أضحت الجامعات المصرية فى الآونة الأخيرة مسرحا للعنف المسلح ، ومرتعا للجرم المنظم، وغدا الطلبة والطالبات يحملون معاول الهدم والجرم بدلا من مشاعل النور والعلم، وأصبح مشهد التقتيل والتخريب والتدمير مألوفا، و صارت سيرة العلم و التعليم حديثا مرعبا مخيفا، وتحدى هؤلاء المجرمون هيبة الدولة وشرفها وكرامتها، من خلال محاولات تقويض سلطاتها ومؤسساتها وهيئاتها. ان السلطة السياسية فى الدولة هى التى تحتكر بصفة فعلية وسائل الإكراه المادى المتمثلة فى الشرطة والأمن والجيش والسجون وغيرها من وسائل العقاب والردع . وهذا يمكنها من السيطرة التامة على الاقليم دون منازعة من أية سلطة أخري، فالدولة - فقط - هى الكائن أى الشخص الوحيد المرخص له بموجب قواعد. وأعراف القانون الدولى الراسخة باستخدام القوة المسلحة، وذلك لحفظ النظام، وانفاذ القانون فى الحالات التى يتطلبها اللجوء للقوة المسلحة، دون سائر الكيانات الأخرى وبالطبع الافراد، الذين يعوزهم رخصة الدولة للحصول على السلاح وتملكه فى الحالات التى تحددها التشريعات الداخلية، وفى حالات أخرى الدساتير، فسيادة الدولة وهم قانونى لا يتحول الى واقع حقيقى ما لم تمتلك الدولة الوسائل التنفيذية التى تمكنها من ممارستها. فاحتكار الدولة السيدة ذات السيادة لوسائل الاكراه والجزاء، يمكن الدولة من حماية وجودها وأمنها وأداء وظائفها المختلفة، والتى يأتى فى الصدارة منهاالأمن، ويمكن الدولة أيضا من فرض سيادتها فى الداخل والخارج من دون منازع، والسيادة هنا هى السلطة العليا للدولة أى سلطة السلطات التى لها الكلمة الآمرة والأخيرة على سائر الأفراد والجماعات والهيئات داخل حدود أقليم الدولة، كما تعنى السيادة أيضا أن سلطة الدولة مستمدة ونابعة من ذاتها، وليس من الآخر أو الآخرين. وسلطة الدولة هى التى تمكنها من فرض ارادتها ،وكلمتها على أفراد شعبها، ومباشرة اختصاصاتها المتصلة بوجود الدولة ككيان ذى سلطة وسيادة وارادة دون أن تكون خاضعة داخليا او خارجيا لغيرها، سواء من سلطات أخرى لدول أخرى ذات سيادة لكنها فى هذه الحال لن تكون متساوية مع سلطة الدولة المشار اليها فى فرض سيادة هذه الدولة على اقليمها وأفراد شعبها، والا نكون بصدد انتهاك أحد أهم مبادئ القانون الدولى العام وهو «عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول ذات السيادة» . ان غاية السلطة هى نشر الأمن والسلام فى ربوع الدولة، وبث الطمأنينة فى نفوس أفرادها، ومنع الفوضى والتخريب والتدمير والتحريق والاتلاف للممتلكات العامة والخاصة والحفاظ على النظام العام والصحة والبيئة والسلامة العامة، ومن المستقر أن السلطة وجدت لاجل حماية حقوق الأفراد المختلفة وتحقيق المساواة بينهم، وتحقيق العدالة فى المجتمع، وتكون عاملا لاشاعة الأمن والاستقرار فيه، وتمنع الفوضى فى المجتمع، ومن المحال على أية سلطة أن تستطيع أداء واجباتها والتزاماتها تجاه المواطنين فى مثل هذا السياق الشاذ المغاير الذى لم تألفه مصر فى تاريخها الحديث والمعاصر، خاصة ما نراه جهارا نهارا من فئة ضالة مضللة، اتخذت من ساحة العلم الطاهرة المقدسة مرتعا للعصيان المسلح، وحلبة لإثارة الفوضى، والتحريض على الفتنة وتكدير الرأى العام. واذا كان قدرنا فى مصرنا المحروسة ألا نقرأ أو نسمع أو يكتب سوى «حقوق الأنسان» أى الأفراد دون الدولة، وذلك من نفر قليل لا يحملون من مصريتهم الا الجنسية فى عنصرها الشكلى وحسب. ولا ينتمون بحال من الأحوال للتراب الوطنى المخضب بدماء الشهداء من المصريين الشرفاء، الذين قضوا فداءا للوطن، وأثروا الوطن تغييا للمجد، ولكن ينتمى النفر الطالح من هذه الشرذمة لدول ومنظمات وهيئات أجنبية ، تناصب الوطن العداء، ليس لغاية نبيلة أو مقاصد شريفة، ولكن لدنية رخيصة حصرية وحيدة وهى «الدولار». نذكر هؤلاء لعل الذكرى تنفعهم، أن للدولة حقا أصيلا يتقدم على سائر الحقوق الدولية الأخرى للدول. وهو حق البقاء والذى لا ينفصل عنها. ويوجب حق البقاء على الدولة اتخاذ جميع الاجراءات مهما كانت طبيعتها للمحافظة على كيانها، وازالة كل ما يهدد وجودها. فأية دولة ذات سيادة تتشدد فى الابقاء على كيانها الاقليمى، وسلامة مواطنيها، وادارة ثرواتها، وحماية دستورها، وفرض احترام قوانينها، وضمان عمل مؤسساتها، واستقرار النظام والأمن، ومن أجل صيانة هذه الأهداف تحتفظ الدولة بقوات عسكرية وشرطية وأمنية نظامية لتثبيت الامن فى الداخل، وصد الاعتداءات الخارجية. واذا كانت سائر المصطلحات والمفاهيم الدستورية والقانونية قد تم تجديدها منذ أربعة أعوام، ومنذ ثورة 25 يناير 2011م، فإننا نقصر تصحيحنا فى هذا الصدد لمسألة الحقوق والحريات، وذلك بالنظر للحدث الجلل فى الجامعات المصرية التى أضحت ساحة للقتال والجرم، بدلا من أن تكون ساحة للنور والعلم . لقد أكدت المادة الرابعة من الدستور الفرنسى عام 1789م : «الحرية هى امكانية عمل كل شئ لا يضر بالغير»، وأكد اعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسى أيضا: «يجب ألا يمنع القانون الا الاعمال الضارة بالمجتمع»، وهنا نجزم أن الحرية، وان كانت فردية الا ان ما يضر منها، وما هو محرم اتيانه هو ما يضر بالمجتمع، أى أن الغاية من ممارسة الحرية تبقى عدم الخروج عن النسق المجتمعى. ان ذمة الانسان ليست كلها حقوقا، فسائر الدساتير دون استثناء كما تفرد للأفراد حقوقا فانها أيضا تفرض عليهم واجبات، فالواجب كونه التزاما لا يعنى ابدا أنه قيد على الحق أو الحرية، وحتى فى الظروف التى يجب أن يقيد فيها الحق أو الحرية، فانما يكون من أجل الحفاظ على صيرورة الحق والحرية المقيدين لظرف او زمن معين، فالواجب امتداد للحق وحماية له، ويضمن وجوده من خلاله، كما التمتع بالحق لا يبرره الا تحمل عبء الواجب . لئن كان واجب الولاء باعتبار الولاء رمز الوطنية وعنوان الانتماء يعد أحد أهم الواجبات الأولية على سائر المواطنين والتى تنص عليها دساتير وتشريعات الدول، فان واجب احترام النظام العام والسكينة لا يقل أيضا أهمية عن الواجب المتقدم، ويتمثل الالتزام بهذا الواجب فى تجنب كل ما من شأنه الاخلال بالنظام العام من احداث للفوضى والقلق أو احداث للرعب فى نفوس المواطنين أو تعريض ممتلكاتهم وحرياتهم للخطر، ونجزم من جانبنا أن ما يحث فى جامعات مصر الأن أضحى المثال الصارخ الذى يضرب فى ذلك السياق، ولا نغفل أيضا التجمهرات المسلحة المنظمة فى ميدانى رابعة العدوية والنهضة فى العام المنصرم، والتى صنفتها ما يسمى بمنظمات حقوق الانسان «مظاهر وممارسة الحق فى التعبير». لقد دشنت العديد من الهيئات الدولية الحكومية وغير الحكومية حملة شرسة شعواء غير مبررة ضد السلطات المصرية بعد ثورة 30 يونيو المجيدة، وكالت الاتهامات المرسلة، والفريات الجزافية من دون أساس أو سند، ومن جملة هذه الاتهامات: الاعتقالات خارج اطار القانون. ان الشاهد العدل الذى يدحض اتهام الحكومة المصرية بالاعتقالات التعسفية، هو المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان ذاتها، فى قضية: «لولس ضد أيرلندا» حيث خلصت المحكمة فى قرارها بتاريخ الأول من يوليو 1961م الى ان تدابير الاعتقال او الاحتجاز الادارى المتخذة ضد أعضاء الجيش الجمهورى الأيرلندى والمشتبه فى مشاركتهم فى أعمال ارهابية، كانت تدابير اقتضتها الظروف، وأنها تتناسب مع مقتضيات الحال، وكررت المحكمة ذات القضاء فى قضية: «أيرلندا» ضد «المملكة المتحدة» فى الثامن عشر من يناير 1978م، حيث قضت المحكمة: أن التدابير التى لجأت اليها المملكة المتحدة فى الفترة ما بين أغسطس 1971م ومارس 1975م، ومن بينها الحرمان غير القضائى من الحرية، لم تتجاوز حدود مقتضيات الحال. أيضا، لقد قضى المحكم Max-Huber فى قضية المطالب البريطانية عن الخسائر الناتجة فى المنطقة الأسبانبة عام 1925 بأن: «الدولة غير مسئولة عن النتائج التى تحدث بسبب قيامها بفرض الأمن أو مواجهة العدو، وعندما تتصرف الدولة بهذا الشكل فانها لا تقوم الا بواجب اساسي، والدولة غير مسئولة عن الأضرار الناتجة عن العمليات العسكرية لقواتها المسلحة». ان الحكم التاريخى الذى أصدرته محكمة الاستئناف المختلطة بالاسكندرية فى10مارس 1949م، يعد حجة قانونية قاطعة وقرينة ساطعة، على واجب الدولة فى الحفاظ على الأمن والنظام على جميع أراضيها، وضرورة أن تقوم الدولة باتخاذ التدابير المناسبة لحفظ الأمن والنظام العامة والقضاء على الفتن واخمادها وفض المظاهرات العنيفة والسيطرة على أعمال العنف والسلب والشغب، وهى ليست بعيدة عما يجرى فى جامعاتنا المصرية. لقد جاء فى منطوق حكم المحكمة: « لم تقم السلطات التى كلفتها الحكومة بالمحافظة على النظام بأداء واجبها على النحو الأكمل. كما أن قوات الأمن قصرت فى استخدام الوسائل التى تحت يدها لمنع الاعتداءات وبصفة خاصة، لم تقم قوات الأمن بطلب المساعدة من الجيش حينما تبين بجلاء ضرورة ذلك. وعلى ذلك يتبين للمحكمة أن قوات الأمن قد قصرت تقصيرا جسيما تسأل عنه الدولة». وختاما، فان وصف تعطيل الدراسة بالجامعات، واغلاق وتكسير الأبواب والمنشآت وحرقها واتلافها، والاعتداء على عناصر الأمن العامة والخاصة التى تؤمن جميع المنشآت الجامعية، أنه حرية فى التعبير، لن يفضى بنا الا الى الرجوع لحالة ما قبل الدولة، وهى حالة الفوضى والجاهلية الأولي، أما التساؤل المريب: لماذا «فالكون» ؟، فمصدره من لا ناقة له ولا جمل.