قطعت جهيزة قول كل خطيب، وقبع الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك فى قفص الاتهام، وفى أكاديمية الشرطة، تلبية لمطالب الشعب وإنفاذا لسيادة القانون واعمالا لمبادىء الديموقراطية، فقطع حضوره الجلسة الإجرائية الأولى أمام محكمة جنيات القاهرة كل الألسن التى تحدثت عن تواطؤ أو تباطؤ للجيش المصرى الشامخ مع قائده الأعلى السابق، وقصف حضوره أيضآ كل الأقلام التى ضلت وضللت وحادت عن جادة الصواب ودرب الموضوعية ومسار الصدق والمنطق والأمانة. لقد اختار المجلس الأعلى للقوات المسلحة الخيار الصعب فى أخطر مرحلة فى تاريخ مصر المعاصر وهو خيار العدالة الطبيعية الناجزة، وكانت هناك مطالبات بل انتقادات عديدة لهذا المجلس الموقر بأن يتبنى الخيار الثانى وهو ما يطلق عليه الكثيرون من بنى وطنى «الخيار الثورى» والذى لايحمل فى طياته إلا الثأر والانتقام، حيث زعم هؤلاء أن مقتضيات الثورة ومتطلباتها تستلزم تسريع المحاكمات وضرورة إنشاء محاكم ثورية استثنائية فى ذلك الظرف التاريخى، وذلك من أجل تحقيق سرعة القصاص من جلادهم وفرعونهم الطاغى المستبد. إن محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك وزمرة من اعضاء حزبه البائد المنحل ليست بذاتها مقصدا ولا مطمحا لثورة 25 يناير الخالدة، حيث إن المحاكمة تحقق العديد من الغايات القانونية والأخلاقية والإنسانية النبيلة. ويعد الحق فى معرفة حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مفهوما قانونيا يرتبط بالتزام الدولة بتوفير المعلومات للضحايا، وأسرهم، والمجتمع المصرى كافة حول الظروف التى احاطت بهذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فحق الأفراد فى معرفة الحقيقة يماثل حقهم فى الحياة، والحرية، والسعى لتحقيق السعادة، فالحقيقة واجبة مهما تكون الظروف. والحقيقة ذاتها فى معرض حديثنا عن دلالات محاكمة مبارك تعدو كالديون المستحقة للضحايا من الثوار وعائلاتهم بشكل خاص ولسائر المصريين بشكل عام، والتى يتعين على الدولة سدادها. ومن أسف، أن يحاول نفر قليل من أبرز مسئولى النظام السابق وبينهم شاهد عيان رئيسى عما جرى خلال هذه الحقبة حجب الحقيقة عن أجهزة التحقيق الرسمية للدولة، بحجة مقتضيات الأمن القومى وذلك بهدف الحد من المعلومات المستحقة للمصريين، وغاب عن سلطات التحقيق فى هذا الشأن التمييز بين أمرين مختلفين: الأول: وهو الحق فى الحصول على معلومات وفى هذه الحالة يمكن التعلل بمقتضيات الأمن القومى، والثانى: وهو الحق فى معرفة حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتحديدا جريمة القتل الجماعى للثوار الشهداء فى ميدان التحرير وسائر محافظات مصر، وفى هذه الحالة لاتستطيع الدولة أو مسئولوها إيا كانت مراكزهم الرسمية أن تثير مبرر الأمن القومى أو أية ذرائع أخرى للحد من أو انتقاص هذا الحق الأصيل. ولقد ثارت فى مصر فى الآونة الأخيرة، وقبل مثول مبارك للمحاكمة، فكرة منح العفو له وذلك نظرا لاعتبارات مختلفة من بينها شيخوخته ومرضه، وإيضا لإنجازاته ومكارمه للشعب المصرى ومن بين هذه الإنجازات أنه «صاحب الضربة الجوية». واقع الامر، أن هؤلاء المدعين تجاهلوا الاتهام الرئيسى الموجه لمبارك، وهو ارتكاب جريمة القتل الجماعى لأكثر من ثمانمائة من شهداء مصر الأبرار، دون ذنب اقترفوه أو جرم ارتكبوه، سوى أنهم تظاهروا سلميا للمطالبة بالحق والحرية والعدالة واسقاط نظام فاسد مكروه ممجوج من جموع المصريين الأقحاح الشرفاء. وتناسى هؤلاء أيضا أن القواعد والاعراف الدولية السارية بشأن منح العفو، سواء كان عفوا رئاسيا أو برلمانيا، لا يمنح للقادة والرؤساء المساهمين جنائيا فى ارتكاب الجرائم الدولية ومنها جريمة القتل الجماعى، بيد أن العفو يمنح للجناة من ذوى الرتب الدنيا، والجنود الأطفال والمسئولين عن الجرائم أقل خطورة، والمجبرين على ارتكاب هذه الانتهاكات، أما القادة والرؤساء فتغلظ العقوبة حيالهم لما يتحملونه من سلطة قيادية، فالسلطة مسئولية. أما وقد اختارت مصر الحضارة طريق العدالة وحكم القانون وحقوق الانسان، ونأت بنفسها الشامخة الأبية عن التوسل بوسائل العدالة الانتقامية الثأرية المزعومة ولجأت إلى القانون عوضا عن المقاصل والمشانق، وتاقت إلى العدالة بدلا من الغدر والغبن، أجد أن الواجب الانسانى قبل القانونى يفرض على توضيح بعض الأمور القانونية المتعلقة بمحاكمة القرن: أولا: إن حقوق المتهم فى ضمان محاكمة عادلة وفقا للمعايير الدولية يجب ألا يعدم أو يعتدى على حق المجتمع المصرى كله فى كشف الحقيقة من خلال الدعوى الجنائية، وهذه المسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بعلانية المحاكمة وحضور عائلات الضحايا، وممثلى المجتمع المدنى، وعدم التذرع بحجج ومبررات غير مرتبطة بالدعوى الجنائية ذاتها. ثانيا: إن القناعة القضائية لهيئة المحكمة المختصة وليس تقديرهم الشخصى هى التى ترشدهم لاتخاذ القرار القضائى السديد، وهذه القناعة تتأسس على اليقين التام أو المطلق وهو يقين علمى منطقى البناء يتسم بالدقة والإحاطة فى الدليل محل تقدير القاضى، وهنا لا يمكن أن يكون الدليل عاطفيا أو انطباعيا عابرا. ثالثا: إن القاضى بشر، قد يخطيء فى تقديره وقد يصيب حسبما يكون من حال متأثرا بالميول أو الرغبات أو حسبما يكون صافى النظر، صادق الرؤية، أو سيىء الإدراك، ضيق الأفق ولهذا فالقانون يجب ألا يترك لوجدان القاضى وحده حق الحكم بصورة مستبدة كما يحلوله، ومن ثم يجب ألا يتأثر بوسائل الإعلام ولا بالرأى العام، ولا بوجوب التعجيل والتسرع والتذرع بظروف ثورية أو إنتقالية أو إستثنائية. رابعا: إن ضمير القاضى يعد بمثابة وسيلة رقابة ذاتية فعالة لتأمين ممارسة القاضى لسلطته على نحو دقيق. وفى النهاية، نأمل أن تتيح هذه المحاكمات الفرصة التاريخية لمصر والعالم العربى فى إرساء مبادىء الديمقراطية، التى يأتى على رأسها قيم المحاسبة والمساءلة والمكاشفة.