غرفة عمليات حزب الوعي تتابع سير العملية الانتخابية    "التخطيط" تستقبل بعثتين من المفوضية الأوروبية لإجراء مباحثات موسعة حول الإصلاحات الهيكلية    إيران: نرغب في اتفاق نووي سلمي مع أمريكا دون التهاون في الأمن القومي    حماس: ذكرى اغتيال ياسر عرفات تذكرنا بواجب الوحدة ومواصلة درب الشهداء    بايرن ميونخ متفائل بشأن تجديد عقد أوباميكانو رغم اهتمام ريال مدريد    طولان يستدعي نبيل والدبيس وحسام حسن لمنتخب مصر المشارك في كأس العرب    سحب 1199 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    ضبط 23 شركة سياحة و3 مكاتب لاتهامها بالنصب على المواطنين    حالة الطقس في السعودية اليوم الثلاثاء    انتخابات النواب 2025.. رئيس مركز ومدينة البدرشين يساعد مسنًا للإدلاء بصوته    بحضور نجوم الأغنية الشعبية.. تشييع جثمان المطرب إسماعيل الليثي من إمبابة    إدارة التراث الحضاري بالشرقية تنظم رحلة تعليمية إلى متحف تل بسطا    تحرير 110 مخالفات للمحال غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    بعد تعديلات الكاف.. تعرف على مواعيد مباريات المصري في الكونفدرالية    «العمل»: نحن شركاء أساسيين بجهود تحقيق العدالة في التنمية المستدامة    إقبال متزايد في اليوم الثاني لانتخابات النواب بأسوان    الشرع يقدم "دمشق" لإسرائيل تحت ستار مفاوضات أمنية واقتصادية.. وبرلمانيون يحذرون من مساس السيادة الوطنية    محافظ قنا وفريق البنك الدولى يتفقدون أماكن الحرف اليدوية    اليوم.. استئناف متهم بالانضمام لجماعة إرهابية في الجيزة    مشتريات أجنبية تقود صعود مؤشرات البورصة بمنتصف تعاملات جلسة الثلاثاء    الزمالك يُهدد اتحاد الكرة بسبب أحمد سيد زيزو    البداية بالموسيقار عمر خيرت.. انطلاق مهرجان حديقة تلال الفسطاط الشتوي الجمعة المقبلة    القومي لثقافة الطفل يكشف البوستر الرسمي لملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية    الفنان تامر عبد المنعم يدلى بصوته فى انتخابات مجلس النواب 2025.. صور    بعد قرأته للقرأن في المتحف الكبير.. رواد السوشيال ل أحمد السمالوسي: لابد من إحالة أوراقه للمفتي    المتحف المصري الكبير يتخطى حاجز ال100 ألف زيارة خلال أسبوع من افتتاحه (صور)    تحديد ملعب مباراة الجيش الملكي والأهلي في دوري أبطال أفريقيا    «الرعاية الصحية»: 31 مليون فحص بمعامل المرحلة الأولى لمنظومة التأمين الشامل    حسام البدري يفوز بجائزة افضل مدرب في ليبيا بعد نجاحاته الكبيرة مع أهلي طرابلس    شكوك بشأن نجاح مبادرات وقف الحرب وسط تصاعد القتال في السودان    وزير الري: أي تعديات على مجرى نهر النيل تؤثر سلبًا على قدرته في إمرار التصرفات المائية    وزير الصحة: مصر تمتلك منظومة متكاملة لتسجيل ومراقبة جودة الدواء واللقاحات    الصحة: الخط الساخن 105 يستقبل 5064 مكالمة خلال أكتوبر 2025 بنسبة استجابة 100%    وفد حكومي مصري يزور بكين لتبادل الخبرات في مجال التنمية الاقتصادية    فاينانشيال تايمز: الاتحاد الأوروبى يعتزم إنشاء وحدة استخباراتية جديدة برئاسة فون دير لاين    وزيرا الأوقاف والتعليم العالي يشاركان في ندوة جامعة حلوان حول مبادرة "صحح مفاهيمك"    ارتفاع حصيلة ضحايا الإعصار فونج وونج بالفلبين إلى 18 قتيلا    إصابة 7 أشخاص فى حادث مرورى مروع بطريق أجا – المنصورة    ماذا قدم ماكسيم لوبيز لاعب نادي باريس بعد عرض نفسه على الجزائر    "طلاب ومعلمون وقادة" في مسيرة "تعليم الإسكندرية" لحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب 2025    بسبب أحد المرشحين.. إيقاف لجنة فرعية في أبو النمرس لدقائق لتنظيم الناخبين    معلومات الوزراء: تحقيق هدف صافى الانبعاثات الصفرية يتطلب استثمارًا سنويًا 3.5 تريليون دولار    بينهم أجانب.. مصرع وإصابة 38 شخصا في حادث تصادم بطريق رأس غارب    انتخابات النواب 2025، توافد المواطنين للإدلاء بأصواتهم بمدرسة الشهيد جمال حسين بالمنيب    أسعار الأسماك بسوق العبور اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    هدوء نسبي في الساعات الأولى من اليوم الثاني لانتخابات مجلس النواب 2025    ضعف حاسة الشم علامة تحذيرية في سن الشيخوخة    حظك اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر.. وتوقعات الأبراج    بعد إصابة 39 شخصًا.. النيابة تندب خبراء مرور لفحص حادث تصادم أتوبيس سياحي وتريلا بالبحر الأحمر    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    رد غامض، حسين الشحات يثير التساؤلات حول مصيره مع الأهلي    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متراس الأرواح
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 10 - 2014

في محاولة أرجو لها النجاح لكتابة رواية جديدة تستند في بعض شخوصها وسردها على رواية سابقة لي هي «مزاج التماسيح » اكتب هذا العمل بعنوان «متاريس مصرية « وكما يعلم كل من قضى ردحا في بلد تناشوته الحرب الأهلية أن « الحواجز الأمنية وكمائن المتحاربين » يُطلق عليها تعبير عسكري هو « المتاريس » وقمت بتهجين نص جديد أولفته وولدته من النص الذي أشرت إليه !
وفي هذا النص إضافات سردية، لها بنية رواية جديدة ، كما قمت ببعض الحذف من الرواية السابقة حتى أخلصها من ترهلها وابتعد – قدر الإمكان – عن الثرثرة (!)
أمل أن يتداخل النصان ويتعشقان في بعضيهما!!
الكتاب الأول
( من مزاج التماسيح )
«‎حينما تقول لي ، بأنك ذاهب إلى فاس ، فهذا يعني أنك لن تذهب إلى فاس، لكني علمت أنك ذهبت بالفعل إلى فاس ، فلماذا كذبت عليّ، وأنا كنت أظنك صديقي !»
أمثولة مغربية متراس الأرواح
كلاشينكوف روسي فوق مذبح الرب
يستيقظ القمص ملاك عبد المسيح كل صباح في الساعة السادسة (تقريبا) في الغرفة المخصصة له والملحقة بكنيسة سيدة الآلام «لطائفة الأقباط الأرثوذكس» (1) في شبرا مصر ( كما هو مكتوب بخط يخلو من الجمال على اللوحة النحاسية الصدئة المثبتة على الحائط الحجري من الناحية اليمين وأنت داخل بجوار الباب الحديدي القديم).. اليوم ، فعل الشيء ذاته فهو رجل العادات المستقرة: طسّ وجهه بالماء البارد من طشت الصاج الأبيض الموضوع على كرسي بالقرب من سريره الحديدي، ملأته له بالماء، أخته العانس تفيدة عبد المسيح قبل أن تأوى إلى مرتبتها الموضوعة على الأرض بجوار فتحة المطبخ، الذي ليس له باب و بالقرب من الستارة السوداء التي تحل محل الباب للمرحاض التركي . أصرّت هي ،على أن تعلق على مسمار قريب من فتحة بيت الأدب - كما تحب أن تطلق على المرحاض التركي - أوراق الجريدة القديمة وقد قطعتها قطعا متساوية، مربعة ، بالمقص الذي ورثته عن أمها المقدسة دميانة. أصرت تفيدة على إلغاء ماسورة المياه التي كانت موجودة بجوار فتحة بيت الأدب . كان الغرض الأساسي منها، أن يستنجي الشخص بعد التبرز، فسدّت فتحة الحنفية بقطعة من عجين القربان الذي كانت تجهزه في مساء السبت وتتركه حتى فجر الأحد لتخبزه في الفرن الصغير المقام في الفناء خلف مبنى الكنيسة، بعد أن تختمه بالختم المقدس (صليب مسدس الأذرع) ، سلمه المطران شخصيا للقمص ملاك عبد المسيح حينما تم ترسيمه راعيا لكنيسة سيدة الآلام منذ سنة .. تقريبا.
وهكذا .. القمص لم يتجاوز الثلاثين، ولا يجرؤ على مفاتحة تفيدة في موضوع الزواج. زواجه هو ، فهي ترفض الفكرة – فكرة الزواج بالمطلق- من أساسها، مذكّرة إياه بقول الرب أن النساء من نسل حواء أدوات للشيطان في هذه الأرض،لإغراء أبناء آدم الذكور وخاصة القمامصة الذين مهمتهم في الحياة خدمة الرب ورعاية أخواتهم البنات اللاتي يرعين إخوتهن القمامصة وينظفن الكنيسة ويخبزن القربان . تفيدة تذكره بذلك مرة واحدة على الأقل في اليوم. لم يكن هو بالساذج أو الغافل عن النيات الخفية لتفيدة التي تريد الاحتفاظ به لنفسها، وبالتالي بمكانتها، كمدبرة للأبرشية- كما تحب أن تسمي نفسها،وصانعة وحيدة للقربان المقدس - والتي سوف تهتز بالتأكيد، حينما تشارك امرأة حتى لو كانت زوجته، فراش أخيها الحديدي .
تكفي النذور، التي يقدمها المؤمنون لبيت الرب- عبر خادمه باعتباره ممثلا أرضيا للدين – تكفي عادة بالاحتياجات الأساسية لمطبخ تفيدة(أحيانا تكون النذور بضعة شموع؛ وتعتبر تفيدة ساعتها ، أنها علامة على غضب الرب على البلد) لكن في معظم الأحوال تكون النذورخليطا معقولا من الطعام والخضراوات والفاكهة والنقود.هذه هي أحلى لحظات اليوم كله للقمص ملاك. المفاجأة اليومية. لم يكف أبدا كل يوم عن تخمين الأشياء التي سيأتي بها المؤمنون إلى المذبح وفاء لنذورهم، يفرح كالأطفال حينما تصيب تخميناته. لكنه لم يزعل أيضا حينما تخيب توقعاته.يقول الدنيا كده ، حكمة ربنا.
اليوم يحس بروح غريبة تحوّم فوقه.يحس أنها نذير بشيء ما غامض ومخيف.. يكاد أن يتراجع إلى أمان غرفته، لكنه يجد نفسه في مدخل الكنيسة تدفعه قوة خفية، يتمتم بتعويذته القصيرة «السلام عليك يا مريم» رغم إحساسه أنه يريد أكثر من هذه التعويذة؛ يفكّر أن ينذر للرب ، وهو يخرج المفتاح الكبير الحديدي من جيبه و يرمق جندي الحراسة وقد استكان بملل كسول على ذراع مدفعه الرشاش . لمح في الوقت نفسه مجموعة من المؤمنين ينتظرون فتح الباب ، سجّل عقله المتوتر أجسادهم الغريبة عليه ( وجوههم مخبأة نصفها خلف كوفيات كثيفة - تعللا ببرد الصباح- وتنسدل على أجسادهم، الثياب الواسعة الداكنة) انزعج لأنه لم يستطع بسبب خديعة الكوفيات أن يحدس من هم . تبعوه مباشرة إلى الداخل وأحس بأطراف ثيابهم تحف بجبته الكهنوتية، فلمها حول نفسه مغتاظا، دون أن يلتفت للخلف.أنفاسهم الغريبة في قفاه.أحدهم أغلق باب الكنيسة من الداخل وشعر بصوت الترباس الكبير الصدئ يزيّق في عروقه. التفت للخلف محتجا، لم يستطع أن يكمل التفاته فقد دفعته للأمام يد قوية؛ ليس بغلظة لكن بحسم. وجاءه الصوت الآمر «امشي على طول يا قُدسْ أبونا» الصوت محايد واضح النبرات ليس به تهديد لكنه أحس بالنبرة الحاسمة في مخارج ألفاظه وذبذبتها الواطئة التي تكفي لأن يسمعها بوضوح .يسيرون جميعهم في الممر الضيق الواصل من الباب، والذي يعبر بالواحد بين صفوف الدكك الخشبية اللامعة من الِقدَم والتى استمعت لمناجاة الخطاة للرب، وهمس أصواتهم الملحاحة التائبة الناذرة . وقف القمص، أمام ستارة الهيكل الأرجوانية الداكنة والمطرز عليها بالخيوط الحريرية الذهبية، صورة العذراء سيدة الآلام، مفكوكة الشعر، ممزقة الثياب، تتطلع بحزن إلى ابنها يسوع المصلوب على الخشبة ومكتوب تحته باللغة القبطية والعربية: صناعة المعلم يعقوب الأسيوطي عام الف وخمسمية وستة للشهداء في شهر بشنس مايو يونيو الف وسبعمية وتسعين على ميلاد سيدنا يارب اذكر تعب عبدك ( مكتوبة بنفس واحد بدون نقاط أو فواصل)
وقفوا خلفه. أحس بالحركة .التفت بجسده كله؛ ليراهم، سجدوا جميعهم وحوائجهم مركونة أمامهم. تحول رعبه الصامت إلى غضب حارق وهم أن يصيح فيهم منفسا عن الخوف الذي شل تفكيره منذ أن قرر أنهم من « الجماعة الإرهابية » وإنهم قاتلوه لامحالة.
فقد قتلوا من قبل قمامصة في الصعيد وحاولوا إحراق كنيسة بقمصها.
رمق الساجدين وغيظه ينداح بسرعة، ليحل محله فضول قوي. رجعت إليه شخصيته الكهنوتية -أو فلنقل استجار بها بقوة إرادته-.. ركع أمام الهيكل يتلو صلواته ويقوم بفرائضه، وإن كان صوته مازال يرتعش.نهض وباركهم «فلتحل علينا جميعا بركة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وتشفع لنا عنده أم الإله الطاهرة ستنا العذراء» نهض الساجدون وركعوا يتقبلون البركة.مد لهم يده بحكم العادة ، فقّبلوا الخاتم المنحوت عليه رسم العذراء .
قال صاحب الصوت الآمر «عاوزين نعترف».
هذه المرة لم تكن نبرات الصوت آمرة ، بل مستعطفة.
همس له « كلكم ؟ »
أجاب « إحنا مش كتير ..خمسة»
الصوت من خلف الكوفية التي تغطي الوجه غريب عليه تماما.هو يعرف أصوات رعيته ويستطيع أن يستدل على صاحب الصوت أو صاحبته حتى من خلف الستارة التى تفصله عن الشخص المعترف.هز رأسه بصمت مشيرا إلى مكان الاعتراف .أزاح الستارة ودلف إلى الهيكل ليضع فوق الجبة الوشاح الكهنوتى الخاص بالاعتراف .ركع أمام المذبح يتلو صلاة الاعتراف التى طالما قالها بشكل ميكانيكي، وعقله غالبآ ما يكون منشغلآ بأمور أخرى . اليوم صلى بإخلاص وببعض الحرارة .لم ينس أن يشكر العذراء - والمسيح - على حمايتهما له هذا الصباح .
اعترف صاحب الصوت الآمر، بأنه قد سرق السلاح الذي معه والذي يخبئه داخل الصرة التي تركها بالقرب من الهيكل. قال إنه يطلب من الرب المغفرة من أجل السرقة والتي قام بها لأنه يريد أن يدافع بسلاحه عن بيت الرب وعن خدّام الرب وعن إخوته في المسيح.قال إنه يتمنى أن لا يستخدم سلاحه في القتل عمال على بطال ( هذا تعبيره ) قال إنه لن يتردد فى القتل، إذا ما وجد ضرورة لذلك خلال قيامه بمهمته في الدفاع عن دينه وعن إخوته في المسيح.قال له إنه يريد منه، أن يبارك سلاحهم، وأن يمسحه بالزيت المقدس .
القمص ملاك عبد المسيح يستمع وقد انتابته حالة غريبة .. أحس بأنه عاش هذا الموقف من قبل. قال لنفسه (لعلي عشته في عصر الشهداء).. لم يدهش كثيرا من اعترافات الملثم فقد سمع همسا مثيرا وكثيرا عن جماعتين مسلحتين قبطيتين.واحدة تسمي نفسها فرسان مار جرجس،وجماعة جديدة أخرى ، أطلق عليها الناس اسم «المتلتمون»
خلف البارفان، المشربية القديمة الخاص بالاعتراف يستمع إلى الملثمين. يباركهم بعد أن يحللهم من خطاياهم.يحس وهو يستمع إلي اعترافاتهم (وكلها متعلقة بسرقة السلاح وأشياء أخرى ليست مهمة) بوطأة الثقل الذي ينزاح من على صدره ويبتعد عنه إلى مسافة بعيدة وإن كانت غير آمنة، مخاوفه وتوتراته وإحساسه بوحدته الذكورية ورغبته في امرأة / زوجة تقاسمه فراشه ( الحديدي) وهواجس تفيده، واستلابها لحياته وتفاهة مرتبه، وحقارة غرفته التي تقتحمها روائح المرحاض وشخير تفيدة واضطراره(لاستدانة) نبيذ المناولة الذي يمزجه بالماء في القنينة ليعيد ملأها قبل أن يستطيع الحصول على الميزانية الجديدة،لشرائه من المقدس جرجيوس ( ولا هو مقدس ولا حاجة كما يفكر القمص دائما ) جرجيوس، صاحب محل بيع الخمور على ناصية الشارع الذي يقول له ممازحا بلؤم «ربنا حط النعمة في قلوب المؤمنين يا بونا»
لذلك رغم غيظه من حظر التجول ومن الذين يفرضوه على المدينة، أحس ببعض الراحة الخفية، لاضطراره المكوث أطول وقت ممكن في البيت ، فلن يضطر لأن يستمع في الشارع من الصبية إلى نشيدهم، حينما يلتقونه»شد العمة شد ، تحت العمة قرد» .
الشارع يخيفه؛ لهذا يطور من روتينه اليومي في المساحة الصغيرة المحددة له فيما يطلق عليه؛ فسحة البيت أو المندرة كما تقول تفيده ؛المثلث الذي يضم المرحاض وترابيزة السفرة (طبلية عالية القوائم) وغرفته، ثم الفناء الذي يفضي إلى الكنيسة.
جزء من روتينه اليومي هو تصفح سريع لكتبه الدينية القليلة. الاستماع الطويل للراديو الترانزستور الكبير الذي أصبح خبيرا الآن بمحطاته ويضعه على الترابيزة الصغيرة بجوار فراشه. هذه الحياة التي يدرك بعقله الذكي، بسيط الثقافة ، واسع الإدراك حاد البصيرة ؛أنها لا تليق بالبني آدميين وإن كان لا يعرف لماذا. هذه الحياة أصابته بحالة من الغضب المكتوم،لا يجد أمامه سوى تفيدة لينفجر فيها؛ فتنسحب عايطة إلى المرحاض (حيث لا توجد لها غرفة تستطيع أن تنسحب إليها) ويسحب هو نفسه مكسوفا، إلى غرفته لا يدري ماذا يفعل، ما يفعل، بحياته وهو ما زال بعد في منتصف الثلاثينات من عمره .
قال له رئيسهم «عاوزين نتناول» فدخل مرة أخرى إلى المذبح وركع أمام القربان الملفوف في فوطة بيضاء نظيفة تفوح منها رائحة البخور. في الناحية المقابلة قنينة النبيذ ماركة «أباركة القسيس» ونادى الرب: تقبل يا ربنا وسيدنا يسوع المسيح رغبة أولادك الخطاة ، أن يأكلوا من جسد المسيح ويشربوا من دمه . وكرر قول المسيح لتلاميذه في مأدبة العشاء الأخير وهو يقدم لهم الخبز بعد أن كسر وناولهم «خذوا هذا هو جسدي « واخذ القمص كأسا مثلما فعل المسيح وشكر الرب مثلما شكره المسيح ، وناولهم كما ناول المسيح تلاميذه فشرب التلاميذ كلهم وقال لهم القمص كما قال المسيح لتلاميذه « هذا هو دمي ».
وقفوا صفا مستقيما وقد أحنوا رءوسهم.وقف قبالتهم وقدم لهم القربانات الصغيرة بيده اليمنى بينما أمسكت اليسرى بالفوطة البيضاء تحت «القربان» (2) ؛ حتى لا تتساقط الفتافيت المقدسة على الأرض .. كل واحد من الملثمين الآن، أزاح لثامه وهو يركع على الأرض ليرشم علامة الصليب فوق صدره ويمضغ القربان بتمهل .
قبلّوا يده وباركهم راشمآ فوقهم علامة الصليب .خرجوا متقهقرين وجوههم معلقة على ايقونة العذراء .حينما وصلوا بالقرب من الباب،انحنوا مرة أخيرة كأنهم يطلبون الإذن في الخروج راشمين علامة الصليب على صدورهم.استداروا.فتح أحدهم ترباس الباب فانهمر الضوء كصفعة مفاجئة على وجوههم الطالعة من الظلمة الخفيفة الداخلية.أحنوا رءوسهم وأحكموا وضع الكوفيات على وجوههم وسقطوا في ضوضاء زحام النهار المبكرة .
ظل واقفا لحظات طوال يتابع الكوفيات الصوفية الداكنة وهي تهبط وترتفع برقة وبإيقاع مرتبك.
( المتاريس -1)
سوف يتوجه القادمون لتوهم من كنيسة القمص ملاك،مباشرة، إلى سيارة نصف نقل تيوتا قديمة لكنها ما تزال بحالة جيدة تنتظرهم في نهاية الشارع الصغير الجانبي الهادئ.. السائق هو سائقهم الذي اقلهم طوال الليل من الحدود الليبية المصرية ، بعد أن اشتروا السلاح من هناك ، ذاك الذي تم تهريبه إبان الثورة وبعدها بواسطة تجار سلاح محليين ومصريين واسرائليين، ودوليين.
يجلس السائق، أمام المقود ومعه «مساعده» بجواره، وتحت أقدامهما، مدفعان رشاشان صغيران ماركة عوزي الإسرائيلي . يدخنان في صمت وأمامهما على التابلوه كوبايتين شاي اسود ثقيل محلى بسكر كثير، اشترياه من المرأة الجالسة على الجانب الآخر من الرصيف ؛ تحلق حولها الشاربون يجلسون على الأرض أو على قطع من الطوب والأحجار.
العيون الأربعة للسائق ومساعده ترمق الطريق بدقة وتيقظ. لمحت العيون القادمين الملثمين . أحكم السائق ومساعده كوفيتيهما فوق وجهيهما بعد أن كانا قد أزاح كل منهما كوفيته ليشرب شاي. أدار السائق مفتاح الكونتاكت ، اهتزت السيارة ، ثم انتظم موتورها بسلاسة الآن .
وصل الملثمون، إلى السيارة . دخلوا إلى صندوقها المغطى بغطاء قماشي سميك ووتر بروف .سأل السائق دون أن يدير رأسه إلى الخلف : تمام؟ أجاب صاحب الصوت الآمر ؛ خدنا البركة. المسيح معانا.
كانت هذه إشارته للسائق أن يتحرك. رشم السائق بسرعة علامة الصليب على صدره وتبعه مساعده ، وانطلقت السيارة بسرعة معقولة تنفيذا لأمر صاحب الصوت الآمر « خليك هادي وما تستعجلش عشان ما تلفتش النظر لينا لحد ما نمسك طريق الواحات.»
ستمر السيارة عبر دروب غير مطروقة ، حتى تتحاشى حواجز ومتاريس غير موثوق في مواقفها وولاءاتها، خاصة بوجود سلاح كثير ومتنوع في السيارة. بعضه تم شراؤه وأكثره تمت سرقته ، ليس بواسطة الملثمين لكن بواسطة «رفاقهم» ، عبر هجمات مختارة بعناية على مراكز الشرطة البعيدة غير المؤمنة جيدا .
وستمر السيارة بسلاسة عبر مناطق مأهولة ومناطق غير مأهولة ، تركب طريق أسيوط -الواحات ..الطريق القديم الذي أصبح الآن مدقا خطرا لا يعبره سوى السائقين الُمدربين. لا يعبرونه بمفردهم بل دائما في حماية مسلحة قد يستأجرونها من ميليشيات، وجماعات مسلحة هذه مهمتها ؛ أو في رتل من السيارت العابرة والمحملة بمواد للتجارة من غذاء وكساء أو سلاح أو كل هذه الأشياء معا. غالبا ما تتكون هذه الأرتال، من سيارات سريعة نصف نقل ، لا تقل عن خمسه، وركابها مسلحون تسليحا جيدا ..وهم أيضا محترفون مقاتلون أشداء ..
لكن.. هذه سيارة مفردة وحيدة.. وركابها يعرفون مدقات الطريق ومسالكه الآمنة وتلك الغير الآمنة.. هم أيضا لا يخافون القتل ..لأنهم موتى بالأساس ..
هم يتجهون إلى متراس كبير ومعروف لكل من يعبر هذا المدق بالصدفة وعن طريق الخطأ والتوهان - باسم متراس الأرواح ..
«هؤلاء « الأرواح تجد نفسها أحيان محتاجة ومضطرة ، آن تدخل إلى داخل أجساد بعض البشر الأحياء ؛ مثلما فعلوا في لقائهم – اليوم - مع القمص ملاك عبد المسيح ؛ حينما يُكلفون بمهمة ..سرقة سلاح ( وحسب تعبيرهم مصادرة واستيلاء ) أو قتل أو خطف بعض البشر ألأحياء ، لأسباب لا يعرفها سوى القادة في « مجمع الأرواح» الذين يتواجدون من وقت لآخر في متاريس الأرواح المختلفة التي بدأت تظهر فجأة ، أو تختفي فجأة أيضا، في الوادي والصحراء ..
متراس الأرواح -2
السبب آن سيارة ملاكي كانت قادمة من الفيوم ،متجهة إلى الصعيد ، إلى أسيوط،تاهت – ليلتها - وخرجت عن المدقات الصحراوية المعروفة والمطروقة، لتجد نفسها – وركابها – أمام حاجز رملي عليه إضاءة متوهجة مثل تلك التي تنبعث من مصابيح الهالوجين اللامعة الإضاءة.. اقتربت السيارة ببطء وحذر، حتى توقفت تماما أمام الحاجز الرملي ..ركابها ثلاثة رجال وسيدتان في طريقهم إلى اصطبل عنتر .. أي القرية الصغيرة الواقعة أسفل الجبل الغربي بالقرب من أسيوط .
بالسيارة سلاح كثير وطلقات رصاص كثيرة .. والمقصد في اصطبل عنتر حيث يُقام أسبوعيا سوق للسلاح يرتاده «طلاب السلاح» من كل فج عميق بالسيارات رباعية الدفع والمسلحة أيضا ..
وقفت السيارة أمام الحاجز ، وانزل السائق ومن بجواره زجاج النافذتين في انتظار من يتقدم من خلف الحاجز ويأمر الذين في السيارة ، بما يعن لهم من أوامر .لكن أحدا لم يأت لركاب السيارة بل سمعوا اصواتا ، مجوفة كما لو كانت صادرة من ميكرفونات ديجيتال، تأمرهم بالنزول من السيارة، والتوجه إلى فتحة صغيرة على يسار الحاجز الرملي والمروق منها للتفتيش ( كما أعلنت الأصوات )
تردد الركاب واخذوا في الهمس فيما بينهم وسحبوا سلاحهم ..
فاجأتهم الأصوات « شايفينكم بتسحبوا السلاح ..انتم خمسة اتنين نسوان وتلاتة رجال ..بس احنا أكثر ونقدر نؤذيكم في غمضة عين. فبلاش تهور ..عشان احنا مش مؤذيين إلا للي يحاول أذيتنا .. فمن الأحسن لكم تسمعوا الكلام وتيجوا ناحية الفتحة اللي على الشمال»
شخص واحد فقط هو من رجع بالسيارة بعد ذلك ليرو حكاية تبدو مرتبكة وغير منطقية عن حاجز تسكنه الأرواح ..وانه شافهم بعينه لكن لم يستطع التأكد بلمسهم ، لأنهم يذوبون حالما تمسهم يده (هكذا زعم )وقال إنهم يتحركون بخفة ككائنات مضيئة ، وإنهم يتكلمون لغتنا ، وبينهم حريم يتمتعون بحرية كاملة زيهم زي الرجالة .. سألوه « وكيف خرجت انت ورجعت إلينا ؟ «
لم يجب بل اخذ في ضحك صاخب ثم بكاء مرير..
فتركوه قائلين « ربنا يلطف بينا »
وشاعت حكاية الأرواح التي هى متواجدة في حاجز غامض غير محدد المكان ، وقيل انه حاجز طيار ..اي متحرك من مكان لآخر ، على مدق غير مطروق ، من مدقات أسيوط - الواحات .
وهكذا ؛ لم يجرؤ احد على خوض مغامرة البحث عن هذا المدق الغامض وحاجزه الأكثر غموضا ورهبة .فالاقتراب من حاجز، كهذا ؛ مُثار حوله أقاويل،أمر غير مستحب حتى لأولئك الذين لم يصدقوا الرواية تماما التي رواها الضاحك الباكي ، بل احتاطوا ..وظهرت لافتة لا يعرف أحد من كتبها ومن علقها ؛ على بداية مدق « يُظن « انه يؤدي إلى حاجز الأرواح ، مكتوب عليها بخط رديء ومائل وكبير : احترس ..أرواح ..
.................. ..................
(1) لا توجد كنيسة بهذا الاسم في مصر – ر.
أرثوذكس : اصطلاح مشتق من اليونانية القديمة ومعناه» الإيمان القويم أو الإيمان الصحيح « ونجد هنا بدايات « التعصب الديني « بين الكنائس المسيحية المختلفة باعتبار أن كنيسة ما تقرر أنها «الوحيدة « التي تطبق الإيمان الصحيح
.................. ..................
(2) القربان هو تقليد مأخوذ من الديانة اليهودية حيث كانت تُقدم الذبائح الحية للإله يهوه اليهودي . لكن المسيح ألغاه في العشاء الأخير حيث استبدل الخبز بالجسد المذبوح، والنبيذ بدم الذبيحة «أخذ يسوع خبزا وبارك وكسره وناول تلاميذه وقال:خذوا كلي هذا هو جسدي . وأخذ كأسا وشكر وقال: اشربوا منها كلكم ، هذا هو دمي ، دم العهد الذي يسفك من اجل أناس كثيرين لغفران الخطايا » (متى 26 ومرقس 14 ولوقا 22) واصطلاح العهد هو أيضا اصطلاح يهودي حين أقام يهوه عهدا بينه وبين اليهود . ( انظر الخروج 23 و24 ) ويُسمى الجزء التوراتي اليهودي من الكتاب المقدس للمسيحيين بالعهد القديم والجزء الثاني منذ بدء ميلاد المسيح وبقية الكتاب بالعهد الجديد . القربان هو خبزات صغيرة بخميرة خاصة ويخبز طازجا حين الحاجة إليه ويختم بخاتم الصليب ويقدم في طقوس المناولة ( ويسمى أحيانا الاشتراك أي الاشتراك في تناول ما يرمز إليه الخبز والنبيذ من جسد المسيح ودمه ) وهي القربان ورشفة من كاس النبيذ الخاص بذلك وهو نبيذ حلو ونسبة الكحول فيه ضعيفة للغاية ويباع كنوع خاص يطلق عليه ماركة « أباركة القسيس » الكاتب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.