاثة والثلاثين ربيعا، في لملمة شمل الأسرة لتربي أبناءها، بعدما أثقلت الهموم كاهلها، ووجدت نفسها أمام أزمة مالية طاحنة، اضطرتها لترك القرية بأكملها والنزوح كل يوم إلي مدينة الفتح، لتبيع "الفجل والجرجير والبصل الأخضر"، وتعود في نهاية النهار لبيتها، حيث ولداها وابنتاها وزوجها المريض ووالدته المسنة وأخته المطلقة والأخري الأرملة. يعيشون جميعا في منزل واحد، تفوح منه رائحة الفقر، ورغم ذلك كانت الحياة تسير بشكل طبيعي دون ارتباك أو تعثر، وتمكنت الأم من تربية أبنائها وإلحاقهم بالتعليم ، إلا أن القدر دق باب منزلهم مبكرا، وتحولت حياتهم إلي جحيم مستمر، بعدما اشتد وطيس معركة لا ذنب لهم فيها ، إلا كونهم من بسطاء القوم في قريتهم، حيث سارت الأمور بما لا تشتهي السفن، فخلافات الجيرة، قضت علي الأخضر واليابس، واختطفت منها ابنتها "أضواء" في مشاجرة مع جيرانهم، بعد أن تعرضت للضرب علي رأسها بآلة حادة، وأصيبت ابنتها "أسماء" بجروح غائرة نتج عنها خضوعها لعمليات إسعاف عاجلة وتم عمل غرز طبية لإنقاذ حياتها . وهنا توقفت الساعة عن الدوران داخل المنزل ، واحترق قلب الأم التي لم تجد من ينقذها هي وبناتها من جيرانهم وقتل ابنتها التي لم تتجاوز 11 سنة من عمرها، وإصابة الأخري صاحبة السنوات الست، بعد قيام عدد من الرجال من جيرانهم، باقتحام منزلهم، وتكسير نوافذه وأبوابه، والاعتداء علي كل من بالمنزل ولم يرحموا صغيرا كان أم كبيرا، وكأن الرحمة قد انتزعت من قلوب هؤلاء، في ظل صمت مخجل من جيرانهم، الذين لم يتحرك لهم ساكن للدفاع عنهم والذود عن الأطفال، ففي قرية عرب العطيات التابعة لمركز الفتح، دارت تلك الأحداث المفزعة التي تدق ناقوس الخطر حول أمن الأسر، خاصة الفقيرة منها، مما يتطلب تحركا غير تقليدي للوصول إلي تلك الأسر، بحثا عن احتياجاتهم وتوفير ما يضمن لهم حياة كريمة، فحينما يصبح البقاء للأقوي، هنا يصبح الحديث عن الرجولة والشهامة ضربا من الخيال. "الأهرام" التقت الأم ، وحكت ودموعها تسابق كلماتها، وحفر الحزن في وجهها أودية من المرارة، "بنتي البكرية ماتت قدام عيني ومقدرتش أعملها حاجة عشان مفيش حد يحمينا"، وعندي 33 سنة، تزوجت وأنجبت بنتين وولدين وظروف زوجي المرضية تمنعه من العمل، فعملت بائعة للفجل والجرجير علشان أصرف عليهم وأعلمهم عشان يبقي معاهم شهادة وميتعبوش زيي ، أخرج في الساعة الرابعة فجرا لبيع الفجل والجرجير أمام الإدارة التعليمية وأعود عقب صلاة العصر، وفي اليوم ده كانت بنتي سعدية اللي بنقولها "أضواء" بتجلد الكتب المدرسية وملحقتش تكتب اسمها عليها وقتلوها ، وماتت يا ضنايا من غير ذنب". واستكملت الأم الثكلي حديثها، موضحة أن المشكلة بدأت بقيام ابن الجيران بضرب أسماء البنت الصغري التي تبلغ من العمر 6 سنوات، فتحدثت إليهم، فقاموا بضربها مرة ثانية علي رأسها، فحدث شرخ في الرأس وأخذت 12غرزة، وقالت "وسكت عشان مفيش حد يحمينا، وبعد ذلك هددوا بقتلها فخفت وذهبت لأحرر محضرا بالشرطة، وبعد أيام تدخل عدد من الأهالي لإتمام صلح بيننا، ويوم الصلح اختلفوا معنا في الكلام، وفجأة لقينا ضرب وتكسير من كل ناحية وشوم وسلاح وعصي ، وضربونا كلنا انا وبناتي وأخوات جوزي وحتي الجدة الكبيرة التي لها صله قرابة لهم ضربوها في يدها وحدث لها كسر، وضربوا بنتي الكبيرة أضواء وماتت اللي كانت سندي وضهري وبسيبها تاخد بالها من أخواتها". وتضيف عمة القتيلة سلمي التي تعمل أيضا بائعة فجل أنها كانت موجودة في الحادث، وقالت :"إن سبب التعنت بعد وفاة والدي منذ أربعة شهور أصبحنا لوحدنا، فأنا مطلقة وأختي أرملة وأمي عجوز فلم يصبح لنا رجل يحمينا، فطمعوا فينا وعاوزين ياخدوا البيت ويحتكوا بينا، وعندما رفضنا تعاملوا معنا بكل هذه الأساليب غير الإنسانية، ضرب وصل للموت وتكسير أبواب وشبابيك وكل شيء". وتقول الجدة التي تدعي ابتسام: " خلاص الدنيا خربت مفيش راجل ولا حد من الجيران وقف معانا النخوة ماتت ولينا رب ، أنا عجوزة مقدرش أعمل حاجة، دخلوا وضربونا وخربوا الدنيا حتي البوتاجاز كسروه". ومن جانبهم تمكن ضباط مباحث مركز الفتح برئاسة الرائد محمد فراج، رئيس مباحث المركز، بالقبض علي 5 أشخاص ممن شاركوا في المشاجرة، كما تم ضبط المتهم الرئيسي بقتل الطفلة "أضواء"، وتكثف مباحث المركز جهودها للقبض علي جميع المتهمين المشاركين في المشاجرة لتقديمهم للعدالة ، وتم استهداف منازل المشاركين في المشاجرة أكثر من مرة خلال الأيام الماضية. وكان اللواء طارق نصر، مدير أمن أسيوط، قد تلقي إخطارا من الرائد محمد فراج، رئيس مباحث مركز الفتح، يفيد بوصول "سعدية . م. ع" الشهيرة "بأضواء" 11 سنة مصابة بنزيف بالمخ نتيجة التعدي بآلة ثقيلة علي الرأس، ووفاتها عقب الوصول بساعتين وتم التصريح بدفن الجثة . ومن جانبه قال الشيخ محمد العجمي، وكيل وزارة الأوقاف ورئيس لجنة المصالحات بالمحافظة، إن المجتمع يحتاج إلي فقه الأخلاق، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال العيش في بلدة البقاء فيها للأقوي، مما يعرض هؤلاء الأطفال للهلكة، وطالب العجمي جميع أئمة المساجد بحث المصلين علي مراعاة حق الجار، وأنه لا يستطيع الإنسان، العيش بمعزل عن الجيران، لاسيما أن الرسول الكريم قد قال "لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه" ، مشيرا أنه لا إيمان لمن لا يأمن جيرانه من شره.