من منا حين كبر في العمر ونضج في الحياة وازدادت خبراته التراكمية، بل عندما أفقده القدر من كانت يكرم من أجلها، وخص الرحمن جناته تحت أقدامها، لم يقل لنفسه متأملا :»عرفت أن قسوة أمي كانت حبا وغضبها حبا وعقابها حبا.. يالها من حياة وما أغربها من دنيا وما أقصر العمر».. لكن عندما تكون الأم أشبه ببركان هائج لا يهدأ إلا عندما يحطم كل من حوله، وكأن الحنان والعطف اللذين يسكنان قلبها بالفطرة قد ماتا منذ زمن واستبدل مكانهما القسوة والبغض تجاه فلذة أكبادها، فحينها ماذا ننتظر من أبنائها؟!. عاشت الفتاة ذات العشرينيات من عمرها، في محافظة القليوبية، ولم يمهلها قدرها قسطا وفيرا من النجاح في الحياة إثر ظروفها المعيشية البسيطة التي أجبرتها أن تعمل عاملة في أحد المصانع، بل عاشت حياة غير مستقرة وكئيبة بعد أن أصبح البكاء لها عادة قبل نومها، خصوصا عندما تنفرد بنفسها وتتذكر أحاديث زميلتها في المصنع عن والدتهم وحنيتها وعطفها عليهن، كانت تلك الكلمات التي تتذكرها ليلا تقف في قلبها وحلقها كالغصة لم تقو علي تحملها طويلا، رغم أحاديث الفتيات عن أمهاتهن وحنانهن فإنها لم تفصح لهن عن قسوة أمها وعنفها غير المبررين تجاهها. كانت تحاول تلك الفتاة مضطرة أن تظهر والدتها ربة المنزل ذات الأربعينيات من عمرها، دائما في أجمل صورة رغم كل ما تعانيه من قهر وظلم وتوبيخ وعصبية أمها، حتي وصل بها الأمر الي أن عايرت تلك الأم ابنتها بقبح منظرها بعد أن أصيبت بمرض جلدي أدي إلي تغييرات في وجهها. وجدت تلك الفتاة نفسها أمام أم غير كل الأمهات السويات تجاه تربية أبنائهن ومنحهم الحب والدفء والثقة بالنفس والأمان، حتي جعلت ابنتها تتساءل عندما تصبح أمًا يوما ما في المستقبل كيف ستتعامل مع أبنائها كيف تعطيهم حبها وحنانها وهي عاجزة مفتقدة لتلك المشاعر فأي حب وحنان إذن ستمنحه لأبنائها وهي لا تملكه ففاقد الشئ لا يعطيه. توفي الله والد الفتاة ولم ترتو من حنانه فعاشت يتيمة الأب بعد وفاته ويتيمة الأم في حياتها فلم تجد من ينتشلها من عذاب خلقته لها أمها التي ما برحت أن تنادي ابنتها بالمعاقة رغم انها معافاة إلا من مرض جلدي، حتي جعلتها تشعر بأن الحياة أمامها كئيبة توشحت بالسواد، افتقدت فيها معني الحب والحنان وكأنها تائهة في غربة تبحث فيها عن صوت أبيها الغائب باعتباره شاطئ النجاة التي كانت تأمل أن ترسو سفينة حياتها عليه لتتخلص من الآلام التي تسببت فيها والدتها عبر سنوات عجاف، ليرجع صدي ظنونها وأحلامها ليذكرنها مرة أخري بواقعها المرير وبحزنها وشتاتها الذي تعيشه مع والدتها. انتابت تلك الفتاة ظنون من كثرة قسوة أمها عليها وإهانتها المتكررة لها، واضطهادها غير المبرر لها، جعلتها تشك في يوم ما أن تلك الأم ليست أمها، لولا الشبه الكبير بينهما، كانت لم تحنو عليها حين تمرض أو يصيبها مكروه ما مثل باقي الأمهات اللاتي تنفطر قلوبهن علي أبنائهن حين يصيبهم ألم. كلما كبرت الفتاة قليلا لم تزد أمها في معاملتها إلا بشيء من الضرب والإهانة لاسيما أنها تضربها ضربا مبرحا يسبب لها ألما مزمنا وحالة نفسية تشعر خلالها أن الجميع يكرهها ويكيل لي الاتهامات دون رحمة، فلم تتذكر تلك الفتاة أن أمها قد ضمتها لصدرها يوما، بل كانت تتفنن في نعتها بالفاشلة وقبيحة المنظر طيلة الوقت، حتي أصبحت تكره أمها كرها شديدا، بل الأسوأ من ذلك أنها أصبحت لا تشعر بتأنيب الضمير علي ذلك بسبب قسوتها التي أصابتها بنوبة هلع شديدة تأتي من فترة لأخري تجاه أمها، حتي راهنت تلك الفتاة أن العدو لا يفعل بها ما تفعله أمها تجاهها والتي تنتظر كل يوم مجئ الليل كي تخلد أمها للنوم فترتاح من عذابها. ظل لسان حال تلك الفتاة يردد دائما:» مع أنني أفعل كل شيء لإرضائها، ولكن تعبت، لم استطع التحمل فبدأت أرد عليها، ولااستطيع أن أسكت لأني أشعر بالظلم، بل أحيانا أتمني أن أموت، فهي لم ترفع يديها لتدع لي أبدا بل لتدع عليّ.. أعلم أن حب الآباء لأبنائهم وبناتهم هو حب غريزي فطرهم الله تعالي عليه، لا يمكن لأي إنسان أن يتصور شيئا خلاف ذلك، لكن في بعض الأحيان تكون التصرفات التلقائية من بعض الوالدين فيها شيء من المخاشنة، لكون أبنائهم يتصرفون بطرق تدفع الوالدين للمعاملة بشدة أما أنا فلم أعلم لماذا تعاملني أمي بهذه الطريقة المهينة». وعندما لا تدري الفتاة سببا واحدا للمعاملة القاسية من قبل أمها، بل ولا تذكر لها شيئا أو موقفا جميلا، سوي الضرب والإهانة والبغض، وعندما هان الدم وانقطعت صلة الأرحام، يتدخل الشيطان، وتظن الفتاة حينها أن كل شئ متوقع ومبرر، بل وتصبح الجريمة حينها شيئا سهلاً، باعتبارها أن أمها من جنت علي نفسها، جزاءً للأم من جنس عملها لما أذاقته من إهانات لابنها طيلة حياتها، فبعد أن ضاق بها السبل في الخروج من الجحيم الذي تعيشه تلك الفتاة، من خلال الارتباط بشاب يعمل معها في المصنع، ظننا منها أنها ستنتقل إلي حياة أفضل بها قدر من الكرامة والإنسانية، حيث وقفت أيضا أمها كحجر عثرة في سبيل إتمام زواج ابنتها من ذلك الشاب راودت تلك الفتاة التعسة، أفكار شيطانية للانتقام من أمها بالتخلص منها نهائيا، غير مدركة أن الله أمرنا من فوق سبع سماوات ببر الوالدين مهما فعلا وقصرا وتجاوزا، لأنها لم تترب علي تلك الفضيلة ولا تلاحظها في تعامل والدتها معها كي تشعر بقيمتها، تجردت الفتاة من كل مشاعر الإنسانية والرحمة، وخنقت أمها حتي الموت، ولم تكتف بذلك بل أرادت أن تثأر لكرامتها بانتقامها من أمها، فهشّمت رأسها بماسورة حديدية انتقاماً منها علي معاملتها السيئة، وتركتها وسط بركة من الدماء، وتركت جثة والدتها مسجاة علي ظهرها بأرضية الغرفة، وبها عدة إصابات وجروح رضية بالرأس والوجه، وآثار خنق حول الرقبة، وملفوف حول رقبتها كابل دش، وسرقت مصوغات والدتها الذهبية عبارة عن قرط ذهبي وخاتم، ومبلغ مالي لم يتعد ألفي جنيه، وألقي القبض علي الفتاة التي اعترفت أمام النيابة بجريمتها والتي أمرت بحسبها 4 أيام علي ذمة التحقيقات. ولعقوق الوالدين مساوئ خطيرة، وآثار سيئة تنذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي، فمن آثاره أن العاقّ يعقّه ابنه جزاءً وفاقاً علي عقوقه، وسلوك الآباء الذي يتسم بالعنف والعدوان وحرمان ابنائهم من الشعور بالأمان، أو حرمانهم من حقهم في التقدير، ومعاملتهم بدونية علي أنهم غير مرغوب فيهم يؤدي إلي فقدانهم الثقة بنفسهم وبالآخرين، مما يفقدهم التفاؤل والتسامح، والطمأنينة، فلماذا ننتظر ممن يفتقدون تلك القيم سوي الحقد والكراهية والغل والرغبة في الانتقام والثأر؟!. ليت كل الآباء الذين يطلقون القذائف والحمم البركانية من ألسنتهم علي أطفالهم لتسمم حياتهم النفسية، وتهدم شخصياتهم، يدركون أن ابناءهم أمانة وتربيتهم مسئولية عظيمة سيُسألون عنها يوم القيامة، وليت الآباء لم يغفلوا أن : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، وأن لكل نبتة موسم حصاد يجني فيه الزارع ثمرة زرعه، فإما أن يجني ثمرة طيبة أو خبيثة فكل بما زرعت وغرست يداه، فكم من أناس شهدت صوراً وأدواراً من هذه الثمرات علي مسرح الحياة فلا يفل الحب إلا الحب.