نكمل زيارة عبد الناصر التاريخية للأهرام حسب رواية الأستاذ محمد حسنين هيكل. كان يتكلم عن دور الأهرام فى نشر الثقافة المصرية فى ذلك الزمن البعيد. قال هيكل: إنها مجرد أمثلة من الذاكرة: لويس عوض، فى معارضته السياسة الثقافية التى كان يقوم على تنفيذها عبد القادر حاتم، حيث كان يعتمد على سياسة الإغراق. لويس عوض كتب سلسلة مقالات طويلة ومستمرة فى نقد المشروع الثقافى لثورة يوليو. كانت هناك مدرستان فى الثقافة المصرية فى ذلك الوقت، مدرسة كان يمثلها الدكتور ثروت عكاشة وهى المدرسة التى أيدناها فى الأهرام، والمدرسة الثانية مدرسة عبد القادر حاتم، وقد اختلفنا معها وهى تقوم على أساس إصدار مطبوعات كثيرة وسريعة تصل إلى الناس على شكل حالة من الإغراق. وكان رأى الأهرام كما توصل إليه القسم الأدبى فيه بصفة عامة، أن الثقافة موضوع يقدم إلى الخاصة، وعن الصفوة يتسرب وينزل إلى جموع من الناس وتوسع الدائرة قدر ما تستطيع. - ولكن ما كان ينشره الأهرام من الإبداعات الثقافية والأدبية فى الستينيات كان يصل إلى الناس العاديين. حتى لو لم يرغب القائمون على الثقافة فى الأهرام فى ذلك؟!. .. هيكل: فعلاً. كان الأهرام ينشر ثقافة، والجريدة فى هذا النشر كانت تصل إلى أكبر عدد من الناس، لكن لا تلعب بالثقافة. الثقافة لا بد أن تظل قيمة بَسَّطها كما تشاء مجرد أن تضع هذه الثقافة فى الجريدة، معناه أنك تقبل مسئولية وصولها إلى أكبر دائرة ممكنة من الناس. يقرؤها من يقرؤها. أنت مطالب أن تخرج رسالتك للناس، وأن توصلها إليهم، والناس تقرؤها وتتعامل معها، ومن لا يستطيع الوصول إليك مباشرة قد يستطيع الوصول، ولكن عن طريق غيره؛ لأنك هنا ترسى قيماً. أنت لا تُدرِّس قيماً للناس. أنت تترك المسائل تتسرب إلى وعى الناس وشعورهم فقط. لويس عوض قدم نقد المشروع الثقافى بكامله على صفحات الأهرام، وبالطريقة التى شاء أن يقوله بها، دون أى تدخل من أحد. توفيق الحكيم كتب أهم أعماله «السلطان الحائر» وأنا نشرتها ولم يكن عندى شك عن ماذا يتكلم الحكيم فى هذا العمل، «بنك القلق» كنت أدرك عن أى الأمور يتكلم فى هذا العمل أيضاً، وكل ما تستطيع أن تتصوره كنا نعرفه قبل النشر، كان المسكوت عنه فى النص يصل إليَّ بمجرد القراءة الأولى. - ونجيب محفوظ. ما هى قصة نشر أولاد حارتنا فى الأهرام؟. .. هيكل: لنقفز على بعض التفاصيل التى ربما لم تكن جوهرية فى هذه القصة، وربما كانت أقرب إلى التفاصيل. نجيب محفوظ أول ما كتب فى الأهرام كانت روايته «أولاد حارتنا»، وقد أعطاها لعلى حمدى الجمَّال. الذى أحضرها لي. تصفحتها فى المكتب بسرعة وأدركت الحكاية، أو مقدمات الحكاية من هذا التصفح، ولذلك أخذتها معى إلى البيت، حيث قرأت الرواية كلمة كلمة، وعرفت وأدركت وفهمت ما هو المقصود منها. وأنا قد أختلف أو أتفق مع ما يقوله نجيب محفوظ فى هذه الرواية وهذا من حقي، لكن الذى لا يُنَاقَش أن نجيب محفوظ عنده الحق دائماً وأبداً، كأستاذ وروائى ومثقف أن يكتب ما يشاء، لا يعبأ بأى قوة أو سلطة فى المجتمع، وأن الذى يكتبه لا بد أن يُنْشَر، فنشرناها. ولأننى كنت أعرف أن نشر هذه الرواية قد يؤدى إلى احتجاجات، وأن الموضوع هذه المرة ليس خلافاً مع سلطة الدولة، لكن الموضوع يمس العقائد والدين، فمن الممكن أن تثار مشكلات من الصعب وصفها. - هل كان هذا هو السبب فى نشرها يومية، بدلاً من النشر الأسبوعي، كما جرى عُرْف النشر المسلسل للرواية عادة؟. .. هيكل: فعلاً. لقد قررت نشر الرواية باستعجال، ونشرناها يومية. وذلك بهدف الانتهاء من نشر الرواية بأسرع ما يمكن، وربما كانت المرة الأولى التى لا تنشر فيها رواية مسلسلة بصفة يومية؛ لو نشرتها أسبوعية، سيستغرق مدة سنة بصفة مستمرة. لذلك حاولت أن «أخلص» منها فى أسرع وقت ممكن، وبأقل فترة زمنية ممكنة. - ألم يثر النشر أى احتجاجات فى حينه؟ .. هيكل: عندما بدأوا فى الاحتجاج كنا نحن قد وصلنا إلى قرب النهاية. - وباقى روايات نجيب محفوظ الأخري؟ هيكل: اللص والكلاب، السمان والخريف، كل ما كتبه نجيب محفوظ نشر كاملاً لم يحذف له حرف واحد، فى أى من رواياته التى نشرت فى الأهرام أيام مسئوليتى عنه. ويعود الأستاذ هيكل إلى قصة نجيب محفوظ التى رواها لجمال الغيطاني: هيكل: هل من المعقول أن أرضى لنفسي، وأن أرضى لجمال عبد الناصر مثل هذا الموقف؟! والتداعيات التى يمكن أن تخرج منه ومن الصعب حسابها! فهل أقول لجمال عبد الناصر يوم زيارته للأهرام وعلى مسمع من جميع مثقفى مصر إن رواية نجيب محفوظ القادمة «تودى فى داهية»؟! هل أقول هذا لجمال عبد الناصر؟! هل أقلل من نفسى وفى حضور الكُتاب الذين يكتبون بالأهرام؟! وحتى لو قلت هذا الكلام! فهل يرضى الرئيس جمال عبد الناصر أن يقول لى وفى هذا الجمع إن «اللى يروح فى داهية أنا وليس نجيب محفوظ»؟! إن الكلام جميعه اعتراف ضمنى بأن هناك داهية أو الليمان الذى يمكن أن يروح فيهما من يجرؤ على الكتابة بطريقة لا ترضى السلطة. هذا كلام لا يمكن أن يكون قد قيل، وأعتقد أن رواية الأستاذ نجيب محفوظ تظهر التباساً فى الحقائق، وأظن أن هناك من حكى لنجيب محفوظ شيئاً عما جرى فدخل الأمر فى رأسه، وكرر الحكاية وقالها أكثر من مرة يوماً بعد يوم. جمال عبد الناصر فى هذا اللقاء كان مهتماً بأن يستمع أكثر مما يتكلم، وأظن أنه تكلم بعد المقدمة التى قَدَمتُ بها المثقفين له. طلب أن يستمع لكل التيارات، وجميع التيارات تكلمت واستمع باهتمام وناقش كثيراً وبقى فى الأهرام وقتاً أكثر مما كان مقرراً من قبل. لمزيد من مقالات يوسف القعيد