رفض الفوضويون السلطة رفضا مطلقا, علي اساس انها تقضي علي حرية الانسان, فالسلطة, بمختلف اشكالها وتعبيراتها, تهدف إلي السيطرة علي الافراد والجماعات وفرض إرادة من يمارسها عليهم, بل انهم يرفضون الدولة ذاتها لان السلطة احد عناصرها, فالفوضوية تدعو إلي تهديم الدولة بسلطاتها, وبناء مجتمع جديد لاسلطة فيه. لقد ذهب الشطط بأصحاب النظرية الفوضوية إلي تدمير الدولة, ليصير الافراد وفق زعمهم احرارا, يفعلون ما يريدون من دون اي تقييد, اذ لامجال للحرية إلا في مجتمع لا سلطة فيه, والدولة هي اداة تهديم للحرية, لذا وجب إزالتها. لا مراء ان اصحاب هذه النظرية التي تتبني الفوضوية عقيدة, واللانظام منهجا, لايدركون بحال من الاحوال ان الحريات العامة للأفراد, والتي يقدسونها, وقدسها كل من القانونين الدولي والوطني, لاتعني ان تكون الحرية مطلقة بل يجب تنظيمها بهدف المحافظة علي النظام العام من ناحية, ولكي تصبح ممارسة الحرية ذاتها ممكنة وعملية من ناحية أخري. من الجلي ايضا في الصدد ذاته, ان المشروع حامي الحريات, منوط به تحديد المجال الذي تمارس فيه هذه الحريات, حيث يعبر عن ارادة الامة في صورة تشريع لايصدر إلا عن البرلمان. لقد غاب عن العديد من دعاة الحقوق الدستورية, ان جميع دساتير العالم لاتنص فقط علي الحقوق, ولاتمنح الحريات وحسب, لكنها في المقابل تنص ايضا علي الواجب, وتفرض في الوقت ذاته الالتزام, حيث تملي جميع الدساتير علي الفرد المواطن, أو الاجنبي, واما علي المجموعة او الدولة او احدي مؤسساتها تصرفا معينا يتوجب إتيانه, أو الامتناع عن إتيانه. إن الواجب كونه التزاما لايعني ابدا انه قيد علي الحق والحرية, ولا يمكنه ان يكون كذلك بأي حال من الاحوال, وحتي في الظروف التي يجب ان يقيد فيها الحق أو الحرية فإنما يكون ذلك من أجل الحفاظ علي صيرورة الحق والحرية المقيدين لظرف او زمن معين, فالواجب امتداد للحق وحماية له. وخلافا للحق في الإضراب, فإن المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية, لم تعترف بأن اللجوء للعصيان المدني بشكل مطلق يعد غاية سياسية مشروعة, كحجة لانتهاك التشريعات والقوانين واللوائح, التي سنتها حكومة شرعية منتخبة تحقيقا للعدالة, وصيانة النظام العام, وتجسيدا لمبدأ الشرعية, وبين الاستثناء في شرعية اللجوء للعصيان المدني, وغيره من اشكال الرفض, في حالة الاحتلال, حيث دأبت المواثيق والاعلانات الدولية الصادرة عن منظمة الاممالمتحدة, وغيرها من منظمات دولية اقليمية, علي كفالة اللجوء لجميع الاساليب, والادوات لنيل الاستقلال وحق تقرير المصير, بما في ذلك القوة المسلحة. ان النظرة الفاحصة للعديد من المواثيق والاعلانات الدولية الصادرة عن منظمة الاممالمتحدة تكشف عن حق الافراد في اللجوء للاضراب فضلا عن التجمعات السلمية المظاهرات لا العصيان المدني, وذلك بحسبانهما حقين اساسيين من حقوق الانسان, ويأتي الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن المنظمة في عام 1948 والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الصادر أيضا عن المنظمة الاممية في عام 1966 علي رأس المواثيق الدولية التي ترسخ الحق في الاضراب والتجمع السلمي فحين قضي القضاء المصري ببراءة جميع المضربين من عمال سكك حديد مصر في الواقعة الشهيرة عام 1986 فقد اسس الحكم حيثياته علي انضمام مصر للعهد الدولي المشار إليه سالفا والذي يكفل للعمال الاضراب, وهنا تثرينا الحالة المصرية بمدد مهم في سياق الممايزة بين مفهوم الاضراب ومفهوم العصيان المدني العام. ولم تخرج التشريعات الوطنية عن المواثيق الدولية في الاطار ذاته, حيث لم تقر هذه التشريعات الوطنية في معظم دول العالم, اللجوء إلي العصيان المدني كحق من الحقوق الاساسية للانسان, باعتبار ان هذا الفعل يعد خروجا عن النظام العام, وانتهاكا للشرعية التي تجسدها التشريعات والقوانين ذاتها. ان حريات الافراد وحقوقهم يقابلها حق الدولة, لذلك فلضمان استقرار بل دوام الدولة وبقائها, لابد لها من النظام, وعليها ان تدرأ جميع الظروف والملابسات والتي قد تحيق خطرا بهذه الدولة, وهنا فالدولة ليست هدفا بحد ذاتها للدولة, لكن الافراد عناصر هذه الدولة الذين من دونهم ما قامت الدولة هم الهدف الاساسي لتدخل الدولة لحفظ النظام العام فحريات الافراد ليست مطلقة, كما ان النظام العام ايضا يجب ألا يكون مطلقا, حيث يكون النظام العام ديمقراطيا حينما يكون نسبيا لا مطلقا, فلابد من قيود ما لم تكن في سبيل المصلحة العامة وخاضعة لرقابة القضاء. ان المتفحص لدساتير العالم كله يجد انها تجمع علي عدد من الواجبات القانونية, والتي تهدف في نهاية المطاف إلي الحفاظ علي وحدة الاوطان, وسلمها الأهلي, وسيادتها الاقليمية, حيث تشير هذه الدساتير إلي واجب الولاء باعتباره رمز الوطنية وعنوان الانتماء, وهو شعور يغذيه التفاني الاعمي في خدمة الوطن, والذود والدفاع عن مكونات الدولة ومقوماتها الاساسية. ويعد واجب احترام النظام العام والسكينة العامة بما يسنه الجهاز الاداري للدولة من قواعد واحكام لأجل الحفاظ علي الهدوء والأمن والصحة العامة, كما يعد ايضا احد الالتزامات الكبري للمواطن, ويتمثل الالتزام بهذا الواجب في تجنب كل ما من شأنه الإخلال بالنظام العام من إحداث للشغب وإثارة للفوضي والقلق أو إحداث الرعب في نفوس المواطنين او تعريض ممتلكاتهم وحياتهم للخطر. وختاما, اجد لزاما علي التذكير بأن: مطلقية الحق لها نطاق, وهذا النطاق معالمه حق الغير, ولايمكن ان نفهم مطلقية الحق إلا في هذا المنظور, لذا فحماية الحق تنطلق من حماية حق الآخر.