بفوز باتريك موديانو ظلت فرنسا في المقدمة في عدد الحاصلين علي جائزة نوبل للأدب .. هكذا تباهي الفرنسيين بكاتبهم الحاصل علي نوبل مؤخراً و حملت معظم مانشيتات المجلات و الجرائد الصادرة باللغة الفرنسية: نحن في الصدارة بخمسة عشر لقباً ذهبياً بينما تأتي الولاياتالمتحدة ب 12. رغم ذلك فباتريك ككاتب لم يكن مل السمع و البصر دائماً لم يكن في دائرة الوهج و لا ناشط في الفعاليات الثقافية طبيعته ككتاباته يغزل ببطء و بهدوء مؤلفاته علي نول عريض في دأب بروستي و بلزاكي الطابع " نسبة لمارسيل بروست و بلزاك اللذان اتسما بالجلد في الكتابة علي طريقة الرهبان " حتي أسمي بيير ديميرون أسلوبه بالموديانيه عالم موديانو هو عالم اللاجذور , التيه . المرايا , الإسقاطات اللانهائية عالم يعيد تركيب بناء الذكريات الضخم و لايعبأ بالمستقبل عالم شاخص نحو الماضي هو أيضا لم يكن متحمساً لتجربته السينمائية الوحيدة في مشاركة لوي مال كتابة سيناريو " لوسيان لاكومب " رغم أن الفيلم حظي بتقدير نقدي. بعض النقاد كثيرا ما اتهموا موديانو بأنه سقط أسير التيمة الواحدة و كأنه سيزيف فاقد للذاكرة .. و لكن لم يلعب أحد منذ بروست بتيمة الذاكرة بهذا الاقتدار مثل فعل موديانو , شخوصه دائما قلقة مضطربة ملعقة بحبل خفي في بندول الزمن.. ما بين فقدان الذاكرة الكلي و الجزئي و الهويات المتعددة و الهروب المستمر اللاهث ورحلة البحث يدور عالم هذا الرجل .. في رواية " الحي الضائع " التي تدور أحداثها في باريس ما بعد الحرب العالمية الثانية يصل أمبروز جيز كاتب روايات بوليسية إنجليزي ليقابل ناشره في مدينة هجرها سكانها .. مدينة تنقطع فيها الكهرباء و تجول فيها الأشباح يدخل القاريء شيئاً فشيئاً في عالم موديانو حيث نكتشف أن أمبروز ما هو إلا رجل فرنسي كان يدعي جان ديكر تطارده هلاوس و ذكريات و أطلال ماضيه المتداعي ينجذب تدريجيا لعالمه القديم كالدرويش و يجول في المدينة المتهدمة الهاذية تمر من جنبه سيارة جورج مايو صديقه الراحل الكابورليه و ضحكاته يهرع للحاق بالسيارة التي تتلاشي و ضحكات ركابها تتبدد في الهواء. الولوج لعالم موديانو يحتاج لقارئ يقظ حتي لا ينزلق بقدمه إلي قصر التيه حتي لا يقع في حيرة شخصياته .. إن أبطاله دوماً علي حافة اليأس محاولين التعلق بجزع بأهداب و تلابيب عالم متصدع منهار .. ذاكرة تنمحي و تتآكل ببطء و سباق متسارع الأنفاس للحاق بما بقي.و كما وصفه أحد النقاد : إن موديانو ماهراً جدا في أعادة تركيب الأيام الماضية بينما لا يعبأ بالأتي " في رواية المنزل الحزين شمارا العائد من الجزائر ينتقل بين بنسيونات باريس الرخيصة الرثة لا يعرف له إسماً محدداً يتحدث بلغة تمزج ما بين الفرنسية والعربية و أحيانا الأمازيغية أصابته الحرب الجزائرية بلوثة فيمشي مرددا أوامر القادة من الطرفين يحاول أن يتذكر ماضيه و يمسك بهوية واحدة وسط هويات كثيرة متناثرة في مشهد بديع يصف فيه موديانو كومة من بطاقات الجنود المفقودين الملقاة علي أرضية أحد أقسام الشرطة. في كتابه " دفتر العائلة Livret de Famille" الذي يعلن بوضوح عن ماهية الروائي فهو كما وصفه هو حوار هو مزيج من السيرة الذاتية و الفانتازيا .. يبدأ الكتيب بذهابه هو وصديق له لتسجيل إبنته في لحظة يتجمد فيها الزمن تماما عند الرواي و يشد قارئه بعنف من يديه ليلجا عالم ساحر صاخب يصيب بالدوار. والدته فنانة مسرحية وممثلة فودفل نصف مشهورة تسمي لويز كولبيين " ظهرت في عدة أفلام لبيكر و جودار " تعاني هي وأبيه من ملاحقة الجستابو يضطرا لتغيير هويتهما و في أحد مشاهد هروبهما من ملاحقة النازي يتذكر حكاية كالبازل الناقص حكاها له عن سهرة صاخبة شهداها للملك المصري فاروق. كتيب أو دفتر العائلة لموديانو هو المدخل لفك شفرة البطل الحائر و المأزوم المنحشر بين عالمين أو أكثر الذي يبحث في أوراقه بلهفة و ارتياع عن ما بقي منه و ما طواه النسيان. لقائي الأول كقاريء بموديانو كان في رواية " شارع المحال المعتمة " الحائزة علي جائزة جونكور ابتعت الرواية من دار الهلال بشارع النبي دانيال بالإسكندرية هذا الشارع غير المعبد الملتف كحية الجرس و الذي يبتلع في جوفه الكثير من الأسرار و الأقاصيص المرعبة يشبه لحد كبير أماكن موديانو الأسيرة في أزقة باريس المظلمة .. حكاية عن قبر الإسكندر الذي جن به العديد من الباحثين و أتلف خلاياهم العصبية و حكاية عن سيدة كانت عائدة من سهرة مع زوجها . دلفا سويا إلي الشارع المظلم الذي فتح فمه ككراكن إغريقي عملاق و ابتلع السيدة في الثمانينات. ما أذكره أني كنت أتسلي بقراءة الكتاب في رحلة قطار ما بين القاهرةالإسكندرية .. بطل الرواية بدون إسم فهو فاقد الذاكرة و الهوية رب عمله أسماه " جوي رولان " يذهب في رحل طويلة يجوب فيها العديد من البلاد بحثا عن كينونته يجد لنفسه عدة هويات و عدة ميتامورفوسات يفتر حماسه أحيانا حتي يكاد يستسلم ثم يعثر علي دليل يفتح أمامه كوة جديدة من الأمل ..في أثناء بحثه يعثر علي صورة علي شاطيء الرفييرا يجد فيها نفسه و معه بعض الأشخاص الذي يتذكر أسمائهم و لكن لا يتذكر ماذا كانوا يفعلون إلا شخص واحد في أقصي الصورة .. يسأل عنه فلا يجد من يعرف إسمه فقط وجهه مألوف ... هو رجل يظهر في حياتك يتقاسم معك لحظات يومض و ينطفيء دون أن يترك أثراً ليس له وجود حقيقي فقط وجوده مرتبط بالحدث لذا استحق لقب " رجل الشواطيء" عندما وقعت عيني علي هذا التعبير تركت الرواية تسقط ووقفت بشكل مفاجيء بأنفاس متقطعة أقول بصوت واضح : رجل شواطيء !!! حتي لاحظ جاري في المقعد و سألني : ماذا تعني ؟ فلم أجبه .. هذا التعبير كان مفتاحي لولوج عالم موديانو و الانزلاق فيه حتي الثمالة .. فأنا أشاركه و أقاسمه القلق اليومي من تفتت الذاكرة و ضياعها و سقوط الوعي في لجج النسيان. أذكر إني عندما أوغلت في عالمه أكثر في عام 2003 أرسلت له رسالة علي بريده الإليكتروني أبدي إعجابي المفرط به ككاتب و أسأله لماذا لم يستفض في الحديث عن ما جري في سهرة الملك فاروق رد الرجل بعد عدة أسابيع بعد أن يأست.. مرحبا جدا و سعيدا بأن هنا قارئ من مصر يقرأ له و أنه لم يتخيل و هو يكتب أن هناك قارئ ميديتراني سكندري سيقرأ له و قال لي جملة بديعة أسفت لعدم ضياع رسالته " ربما وطأت قدمك مربعا وطأته قدم أبي في يوم ما علي أرصفة ميناء الإسكندرية فتلاقيتما " و أردف أن أن حدوتة الملك فاروق ووالده اليهودي الهارب من الجستابو وأمه الفنانة لم يعلق منها في ذاكرته إلا ما رواه في الكتاب و إنها ربما أكتبها بشكل أوسع في يوم قريب. استدعيت لحظتها جملة ميشال ريفاتير الشهيرة : أن الكاتب وهو يكتب يتخيل قارئاً ما وهميا يدس له شيئاً ما بين ثنايا النص وهو واثق أنه سيأتي يوم من الأيام ويظهر هذا القارئ و يقرأ ما كان في مخيلة الكاتب لحظة الخلق "