رووا- فيما رووا- أن الخليفة هارون الرشيد، جافاه ذات ليلة النوم.. وركبه الغم.. وتكلكل عليه الهم.. فصاح فى مسرور السياف (مستشاره لشئون الأمن القومى، والتعليم، والإعلام، والثقافة، وكل حاجة).. وأمره بأن يجلب له الصحف الصادرة يوم أمس بأرض الخلافة. راح هارون يقلّب الصفحات.. فازداد غما على غمّ.. ودمدم لنفسه: معقول.. ولا واحد عربى ينال جائزة نوبل فى الآداب؟ أليس بعد نجيب المصريين نجيب محفوظ من نجيب ثان يحصل على تلك الجائزة؟ ما الأمر يا ترى؟ أهى المؤامرة؟ ومن بالضبط وراء تلكم المسخرة؟ أم أننا- نحن العرب- لا نستحق فعلا الجائزة الفاخرة؟ صاح الخليفة فى مسرور: قل لى يا مغبون.. من هو أفضل من يفهم فى الأدب فى الامبراطورية؟ أجاب مسرور خاشعا: لدينا أبو الفرج يا مولاى.. تمتم الخليفة لنفسه: صحيح صحيح.. وهل تراه مستيقظا فى تلك الساعة من الليل يا مسرور؟ قال السياف: أبو الفرج لا ينام يا مولاى ويظل طوال الليل يقرأ ويكتب. صرخ هارون: يا حراس.. هاتوا لى الأصبهانى من تحت طقاطيق الأرض فورا! فلما أن هرول الأصبهانى فجاء.. وانحنى أمام الخليفة فأجاد الانحناء.. سأله هارون: قل لى يا ابن الحسين.. لماذا لم يعد العرب يأخذون نوبل؟ فوجئ الخليفة بأبى الفرج يستغرق فى الضحك حتى استلقى على قفاه.. فزعق فيه هارون: ما الذى يضحك فى كلامى يا حثالة المثقفين؟ اعتدل الأصبهانى فى صرامة.. وارتدى قناع الجد والجهامة.. وهمس للخليفة: عن أى عرب تتحدث يا مولاى؟ تعجب الرشيد وقال: العرب الذين كنت أملكهم وأحكمهم يا سفيه! فردّ الأصبهانى: فأما هؤلاء فلم يعد لهم وجود يا أمير المؤمنين.. ألم تسمع قول صاحبنا المتنبى: «أغاية الدين أن تحفوا شواربكم/ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!». قال هارون: ولماذا كان ذلك كذلك؟ رد أبو الفرج: العرب يا سيد الناس.. مشغولون هذه الأيام بقطع الرؤوس.. وتكفير النفوس.. وإن وجدت أكثريتهم الخبز فلن تجد الغموس.. ولا ثقافة عندهم الآن تشترى أو تباع.. وجف فيهم ضرع الإبداع.. وغادر عقولهم الإيناع.. يا مولاى.. إن العرب ضاع بينهم الاحترام.. وبات كل همهم الحصول على الطعام.. وذاع فيهم الفساد حتى أفلت الزمام! فز هارون غاضبا.. ولكز الأصبهانى لكزة فى صدره أسقطته على ظهره.. وزعق فيه: قل لى يا لئيم كلاما أفهمه.. بعيدا عن الغمز واللمز.. والتهميز والترميز.. لماذا انهارت ثقافة العرب من بعدى؟ فقال الأصبهانى وقد ارتدى رداء المسكنة والبلاهة: أأقول الحق يا مولاى وتعطينى الأمان؟ قال هارون: تكلم فأنت آمن! قال أبو الفرج: شوف يا مولاى.. إن ثمة من الأسباب أربعة.. فافتح لى يا ابن الخيزران مسامعك.. وانزع عنك زيف الأقنعة. أولا يا أمير المؤمنين.. إن العرب قوم منزوعو الحرية فى عالم كله أحرار.. ولما كان الله تعالى قد خلقنا أحرارا.. فإن أنت نزعت من الناس حرياتهم تسقط إنسانيتهم فى الوحل.. تريد نوبل يا ابن المهدى.. إذن فاعلم أن العبيد لا ينالون نوبل! وثانيا يا أمير المؤمنين.. إن العرب ضاع بينهم العدل.. فبات قليلهم من يملك.. وغالبيتهم هم الذين يدفعون صاغرين الضرائب والإتاوات.. والرشاوى والغرامات.. ففقدوا ثقتهم فى الأوطان.. ومن يفقد ثقته فى وطنه لا يفوز له بنوبل ولا بغير نوبل! فأما السبب الثالث؛ فهو تفشى ثقافة «السيارة ترجع إلى الخلف» عندهم.. ويعلم الله وحده من هم وراء تلك المصيبة. إن العرب قوم يسيرون كالنيام ورؤوسهم دائما إلى الخلف.. ومن يمشي بتلك الطريقة- يا صاحب الصولجان أعزك الله- إما أن يقع فى حفرة، أو ينخبط رأسه فى حائط، أو يتلقفه وحش.. وكم تكالبت الوحوش على العرب يا مولاى! صاح هارون: وما ثقافة السيارة العائدة إلى الخلف تلك يا لئيم؟ أجاب الأصبهانى: إنها الإصرار على تعليم الناس ثقافة الماضى التليد.. وعدم النظر إلى المستقبل. انظر يا سيدى إلى مناهجهم التعليمية وأنت تعرف ما أعنى.. إن الغارق فى ماضيه لا يأخذ نوبل يا خليفة المسلمين! هز هارون رأسه.. وهمس: فما السبب الرابع يا أخبث من ولدت النساء؟ قال الأصبهانى: سأفصح لك عنه يا مولاى. لكن لا تنسى أنك أمّنتنى على حياتى. قال هارون: أفصح يا أبا الفرج فأنت آمن. خفت صوت الأصبهانى.. واقترب من أذن الخليفة.. وقال: «أنتم يا مولاى» ! .. إن حكام هذا الزمان لا يسايرون العصر.. ويتناسون أن الزمن زمن شعوب وليس زمن حكام.. والحاكم الذكى الفطن المحب لوطنه بجد هو من يطلق العنان لشعبه.. فلا يختار مستشاريه إلا من أعقل الناس وأذكاهم وأكثرهم خبرة وأمانة.. إن الحكام لو اختاروا حاشيتهم بناء على الخبرة والمعرفة ونظافة اليد والذمم.. ساعتها سيأخذ العرب نوبل! ملحوظة الختام: روى الرواة فيما رووا.. أن أبا الفرج لم يره أحد منذ تلك الليلة.. فمنهم من قال إن الخليفة اختصّه لنفسه كمستشار خاص له يستضىء برأيه فى كل كبيرة وصغيرة.. ومنهم من قال إن مسرور السيّاف قام بالواجب! لمزيد من مقالات سمير الشحات