ظللت تستمعين للمرأة وهي تتحدث عن ابنها الذي هاجر في طلب الرزق، وعن الفوضي التي عمت البلد.. وكأنك تعيشين في بلد آخر.. أخذتك الدهشة حتي أن المرأة قالت.. وهي توجه لومها »انت مش عايشة في البلد!!«.. خجلت وعجزت عن الرد. ..استمرأت حالتك فلم تتحرري، أو تفكي قيدك وتنطلقي إلي حياة تتجدد، فالسماء حين تغيم تصفو من جديد، والماء حين يهدر يسكن، والبرعم حين ينكتم ينفتح.. فلماذا تسيرين في درب لاينتهي بفضاء رحب؟! .. فضلت أن تجلسي أمام التليفزيون تشاهدين الفوضي والعراك. وتسأمين فتديري القناة بحثا عن فيلم تشغلك مواقفه العاطفية، ثم تعيشين لحظتك غافية عما حولك. ... .. ها أنت الآن تفتحين نافذة الشرفة لتتأكدي من الأصوات التي تصلك.. تطلين من الشرفة فتجابهك أصوات الخرطوش، وأدخنة القنابل، وقطع الحجارة الطائرة. أدهشك الشباب الذين يقذفون الحجارة، ويشعلون النار تجاه شباب مثلهم. ياربي.. شباب البلد يتعارك وينقسم! .. اضحي الحاضر في عيني كالعتمة التي صنعها الدخان. رحت أبحث عن الشرطة، كانوا بعيدا عن مرمي عيني، تحجبهم العمارات، لكنهم حددوا مكانا لايتعداه المتعاركون! صكت مسامعي ألفاظ نابية، وهتافات عدائية، فأيقنت أنهم شباب ضال، تذكرت ماكنت اقرأه خلسة علي الحوائط من كتابات بذيئة. وشتائم.. كنت احدث نفسي في حزن وأسي.. ها هو حصاد التعليم ومؤسساته.
تابعت الموقف وخشيت أن اصاب بحجارة طائشة.. كنت ألوم نفسي.. ألم تدركي الأمر إلا حين وصل البيت؟ وإنك علي وشك الموت إن جنحت طلقة الخرطوش وأصابتك؟ ألا تعلمين أن العمارة التي تعيشين فيها قريبة من الشارع ومن مهبط الكوبري. .. اطل من الشرفة وأمعن النظر.. اشب علي قدمي، وأرمي بصري بعيدا. صادت عيني عربة شرطة محترقة، وعددا من الغاضبين يحاولون اسقاطها. ارتعبت وأنا أري هذا الكم الهائل من الحجارة التي تتطاير حتي كادت تصيبني، صرخت في قوة وأنا ألوح بذراعي.. إيها الأولاد، لستم من بلدنا، أبناء مصر لايقتل بعضهم بعضا..! .. تنبه الجيران لعلو الصوت ومناشدة الشباب أن يكفوا.. أشاروا إلي أن ابتعد عن الشرفة، وألا انحني كثيرا فوق السور حتي لايصيبني اذي.
اثارك المشهد وحدة العنف فازداد غضبك وصياحك.. لم تتنبهي إلي تلك اليد المصوبة إليك من اسفل العمارة المواجهة. كأن الحجر ينطلق في قوة ويرتطم بزجاج النافذة. حمدت الله ان نجاك من اذي كان قريبا منك. لمحت عددا من المتظاهرين يفرون من الغاز، راحوا يقذفونك بالحجارة وأنت تصرخين فيهم» يسبونك وهم ينطلقون نحو الباب الذي كان مغلقا، فتسللوا بعيدا«. .. جاءك الموت علي شرفة بيتك.. فمم تتخوفين إذن؟ كان بك رغبة أن تشاهدي مايحدث، وآن لك أن تقتربي، أن تخلعي رداءك وترتدي رداء الحالة الراهنة وتتعرفي! أي غل يحرك الشباب..؟ وكأن الشيطان يمرح بهم ويلهو! أطل علي الطريق، وعلي مهبط الكوبري، عربة الإسعاف تدوي تنزلق السيارات بفعل بقعة الزيت ثمة تصادمات مؤلمة. أصابني الهول وأنا أري بعيني عربة خاصة تجنح، وتهتز، وتخرج عن السيطرة وتصطدم بالسور الحديدي. اخترقته واستقرت في الوسط، كأنها وسط الميزان. إن مالت أو تحركت سقطت.. رأيتهم يهرولون ويصعدون الهلع علي من بداخلها جعلهم يفكرون في مخرج آمن لهم. كدت أسقط وأنا أقف علي أطراف أصابعي علني أتحقق مما يحدث. ارتجف قلبي وخشيت أن تسقط العربة. أصابني كمد وأنا أري بعض الشباب يهرولون ويقطعون الطريق، ويقذفون العربة ومن حولها بالحجارة. ذكرني الموقف بما كنت أراه في التليفزيون من كر وفر وصدام حول مطلع أكتوبر وكوبري قصر النيل والمتحف المصري وميدان عبدالمنعم رياض.. لم يتغير شيء.. السلوك العنيف.. للأسف نحن لم نتغير. وصلني صوت جارتي.. كانت هي الأخري تراقب الموقف من نافذة شرفتها المجاورة. ادخلي كفاك ما حدث. لم أعرها انتباها فعاودت حديثها. ابتعدي حتي لا يصيبك خرطوش. في الشرفة!! مدت رأسها.. واقتربت. سقطت قنبلة مسيلة للدموع بالخطأ في شرفة قريبة لي.. كادوا يموتون لولا سرعة إسعافهم. رنوت اليها وصمت.. وصلني صوتها ناصحا لا تغامري صحت غاضبة وأنا أرتجف خوفا علي من بداخل العربة كأنهم بعض من عائلتي. متي نخرج.. متي؟؟ لملمت نفسي ودخلت وضعت علي كتفي شالا أبيض وطوقت به رأسي ونزلت.. سرت في حذر. تواريت عن العيون. وابتعدت عن الوجوه الغاضبة وتوقفت أمام محل عطارة صغير أغلق بابه خوفا من الفوضي والاشتباكات. وذهلني امتلاء الشارع بالحجارة والزجاج المكسور وبقايا عصي وأخشاب ومخلفات حرائق. لاحت آثار حريق في واجهة سوبر ماركت صغير. كل هذا الذي أراه.. متي حدث؟! كيف لم أنتبه للزلزال الذي دمر المكان؟ رميت بعيني نحو شارع ضيق يتعامد علي الشارع الرئيسي فرأيت خرابا حل به، وكان (يشفي) بحركة البيع والشراء.. أين ذهبت الفاكهة؟ والخضراوات وشادر السمك!! لمحت في آخره «كاردون» من رجال الأمن مجهزين بأدوات الحماية والمواجهة.. ولاحظت جماعات صغيرة تظهر وتختفي. كان معظمهم يحمل حقائب مستطيلة وممتلئة. والعيون تترصد والأرجل تغير خطوها. غيرت موقعي وابتعدت، وعيني علي العربة التي تكاد تهوي من أعلي الكوبري. أتلهف علي رؤية من بداخلها لمحت رجلا وامرأة بجانبه. ثابتان لا يتحركان خوفا من خطر مفاجئ كان الرعب يأكل ملامح الوجه وينزَّ من العين دمع يبتهل. ثمة مناوشات. شباب يطارد بعضهم بعضا. عطلوا بصخبهم الفرصة لنجدة العربة ومن فيها، حتي واتتهم فرصة طارئة فراحوا يطاردون جماعة من الشباب تقف بجوار سيارة الأمن في الطرف الآخر من الشارع. انتهز الحاضرون فوق الكوبري الوقت الذي سنح لهم. وأحاطوا بالعربة وضعوا أحجارا أمام العجلتين الخلفيتين، حرصوا علي ألا يهزوها. أو يفتحوا أبوابها. فحركة رعناء غير مقصودة ستهوي بالعربة. لمحت شابين يمسكان بجنزير طويل من الحديد. ويصعدان مسرعين نحو العربة، رأيتهما يربطانه بالسور المقابل ثم يحكمان ربطه بها من ناحية الصدام الخلفي كان مشدورا، أدركت أن الشباب سيجذبونها إلي الخلف.. حاولوا، احتفظوا بالمسافة وامتداد الجنزير بين السور والعربة.. راحوا يشدون بهوادة وبحيطة.. ذكرني الموقف بلعبة شد الحبل.. تساءلت لماذا يبذلون كل هذا الجهد لانقاذ العربة..لم لم يطلبوا سيارة الإنقاذ؟ تري أتمثل العربة أملا لهم؟ تنهدت بعمق وقلت أهامس نفسي، هو المصري.. تظهر أصالته في الموقف الحرج.. وسعدت وأنا أري بعض الشباب يقفون تحت الكوبري وكأنهم يستعدون لالتقاطها إن هوت! .. وتوجست خيفة.. .. السور يقبض علي العربة من الجانبين، ونصفها علي الكوبري والآخر في الفراغ.. الرجل وامرأته في الصدارة.. في الجزء المعلق في الهواء.
أدارت رأسها ترمق الوجوه.. لمحت بواب العمارة فهمست ستسقط العربة منهم لمحها بجانبه فتعجب.. لأول مرة يراها في موقف كهذا، لم يتعود أن يراها بزي البيت.. هي دوما متأنفة وهي تطلب منه تأدية الطلبات.. ما الذي جري لها؟! اقترب وسأل في لهفة: أتعرفين من بداخلها؟ قالت وهي تدير رأسها بينه وبين العربة فوق الكوبري لا.. لكنهم بشر مثلنا وأشارت بيدها إليه وقالت في أسي انظر إلي الرعب الذي يطل من عيونهم تطاول البواب كأنما يود أن يتيقن مما تقول أخشي أن تنزلق العربة منهم لاتقل هذا.. عندي حل.. .. طلبت منه أن يأتي بعمود من الخشب كالذي يراه منصوبا في الخيام والسرادقات. وأن يذهب به إليهم، ليحجزوا به العربة دعهم يضعونه في استقامة السور، وكأنه بديل للجزء الذي تهدم نظر إليها مندهشا ولم يعلن فأردفت وأشارت إليه أن يرفع رأسه ويدقق النظر. لوجذبوا العربة سيصدها العمود إن أفلتت منهم. .. هرع البواب إلي متجر الأخشاب وأدوات البناء في الجانب الآخر. راقبته بوجل يطل من عينيها، ويرعش جسدها. اطمأنت حين رأته يخرج ومعه عامل من المتجر كانا يحملان العمود ويصعدان به إلي أعلي الكوبري. رأتهما يتناقشان، ويشيران إليها أسفل الكوبري علي ناصية الشارع المقابل رفع بعضهم الأصابع مباركين الفكرة التي عرضتها. راقبتهم وهم يضعون العمود أسفل العربة تحت عمود الكردان مباشرة استقر عمود الخشب بجوار السور وامتداده، وبدا كأنه سور جديد يحمي العربة من السقوط. .. ارتفعت الرءوس إلي السماء، وامتدت الأيدي إلي الجنزير..قبضت عليه بقوة، وصوتهم يصدح باسم الله.. تزحزحت العربة قليلا، أعادوا لف الجنزير، احتفظوا بالمسافة الجديدة.. وتحركت العربة إلي الداخل.. ارتج قلبها واستراح.. قالت في صوت واضح تنبه له الحضور سينقذون العربة.. وسيحيا من فيها.