لم يكن الاحتفاء المدوي الذي استقبلت به الأوساط العربية فوز باتريك موديانو بجائزة نوبل للآداب 2014، هو علامة على الانحياز للمعسكر الفرانكفوني في مقابل الانجلوساكسون (حيث استنكر العديد عدم حصول فيليب روث عليها)، أو مجرد استرجاع لمكانة الأدب الفرنسي في الذهنية العربية وما تمثله من بحث دائم عن مكان وزمن مفقود نحته الكاتب الأشهر مارسيل بروست، كما لم يكن تعبيرا عن ولع أجيال من الكتاب المحدثين بنماذج من الكتابة الفرنسية وعلى رأسها «الرواية الفرنسية الجديدة». بل نزعم أنه بدا في عيون الكثيرين شخصية متخففة من كل القوالب الجامدة التي يوضع فيها الكاتب، لم نسمع له خطابا مفعما حول عالمه الأدبي ومكانة الجائزة لديه حين أعلنت الأكاديمية السويدية فوزه، و سارع ناشره «جاليمار» بإبلاغه بالخبر، بل خرج من مكمنه الباريسي، دون أن يداري سعادته، و كان أول تعليق له : «هذا أمر عجيب!» وهو تعليق شديد الدلالة عن صورته ككاتب هامشي منعزل، رغم التكريس الأدبي الذي ناله والجوائز والمكانة الرفيعة التي حصل عليها منذ بداياته في 1968. إذ يبدو موديانو عصيا على التصنيف، لا يسمع إلا أصوات شخصياته الأقرب إلى الأشباح، شخصيات يسكنها هاجس الاختفاء والعدم، ولا تيأس من البحث والدوران حول الجذور والهوية، تظهر وتتلاشى مثل رجع الصدى. كما يبدو في عيون النقاد، وفي كتاباته متخففا أيضا من الأطر القاطعة والحدود الفاصلة، كتب موديانو معظم أعماله الروائية بصيغة الراوي المتكلم، ال«أنا» التي تستخدم في العادة في سرد حياة الكاتب أو ما يسمى السيرة الذاتية (أوتوبايوجرافي)، وكثيرا ما تطابق اسم البطل مع اسمه «باتريك» أو «باتوش»، ومع ذلك لم يسلم نفسه لمتاهات السيرة الذاتية والبحث المضني عن تاريخ الشخصية، أوللتساؤل الدائم عما إذا كانت أحداث الرواية تتطابق مع الواقع ومع سيرة حياة الكاتب؟ أم أن هناك هامشا من خيال يمتزج بالواقع ويصنع حياة جديدة للرواية؟ بل تغاضى باتريك موديانو عن كل هذه الأسئلة، وبدلا من هامش الخيال، صار يقفز قفزات واسعة ويدمج شخصيته -هو الراوي- بشخصيات بطلاته وليس فقط أبطاله، أو يسترجع زمن طفولته المسلوبة بتفاصيلها الواقعية ويغزل عليها عالما حالما متخيلا. أدمن الكاتب الفرنسي لعبة الخيال، وصار النقاد يصنفون أعماله على أنها «سيرة ذاتية متخيلة»، وهو المصطلح الذي دشنه الروائي والناقد سيرج دوبروفسكي عام 1977، جامعا بين النقيضين : السرد الذاتي من ناحية الذي يطابق هوية الكاتب والراوي و الشخصية الرئيسية، وبين الأحداث المتخيلة من ناحية أخرى. أما اعتماد موديانو على الخيال في روايته الذاتية، فلا يرجع إلى النسيان أو إلى علة في تذكر الماضي، بل إن شخصياته تسكنها الذاكرة و «الماضي الذي لا يمضي»، شخصيات تسيطر عليها «ذاكرة مسمومة» مثلما يعترف الراوي في رواية (دفتر العائلة) في 1977 : «أتذكر كل شيء، انتزع الملصقات المتراصة في طبقات متتالية منذ خمسين عاما حتى أعثر على النتف الأكثر قدما». يتذكر موديانو إذن التفاصيل الدقيقة، ويعيش نوعا من المضارع الأبدي، ولكنه مع ذلك ينتصر للخيال دائما، ويقول في حوار له بالمجلة الأدبية الفرنسية «لوماجازين ليترير» في ملف خصص له في 2009، أن المادة الذاتية من سيرته الشخصية التي يعتمد عليها دائما في كتاباته لا تستهويه لو لم تطعم بالخيال، «النص المنتمي للأدب الذاتي أو أدب الاعتراف ينبغي أن يتم تهويته ببعض من الخيال» وإلا فقد كل كل جماله وجاذبيته. وسط انتاجه الغزير الذي وصل إلى 35 عملا ما بين رواية ونص أدبي وفيلم وكتب للأطفال، اعتمد فيها على نتف من الذاكرة مع الكثير من الخيال، أما ما يعتبره موديانو نفسه الأقرب إلى السيرة الذاتية الواقعية، فهما كتابي «تخفيف العقوبة» الذي نشرعام 1988، و «سلالة» أو «نسب» في 2005. يستعيد موديانو في «تخفيف العقوبة» مرحلة الطفولة البعيدة، ذكرياته مع شقيقه (الذي رحل ولم يتجاوز سن العاشرة بعد) حينما عهد بهما والدايهما إلى أصدقاء يعتنوا بهما أثناء سفرهما وانشغالهما الدائم عن الأطفال. الأم البلجيكية الأصل التي تعمل ممثلة وتقوم بجولة في البلدان الفرانكفونية، والأب اليهودي الإيطالي الجذور الذي يعمل في أمريكا الجنوبية في عوالم مريبة من سوق سوداء وغيرها. يعيش الطفلان عالم المغامرات وأساطير الطفولة في ضيافة سيدات ثلاث لا يعيان من عالمهم المبهم سوى أحاديث مقتطعة، وأبواب مواربة، وزوار عابرين، ووجوه تكسوها الدموع وابتسامات ضنينة، في انتظار يوم ما يأتي الأبوان ليستردا طفليهما. أما في «نسب» أو «سلالة» وهو إحدى عناوين موديانو الكثيرة حمالة أوجه، إذ يطلق اللفظ الفرنسي «بيديجريه» على تتبع سلالة الحيوان ونقاء نوعه، بينما تتناول الرواية جذوره الشخصية والعائلية وبحثه الدائم عن الهوية، ويحمل غلاف طبعة الجيب لهذا الكتاب صورة كلب في اشارة لتناوله المراوغ، «الساخر»، المتخفف من الأفكار المسبقة، لكل القضايا، إذ يبحث بحثا مضنيا عن الجذور والهوية ويجسد تاريخ الكاتب نفسه الذي ولد في 1945 تاريخ فرنساالمحتلة من الألمان وبصمات الغزو على ملامح المدينة والشخصيات، بل والأهم من ذلك انتمائه لأب يهودي نجا من المحرقة النازية وتواطأ مع المحتل بينما آله وصحبه كتب عليهم الرحيل، عاش موديانو هذا الصراع وهذا الشعور بالذنب وعبر عنه في أعماله لكنه أيضا في الوقت نفسه –وهذا ما يميزه- يساءل مفهوم «الهوية» نفسه، حتى لا نقول «يتهكم» منه. يروي مرحلته العمرية حين بلغ أربعة عشر عاما وعلاقته بالفتاة التي كلفتها والدته برعايته، ويكتب على غلاف الكتاب الخلفي : «أكتب هذه الصفحات مثلما يحرر المرء حالته أو سيرته الذاتية، بهدف توثيقي وحتى أنتهي من حياة لم تكن أبدا ملكي. الأحداث التي سأتناولها حتى سن الواحد والعشرين، عشتها بشفافية، وأقصد هذه العملية التي تقضي بمرور المشاهد في الخلفية بينما الأشخاص الفاعلين يظلوا ساكنين في ديكور الاستوديو. وتظل تيماته الأثيرة مثل أصداء تتردد في مجمل أعماله البحث عن الهوية ورحيل الشخصيات وتبدل الهويات وتحولات المدينة وأوجاع الطفولة (أطفال مهملون، سقط المتاع، محكومون بالانتظار) التي تتكرر في كتابات فريدة مثل «دفتر العائلة» و»المجهولات» و»صبيان شجعان جدا» و»دولاب الطفولة». عن جرح الطفولة الذي لا يندمل، يقول موديانو تعليقا على سيرته الذاتية «نسب» : «ندمت أنني لم أستطع أن أخط كتابا أتناول فيه الطفولة المبهجة، التي أحببتها لدى ابعض لكتاب الروس، مثل ضفاف أخرى لناباكوف حيث الطفولة هي نوع من الجنة المفقودة. تلك خسارة كبيرة، كم كنت أتمنى أن أكتب شيء أكثر إثارة وشجنا وشعرية».