هذه مجرد (دردشة) عن إضاعة الوقت لإضاعة الوقت فيما قد.. ينفع.. منذ حوالى اثنى عشر عاما تقريبا التقيت فى باريس بالصديقة العزيزة ميشيل أوبير الخبيرة الدولية فى شئون الأرشيف السينمائى، ورئيسة الأرشيف السينمائى الفرنسى، ورئيسة الاتحاد الدولى للأرشيف السينمائى وقتها، وهى أيضا صديقة حقيقية للسينما المصرية، بذلت جهودا كبيرة لمساعدتنا على إنشاء أرشيف سينمائى مصرى على مستوى عال، وذهبت جهودها أدراج الرياح، ولكن هذا موضوع قد تكون هناك فرصة لكتابته يوما ما إذا ما اهتم أحد بذلك... بمجرد لقائنا حكت لى ميشيل عن برنامج إذاعى فرنسى ساخر عن مصر سمعته فى (راديو) السيارة أثناء حضورها، حيث قال مقدمه إن يومى الخميس والجمعة عطلة رسمية (كان يوم الخميس وقتها يوم عطلة)، وأن يوم السبت عطلة للبنوك، وأن يوم الأحد عطلة للمحال التجارية، ويوم الاثنين عطلة للحلاقين، وإذا أردت أن تقوم بأى عمل فأمامك يومان فقط، وهما الثلاثاء والأربعاء، وأن معدل إنتاج العامل المصرى يعادل نصف ساعة فى اليوم الواحد. وإزاء روايتها لحديث المذيع الساخر عن المحروسة، لم أجد بدا من أن أجيبها ساخرا أيضا: «أليست هذه هى الجنة، أنتم تشقون وتتعبون فى حياتكم، ونحن ننتفع بإنتاجكم فى راحة وهناء... ما الذى يساويه كل شقائكم هذا مقابل أحاديث وشعارات فارغة عن التقدم والنمو... ألم تقرأى رواية (كسالى فى الوادى الخصيب) التى يتحدث فيها الكاتب الفرنسى/المصرى الكبير ألبير قصيرى عن حالنا؟!... ثم إن ميراث أجدادنا من الآثار يشكل ثروة هائلة تغنينا عن هذا الشقاء، وتكفل لنا دخلا ثابتا ومضمونا من السياحة»... وانتهى هذا الجزء الافتتاحى من الحديث على خير، ولم أذكر لها طبعا حرصا على مشاعرها من ناحية، وحرصا على الأرشيفين الفرنسى والمصرى من ناحية أخرى، أنه فى الزوايا التى تحتل بها مدينة القاهرة وسائر المدن المصرية بل وحتى القرى والنجوع، يؤكد الخطاب السلفى الجاهل المتخلف بفظاظته المعهودة على أن الله قد خلق الغرب الكافر كى يقوم بخدمتنا، بينما نتفرغ نحن للصلاة والعبادة، كما أن هذا الغرب الكافر سيكون وقود نار جهنم فى العالم الآخر!!!... وبما أن هذه (الدردشة) تتعلق بفن إضاعة الوقت عندنا، فإننى أتذكر أنه فى سنوات الصبا عندما سافرت إلى الخارج لأول مرة فى حياتى، وبعد جولة أوروبية سريعة استقررت فى ألمانيا (الغربية وقتها) ملتحقا بالعمل بمكتب هندسى للرى والصرف لأعمل كمتدرب، إذ كنت وقتها طالبا بكلية الهندسة جامعة عين شمس، وكنا نسافر للتدريب خلال عطلة الصيف فى عدد من الدول الأوروبية، وخاصة فى ألمانياالغربية التى كانت تستوعب أعدادا كبيرة منا، ومن بين ما لاحظته من أشياء كثيرة جدا شكلت ومازالت تشكل قيما هامة وأسسا لمفهوم الحضارة الغربية المعاصرة، أسلوب المجتمع فى الحياة التى رتبت على أساس الشفافية واحترام الخصوصية، واحترام الوقت، وتبدا ذلك فى أشياء كثيرة من بينها استخدام الهاتف، إذ يذكر الشخص اسمه مباشرة لدى رفع السماعة، وهو أمر اتفق عليه المجتمع الألمانى، وأصبح جزءا من سلوكه العام، توفيرا لأحاديث كثيرة ووقت كبير ضائع لدينا، فذكر الاسم مباشرة يوفر حديثا من نوع: (آلو... آلو... أيوه مين معايا؟... بقى بالذمة مش عارف صوتى... طب حزر أنا مين؟.. بحاول أعرف.. صوتك مش غريب... اخص عليك... أنا يا سيدى واحد صاحبك حتى بالأمارة قابلتك آخر مرة فى ميدان التحرير... أيوه عرفتك... أنت فلان؟... لأ... هبتدى أزعل منك بجد...) إلى آخر هذه المهاترات التى تجرى فى ملايين الأحاديث (التليفونية) يوميا مهدرة للوقت والمال والجهد والطاقة... وعندما كنت طالبا بمرحلة (البكالوريوس) وكان تخصصى الدقيق فى الهندسة المدنية هو «الطرق والمطارات»، حل علينا أستاذان لامعان فى هندسة الطرق وهما د. صلاح الهوارى، ود. عبدالمنعم عثمان، وكانا قد عادا لتوهما من الخارج، الأول من ألمانياالغربية، والثانى من الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأحدث الاثنان ثورة فى تعليم هندسة الطرق فى مصر، حيث قاما بتدريس أحدث ما توصل إليه العالم وقتها فى هندسة الطرق، ولم تكن الدراسة مجرد تعليم لكيفية إنشائها فحسب، وإنما تضمنت موضوعات جديدة كسيكولوجية الطرق واقتصاديات الطرق، ففى تلك الأيام كنا ندرس أحدث ما توصل إليه العلم فى العالم، وتعتمد اقتصاديات الطرق على مجموعة من الحسابات منها معدل استهلاك السيارات، ومعدل استهلاك الإطارات، وغيرها من حسابات أهمها القيمة المادية التى يتم توفيرها من وقت المواطنين، وكم تساوى الساعة لدى المواطن، وكنا نستخدم جداول تحدد قيمة الساعة لدى الفرد، وقد تم حسابها بالمارك الألمانى، وبالدولار الأمريكى لتحديد العائد الاقتصادى من إعادة رصف الطريق، وهل تكلفته أقل أو أكثر من قيمة الساعات التى يوفرها... وكنا نتساءل وقتها: متى سيأتى يوم نستخدم فيه جداول مصرية تقدر ثمن الوقت وقيمته بالجنيه المصرى؟، وكان أستاذانا يقولان لنا بثقة شديدة إن ذلك اليوم سيأتى حتما فى وقت ليس ببعيد، ومع تقدم العمل والإنتاج ستوجد تلك البيانات وسيصبح لكل ساعة بل لكل دقيقة قيمتها فى مصر... ولكن ما حدث هو العكس تماما، وخلال أكثر من أربعين عاما من ذلك الأمل وتلك الوعود، أخذت الأمور فى التدهور، ولم يعد للوقت قيمة لدينا، فى الوقت الذى يكتسب أهمية متزايدة فى العالم كله، ولعلها توجت باكتشاف العالم الأمريكى المصرى د. أحمد زويل للفيمتو ثانية... وعلى نحو غير مسبوق فى العالم كله، أخذت الدعاية فى مصر تتنافس فى إضاعة وقت المواطنين وليس فى استثماره، فذهبت دعاية شركات الهاتف المحمول إلى أشياء مثل (أدينا بندردش... ورانا إيه؟!... ورانا إيه؟!...)، بينما بدأت الشركة المصرية للاتصالات التابعة للدولة فى منافستها للدعاية فى إضافة الوقت بحملة تقول: (لو قصادك تليفون أرضى امسك فيه واتكلم وما ترحموش)، إلى آخر هذه الدعايات التى تحرص على إضاعة الوقت مقابل ما تحصله هذه الشركات، سواء كانت قطاعا عاما أو خاصا من أموال، وليذهب الوقت الضائع والطاقة المهدرة ومعدلات الإنتاج الهابطة إلى الجحيم... وبما أن تقدير وقت المصريين بقيمته المالية قد تأخر كثيرا، ومع علمنا مسبقا بأن قيمته تزداد انحدارا يوما بعد يوم، إلا أنه قد حان الوقت كى نحسب قيمته الحقيقية أيا كانت، ولدينا فى جهاز التعبئة العامة والإحصاء والمراكز البحثية والمعاهد المتخصصة عدد من الاختصاصيين والخبراء الذين يمكنهم القيام بذلك، والإعلان عن قيمة الوقت (فى المتوسط) بصورة دورية، وأن تتم هذه العملية بشفافية كاملة، وأن تكون هناك جداول بقيمة الوقت فى المواقع الإنتاجية الكبرى، بالإضافة إلى تقرير عام لهذه القيمة يشمل الشعب المصرى كله، على أن يتم ذلك بصورة جدية، وتحت مراقبة برلمانية وشعبية... نعرف مقدما أن قيمة الوقت فى مصر ضئيلة للغاية، ولكن دون أن نعرف ذلك لن نتمكن من رفع معدلات الإنتاج والتنمية على كل المستويات، وبالتالى رفع قيمته... إن الإعلان الدورى عن هذه القيمة سيضع أمامنا كشعب مهام محددة لتطوير أنفسنا ومواجهة الإهدار المستمر للوقت وللطاقة إلى درجة أصبحت مصر معها فى منطقة بالغة الخطورة... أما هذه الدعاية اللاأخلاقية التى تدعو لإضاعة الوقت وإهداره، فيجب وقفها على الفور... فكم تسكب وزارة الاتصالات وشركات المحمول وشركات الإعلان والقنوات التليفزيونية أرضية وفضائية، خاصة وحكومية... وكم يخسر الشعب؟... كان أجدادنا يقولون: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)، أما نحن فنقول: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه فارقص به).