باتريك موديانو روائي فرنسي ولد في عام 1945 لأب يهودي من أصول شرقية وأم بلجيكية استقرت في باريس في بداية الحرب العالمية الثانية، حيث قابلت والده وعاشا تحت غطاء من السرية بسبب هويته. عاش موديانو طفولته في أجواء مضطربة نظرا لعلاقات ونشاطات والده المريبة وازداد اضطرابه بعد انفصال والديه ووفاة أخيه الأصغر وهو في العاشرة، ما أثر فيه بشكل كبير لدرجة أنه ظل يدعي لفترة طويلة أنه ولد في عام 1947وهو تاريخ ميلاد أخيه، وكأنه يتوحد معه. انعكست الاضطرابات العائلية علي حياته الدراسية، فبعد أن تنقل بين العديد من المدارس والكليات قرر ترك الجامعة والانخراط في الكتابة. نشر أولي رواياته "ميدان النجمة" عام 1968، وحققت نجاحًا هائلًا وحصل بها علي جائزة "روجيه نيمييه" في نفس العام، وكذلك علي جائزة "فينيون" في العام التالي، ثم توالت الجوائز علي الكاتب تباعًا. منذ أن بدأ موديانو الكتابة وطوال أعماله الروائية لم يكف عن استحضار معاناة أبناء جنسه، ورغم أنه لم يعاصر أحداث الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني لفرنسا، إلا أنه تأثر بهما لدرجة جعلتهما خلفية لمعظم رواياته، ورغم أن والده لم يحدثه عن ذكرياته أثناء تلك الحقبة، إلا أنه جمع شهادات العديد من الأشخاص الذين عاصروا الأحداث، كما استعان بقراءاته الكثيرة ليرسم ما حدث وكأنه عاشه بنفسه. سيطرت موضوعات الحرب والاحتلال والذاكرة علي الكاتب وتكررت في معظم أعماله، وبدت وكأنه يعيد كتابتها في نوع من "التناص"، وهو مصطلح يعني أن يكرر الكتاب أفكار وكلمات من سبقوهم. ولكن إعادة الكتابة لدي موديانو تتمثل في تكراره لنفسه من عمل لآخر. نستطيع أن نلحظ في روايات موديانو شخصيات تحمل سمات مشتركة وتعاني من نفس المشكلات، وتواجه نفس المصير. كما تدور العديد من رواياته في نفس الفترة الزمنية وفي نفس الأماكن. شخصيات موديانو تتشابه شخصيات موديانو في السمات وكأن لرواياته بطلاً واحداً، فما يحرك جميع شخصياته إرادتهم ورغبتهم في المعرفة، وهي تتنوع بين الرغبة في معرفة مكان الأب أو ماضيه أو البحث عن الجذور، وبين الرغبة في معرفة هوية البطل نفسه كما في رواية شارع الحوانيت المعتمة، حيث البطل يعاني من فقدان ذاكرة كلي. ولكن البطل عند موديانو لا يمتلك ما يساعده علي تحقيق ما يريد، لأنه يفتقد المعرفة، وحتي المعلومات التي يتوصل إليها تبقي منقوصة، ما يؤثر علي وضعه وحالته، ورغم ذلك يثابر للوصول للحقيقة. يتميز البطل بأنه ابن مثالي، خاصةً حين يتعلق الأمر بوالده، وربما يصل الأمر في بعض الروايات إلي تبادل الأدوار، ففي ميدان النجمة يخصص الابن جزءاً من ثروته لوالده الذي لم يرث منه سوي هويته اليهودية، والتي يتمسك بها رغم كل شيء لأنها كل ما لديه. وفي رواية الطرق الدائرية، يحاول الأب اليهودي أن يحصل علي هوية فرنسية لمجرد أن ابنه حصل علي شهادة البكالوريا وكأنها وثيقة تثبت انتماءه إلي المجتمع. فيما تعكس صورة الأب في روايات موديانو علاقته بوالده، الذي لم يره منذ كان في السابعة عشرة وحتي وفاته. تعاني شخصيات الكاتب من حالة خوف وهلع دائم، وكأن مشاعر الأب اليهودي الذي عاش بلا جنسية ولا أوراق في فرنسا أثناء الاحتلال، ملاحقًا من الشرطة، قد انعكست علي البطل، بل هو خوف لازم أبناء جنسه جميعا، فحتي الشخصيات الثانوية في الروايات كانت تعاني من نفس حالة الخوف. لعب البطل في بعض الروايات دور المنتقم ممن أهانوا والده أو اضطهدوه ولكنه أدرك أن الانتقام نوع من التمسك بالماضي الذي ظل يلازمه دائمًا. الزمان يرجع إلي الخلف اختار الكاتب الفرنسي فترة الاحتلال لتدور فيها أحداث معظم رواياته، لأنه يعتبر نفسه نتاجاً لتلك الفترة، فوالداه تقابلا في باريسالمحتلة. واختار الكاتب بكامل إرادته أن ينظر إلي الخلف، ورغم أن تلك الحقبة التاريخية لم تكن هدفا للكاتب في حد ذاتها، إلا أنها كانت وسيلة مناسبة ليعرض معاناة جيل كامل عاني مرارات شتي وهو يلجأ إلي الذاكرة الجمعية وكأنه يحاول أن يستأصل الألم من جذوره. استطاع الروائي التعبير عن حالة القلق التي سيطرت علي من عاصر تلك الأحداث، وتمسك بماض ليس ماضيه وبذكريات ليست له، وكأن الأحداث في كتاباته تتقدم ولكن للخلف، إذ يبدأ رواياته في زمن معين ثم يصطحب قراءه إلي فترة زمنية تسبق بداية الرواية. رغم أن موديانو بدأ يبتعد عن استخدام فترة الاحتلال كخلفية تاريخية اعتبارا من رابع رواياته، إلا أنها ظلت موجودة سواء بالتلميح أو التصريح وبقي صداها في معظم أعماله. وفي أثناء استرجاع الماضي وبحثه عن ذاته، يتردد البطل علي أماكن كثيرة. المكان المتعدد والترحال تتعدد الأماكن في روايات موديانو، وذلك يعود إلي كثرة تنقل البطل بحثًا عن هوية أو هروبا من الملاحقة، فالبطل مثال لليهودي الهائم الذي كتب عليه الترحال وعدم الاستقرار، وكأنه مدرك تماما لمصيره. في رواية الطرق الدائرية، يقر البطل أن أبناء جنسه لن يعرفوا أبدًا معني الراحة والاستقرار وكأنهم يسيرون فوق رمال متحركة. يلجأ البطل دائمًا إلي الهروب للنجاة بحياته أو للخروج من مأزق، ويتكرر هذا المشهد في معظم رواياته. وأثناء هروبه أو بحثه عن ملجأ أو ملاذ، لا يجد أمامه سوي الأماكن العامة أو العابرة، فهي مكان مثالي للاختباء عن الطريق والانصهار في المجموعة. تمتلئ روايات موديانو بأسماء شوارع ومقاهٍ ومطاعم، وهي أماكن تواجد البطل أو باقي الشخصيات، وكثيرا ما يذكرها لأنها نقاط استدلال في رحلة بحثه الدائم عن ماضيه أو هويته. وصف الكاتب أحيانًا كثيرة أحياء اليهود في باريس، حيث كان يقطن أبطاله، ويعتبر وصفه للجيتو الذي عاشوا فيه تعبيرا عن حالة رفض المجتمع لهم أثناء الاحتلال. وباريس، المدينة التي اختارها الكاتب لأبطاله، ليست عاصمة النور، بل عاصمة الظلام ومدينة المخاطر. ورغم أن باريس لم تكن مسرحا لكل أحداث الروايات، إلا أن البطل كان يذكرها من وقت لآخر خاصة عندما كان يستعيد ذكرياته. أثناء محاولة البطل للهروب أو البحث عن هوية، يتنقل بين باريس ومدن أخري ويسجل التغيرات التي تطرأ علي الأماكن، ما كان يزيد من معاناته النفسية ويملؤه بحنين للماضي. عندما كانت شخصيات موديانو تحاول مغادرة باريس، كانت تلجأ إلي المدن الكبيرة حتي وإن باءت تلك المحاولات بالفشل، فتظل المدن المكان المثالي للاختباء، مكان يتلاشي فيه خوفهم، ولكن أثناء إقامتهم في تلك المدن لا يعرفون سوي غرف الفنادق، وهي ليست أماكن للإقامة بالمعني الحقيقي للكلمة، وكانت تزيد من إحساسهم بعدم الأمان. ومع سطوة حضور الأب، لا نجد حضورًا لشخصية الأم، بل يأتي ذكرها في بعض الروايات ليؤكد غيابها، كما في رواية إعفاء من عقوبة، حينما ذكر الراوي أنها في جولة مسرحية، وكانت بعض الشخصيات الأخري تلعب دورها. وقد يفسر عدم وجود الأم عدم وجود منزل للبطل، فهي حجر الزاوية في هذا البناء. وكثيرا ما ربطت نظريات التحليل النفسي بين الأم والمنزل، بل قارنت بينه وبين رحم الأم، حيث يجد الإنسان الراحة والحماية. وعندما كان البطل يجد نفسه مهددا، كان يبحث عن مكان يختبئ فيه، متسائلا مثل بطل الطرق الدائرية :"لنذهب أين؟" سؤال يظل بلا إجابة. أما المنازل التي يتواجد فيها فدائما منازل الآخرين، وأحيانا يطلق العنان لخياله فيحلم ويتخيل أنه يمتلكها. لم يكن لدي بطل موديانو ثقة في العالم المحيط به أو في المستقبل ليتسني له الاستقرار والسكن. أدوات إعادة الكتابة كما رأينا، فإن الكاتب لجأ لرسم نفس الشخصيات وتكرار الزمان والمكان في معظم أعماله، كما لجأ إليه علي مستوي الكتابة نفسها. فعلي مستوي اختيار أسماء أبطال رواياته أو الشخصيات الأخري، لم يكن اختيارا عشوائيا، فنجد أسماء تتشابه مع أشخاص لعبوا أدوارا مهمة في الحياة الصحفية والسياسية، وكان الكاتب ينقل الأسماء كما هي أحيانا أو يدخل عليها تعديلا بسيطا أحيانا أخري. وهناك شخصيات لها مكانة تاريخية تظهر عدة مرات لديه مثل شخصية الملك فاروق، الذي ظهر في إحدي الروايات باسم الملك السابق فيروز، وفي رواية أخري أطلق عليه اسم "الضخم". هكذا كان البطل لدي موديانو يحمل أكثر من اسم في الرواية الواحدة في محاولة للتخفي. وبخلاف أسماء الأشخاص التي تتكرر، فأسماء الشوارع والبارات والحانات الليلية تتكرر أيضا. يهتم موديانو كثيرًا بالوصف في أعماله، ويحاول أن يرسم لقرائه الأجواء المحيطة بأبطاله، وكان يولي اهتماما كبيرا بوصف ملابس شخصياته، والتي كانت أحيانا سببا في لفت الأنظار إليهم والتسبب في بعض المشكلات. يتميز الوصف عند الكاتب الفرنسي بالحيوية، ويعطي للقارئ إحساسًا بالحركة، ففي إعفاء من عقوبة، عندما يدخل الطفل لأول مرة المنزل الذي ستتركه فيه والدته، لا نجد تتابعا في الوصف بل يتماشي مع حركة الطفل نفسه وحالة الذهاب والعودة بين الأشياء الموجودة في المنزل والموجودة خارجه. اهتم موديانو كذلك بوصف الأماكن والأشياء المحيطة بشخصياته، كعلب السجائر أو الساعات أو السيارات، الأشياء التي تلعب دورا في استعادة البطل لذكرياته وأحيانا لذاكرته. كثيرا ما شبه الكاتب أبطاله بالفراشات وبالفئران، فهم دائما فريسة وعرضة للمطاردة والاصطياد. أسلوب يتسم بالبساطة يتسم أسلوب موديانو بالبساطة والوضوح، إذ يري أن كثرة الشخصيات المضطربة والأحداث المتداخلة في أعماله تستدعي أن يقول ما يريد بأقل كلمات ممكنة، ما جعل كتاباته دقيقة وموسيقية. اختار الكاتب منذ أول أعماله أن يكون المتحدث باسم أبناء جنسه، ولم يتوقف عن الإشارة إلي معاناتهم وظل صراخهم يتردد في أعماله، وكأنه لم يرغب في أن يطويهم النسيان، وكأن التكرار الذي لجأ إليه نوع من مقاومة النسيان وإدانة لكل الجرائم التي ارتكبت في حقهم. رغم ذلك، لم يدافع عنهم طوال الوقت، ولم يقدمهم دائما في صورة الضحايا الأبرياء، بل علي العكس فقد ظهر في رواياته يهود مذنبون، منهم القتلة والمهربون والأشقياء، وهم نتاج مجتمع فاسد، لدرجة أنه اتهم بمعاداة السامية، فأعرب في أحد الحوارات عن عدم عدائه لإسرائيل، ولكن وجودها أثبت أنه مع توقف اضطهاد اليهود أصبحوا قادرين علي أن يكونوا عسكريين ورجعيين وعنصريين. الازدواجية لدي موديانو نتجت عن ازدواج نشأته، فهو مسيحي في عيون اليهود لأنه تم تعميده ويهودي في أعين المسيحيين لديانة والده. وإذا كان قد اختار أن يعيد إلي الأذهان أسطورة اليهودي الهائم، فإنه استطاع أن يخلق عالمه الخاص الذي عرض فيه معاناة بشرية بأسلوب فريد، ليؤكد أن الإنسان مهما اختلفت أصوله وأعراقه يمر بنفس المعاناة والآلام وإن تغيرت الوجوه وتبدلت الأدوار.