عندما امسكت الحجر, كنت اعتقد انه ليس حجرا, صامتا وكالحا وفارغا, بدون روح, سطحه غير منتظم, ولا يصلح لشئ, حجر لايستطيع بناء حضارة! هالني هذا الحجر منذ جئت به, كنت اجلس عليه كأني ملك قديم لعرش لم يأت بعد, وعندما جاهدت في دفعه بقدمي كي يعود لرمال صحرائه, وجدته لا يتحرك ولا يبرح المكان, لا اعرف من أي الانواع: بازلت, مرء, جرانيت, صوان, واضح انه بقايا حضارة قديمة لم يعد يهتم بها إلا الغرباء, كان وجهه حزينا صامتا كأنه تعلم الصمت والحزن مثلي, هذا أول حجر اقابله بهذه الصلابة, حجر مستعص علي النحت, جربت في نحته وتشكيله جميع الادوات الممكنة: ازميل ومنشار, والحجر صامد لم يخدش, كاد يصيبني بالجنون, ألقيته علي أرض الشقة بقوة كي احطمه, لم يحدث له شئ, يبدو انه من نوع لم يعد يستخدم بكثره في الزمان, وعنادي تلاشي امام صلابته, جلست علي الأرض, واشعلت سيجارة وتذكرت كلمات الدكتور المشرف علي الامتحان: يجب ان تنتهي من تشكيل ذلك الحجر, كي تحصل علي شهادة التخرج, اي امتحان واي شهادة؟ وتنهمر الاسئلة علي ساحة عقلي ثم تفر هاربة إلي القاع السحيق مشكلة علامة استفهام تصلح مشنقة, وحبلها كبندول ساعة الزمان منذور للموت الابدي, اطفأت السيجارة, وقررت عدم التقدم للامتحان حتي يعطوني حجرا يتشكل بسهولة, ولماذا أنا دون كل الدارسين ابناء واقارب الدكاترة, اعلم انهم يأتون لهم بتماثيل جاهزة وتقبل ويفوزون بأعلي المناصب, تناولت كتابا من المكتبة يشرح فيه تعامل العظماء مع الاحجار, مختار ورفاقه, السجيني ومأساته, لكن الاسئلة لا تتوقف عن الارتطام بجدران الجمجمة والحجر ملقي علي الأرض يرمقني في تحفز, ويظل السؤال الذي ألقاه نجيب سرور هو السؤال الاعظم: حجارة وقالوا حضارة؟ ليه ياعم نجيب. إذا كان هذا الحجر هو مفتاح نجاحي, فملعون النجاح وملعون الحجر, كوب شاي ساخن والاستحمام والهبوط للشارع للخروج من عناد الحجر وحصار الأسئلة, اخذت معي الحجر, ركبت سيارة أجرة وقررت ان ألقيه في الشارع كي اتخلص منه, لكني لم افعل, اليافطة الكبيرة وانا متجه لميدان التحرير تنذر بالوعيد: إماطة الاذي عن الطريق صدقة, حينئذ قررت الاحتفاظ بالحجر خوفا من عقاب السماء, سأذهب للدكتور الممتحن وألقي في وجهه الحجر, لا.. سوف اشج به رأسه كي اتخلص من ضغطه علي وأسقطه من فوق أكتافي, هكذا يجب ان تنتهي الأمور!, بنايات تبني علي جانبي الطريق كأنها تتآمر للسقوط علي رأسي, بنايات لناس ليسوا مثلي, واعلان مصر علي ضغطي وجعلي قزما: ادفع نصف مليون جنيه فقط وامتلك شقة والباقي بالتقسيط, من أين يأتي هؤلاء الناس بتلك الاموال؟, من المؤكد ان احجار تلك البنايات ليس بينها حجر قريب للحجر الذي بين يدي! والرجل الذي يجلس بجواري في السيارة ينظر للحجر وينظر لوجهي علي انني مجنون, هربت من نظراته للنظر لقرص الشمس في نهاية الافق, آه أيتها الافاق الممتدة لو استطيع اللهو في الهواء واصبح عصفورا, او سحابة تتساقط كرذاذ المطر علي بطن الصحراء, كان قرص الشمس يبدو كأنه يشرق لأول مرة, واضح وصريح ودافئ, أين حبيبتي الان؟ اعلم ان والدها قد اشتري لها زوجا علي مزاجه, زوجا يستطيع أن يضحك في بلاهه وهو جالس في البيت ووالد حبيبتي يصرف عليه, وأين الحب؟ ما الذي يجعلك عاجزا عن الرحيل ايها الحزن؟ لا داعي لتلك الاسئلة التافهة الان, لكن سيقان حبيبتي ظلت تتأرجح امامي وهي تعلن الغضب لعدم وجود جمهور لها, وتأتي مكالمة التليفون من أمي: إلي أين تذهب يا محمد؟, لميدان التحرير يا أمي, ترد أمي: ليه؟ يعلو صوتي: رايح ادور علي شغل, رايح ادور علي بكرة, وتغضب امي وتقول دون ادني رجفة في صوتها: ربنا يوفقك وينصرك وتعود سالما, والرجل بجواري يرمقني بنظرة تؤكد انني مجنون. وصلت للميدان بسرعة لم اعتدها في الطريق, كان الميدان يمتلئ بالكثيرين مثلي, بحثا عن الغد, الجيب فارغ والقلب مذبوح والعقل مشتت واليد عاجزة, شعرت ان هذه الزيارة لميدان التحرير أغرب ما فعلت في حياتي, لكن رصاص رجال الامن وقنابلهم المسيلة للدموع لم تعط لي فرصة البحث عن جواب للاسئلة النائمة علي قارعة العقل, لحظات وتحول الميدان لمذبحة كبري, لم يكن للجلادين والقتلة وجوه ولا اسم. , طغاه وحشين فقط, لم اكن خائفا, لكني لم اكن املك شيئا للدفاع إلا ذلك الحجر بين يدي, فرصة للخلاص منه ومن امتحانه اللعين, لكن الحجر تجاوب معي عندما هممت بإلقائه علي الملاعيين, بل اصبح قطعا من الاحجار يسهل حدفها مما يجعلها علي مقدرة كبيرة من التصويب, واصابع يدي تصبح كترسانة اسلحة كاملة اهم أسلحتها حجري, كانت ضرباتي بالحجر كضربة مصارع ثيران, وامتلات يدي وجيبوبي بالاحجار, وحرارة الاشتباك والكر والفر زادت من شجاعتي, كيف يمكن لحجر واحد ان يتمزق ويتفتت بكل تلك السهولة؟, والمدهش ان كل حجر كنت ألقيه كان يصيب أحد الملاعين اصابة قوية مباشرة, في الوجه دائما, ثم تعود الاحجار مرة أخري وتتجمع لتصبح الحجر الكبير, حجر واحد صامت بدون ملامح, ولكنه يملك مفتاح الحرية, حجر يصير جدارا حاميا امام هجمات الاوغاد, ويتمدد الحجر ويتسع ويصبح كمتاريس المدن المستعصية صعبا علي الفتح والاقتحام امام فلول النظام ورجاله. ويهبط الليل, وينتشر الكلام الكثير عن الصمود والاستمرار في المطالبة بالتغيير وعدم مغادرة الميدان, اصيب البلد بالشلل ونحن محاصرون, وقبض علي الكثيرين, وتم إغلاق شوارع الميدان ومداخل المترو بعربات الشرطة والجنود المحترفة والمحطمة حتي لا تخرج منها فئران الامن. أخذت حجري ومررت به وسط المتظاهرين, أدق به اوتاد الخيام المتناثرة واثبتها في الأرض, كنت أدق به الوتد وكأنه لن يفارق الارض, وتحول الميدان إلي خيمة كبيرة أوتادها مخترقة سابع أرض واسقف من كارتون أو قماش أو بلاستيك, وعندما أنتهي من تثبيت أوتاد الخيام, أضعه أسفل رأسي وانام, شعور بالراحة لم امارسه منذ زمن كبير وانا نائم وسط الميدان, اكبر غرفة نوم في الكون, نسمات باردة تغطيك وقمر يسهر علي راحتك ونجمات متناثرة قلقة تراقب ما سيحدث, وحجر أسفل رأسي اصبح وسادة ناعمة لرأسي الملئ بالاحلام, رأيت في المنام حبيبتي, تغيرت كثيرا, كنت ارحل عنها, ارحل.. عائدا اليها, حاولت الهروب منها فرأيت والدي وهو جالس أمام مقبرته علي حجر مثل حجري, جذبني اليه, كنت ارتعش وارتجف إلا انه ربت علي كتفي واحتضنتي وقال لي ساخرا: الغربان لا تلد الصقور, نهضت وجلست علي الحجر, حولي مجموعة من الاصدقاء: سيد خليفة وحمادة الرومي وحسام الدين حمدي وعلي قريشة واسماعيل المجاهد والاخوة: هشام وحمادة وصلاح عبد المجيد, البعض نائم والبعض يصلي والبعض يقرأ في المصحف أو قصاصات من الصحف, وأخرون يشتركون في تدخين سيجارة, مددت يدي أسفل وتحسست الحجر كان يقظا وصامتا كعادته, لكن نبضات قلبه المشتعل جعلتني أشعر بالاطمئنان واعطتني دفئا لا ينسي تلك الليالي الباردة. في الصباح كان يبدو حجري قلقا ومرتبكا وكأنه يشعر بشئ لم نعتده, وبدأ يبكي ويرتجف, احتضنته بقوة غير مدرك ما أصابه, حينئذ بدأت السماء تضطرب, وتحلق فيها الطائرات تهدر بقوة كي تخيفنا, تهبط حتي تكاد تسحق رءوسنا بأجنحتها, ولم نكن نفعل أو نملك شيئا غير أن نصيح ونزعق فيها: لن نتحرك, اضربونا وخلصونا, وفي الطرف الآخر علي أسطح أحد الفنادق والبنايات قناصه يصيبوننا, ولا استطيع بحجري أن اصل اليهم, الملاعين, يسقطون الابرياء حولي وانا وحجري عاجزان عن فعل أي شئ, الآن فهمت لماذا يبكي حجري, ظللت اقبله واحتضنه وادعو واطلب معاونة السماء حتي رحلت الطائرات من السماء والقناصة من الاسطح. خلال الايام التالية, لم يفارق الحجر قبضة يدي, ظللت قابضا عليه, بصمات اصابعي تشكلت علي سطحه, ووجوه من اصابهم كانت مطبوعة عليه, ومع مرور الايام والصدام كانت تزداد وضوحا وعفونة, في الظهيرة نشتبك ونلقي الاحجار ونصيب ونصاب, ثم اضعه أسفل رأس احد المصابين, كانت دماؤهم تسيل علي الحجر فيتحول لونه من الاصفر إلي الاحمر القاني اقسم ان حجري حمل جميع فصائل دم هذا الشعب ثم اسحبه كي أجلس عليه واستريح لحظات كي اتناول اي طعام يأتي به أي عابر, وعندما اعود للاشتباك يتحول الحجر أثناء الصدام والكر والفر إلي احجار صغيرة, يتم تصويبها لرأس وصور كل الملاعين الذين يحاصرون الميدان, ثم يعود أسفل رءوس المصابين والجرحي, والدماء تسيل لوجوه دامية, مشجوجة, مبطوحة, عيون منتفخة, الكثير مصاب, والكثير يحتاج إلي وسادة لراحة هذه الرءوس, وتحول حجري إلي أكبر وسادة في أكبر غرفة نوم عرفها التاريخ, كان الحجر يبدو سعيدا عندما يتفتت ويصبح احجارا كثيرة, لكنه كان يبدو غاضبا وحزينا وباكيا ونازفا دما عندما يوضع أسفل رأس لجسد تخرج منه الروح, حيث يتجمع الحجر ويعود إلي, لا يريد أن يبارح قبضة يدي, نبكي وتختلط دموعي مع دموعه, فنزداد صلابة وقوة, لكن الخوف ظل يحيط بنا والميدان يحاصره أصحاب الوجوه الخبيثة والدماء الباردة والجلد الغليظ, فكان الحجر يطمئنني ويعطيني شجاعة لم أجربها منذ وفاة والدي, شجاعة استطيع بها أن اخترق الزمان لاعود إلي صفوف احمس ورمسيس وصلاح الدين, والدماء علي الحجر تلون سطحه مما اعطي لسن القلم سهولة ويسرا في ان يكتب اسماء الشهداء: محمد وجرجس وفريد, واسمي المصابين: أحمد عبده وناصر فرحات, هكذا يصبح لحجري معني: في النهار تتحول يدي لترسانة أسلحة اهم سلاح فيها حجري, وفي الليل وسادة لنوم مقلق في ليل شديد الدفء والحذر والحب والحرية, والايام تتوالي مما يزيدنا عنادا وصمودا أكبر وأقوي من أي حجر. وتعود لرأسي دوامة من الاسئلة ولا احد مما حولي يقدم اجابات, لماذا يولد وينشأ حب جديد في أصعب مواقف الحياة؟ وكأن الحب مصمم أن يولد في لحظات لن تنسي, كانت الجميلة نانيس خزبك القادمة من محافظة الشرقية, أرض الكرم والباحثة لابنتها ملك عن أب جدير بهذه الطفلة, تلك الطفلة التي لا تكف عن الابتسام والمشاغبة, كانت تأتي إلي حاملة بعض الاطعمة ونجلس علي حجري ونتحدث في أي وكل شئ, خاصة الغد وما يحمل, وكنا نتراهن أن الغد ملك لنا, وسوف يأتي مهما حاولو إبعاده..! وعندما نهضت وتركتها مع ابنتها النائمة علي حجرها, وجدتها خلفي وهي تحمل حجري, وتسلمه لي, كانت ابتسامتها وعيونها تحمل كل الحب وكل الإجابات وكل الغد المشرق. وجاء وقت الميلاد, البداية, قلب الوطن يعود للنبض من جديد, يبدو أننا علي وشك الانتهاء, والشاشة الكبيرة في الميدان تعلن قرار التنحي, أصرخ وآخذ حجري وأهرول لأول الصفوف, كي أري تلك اللحظة التاريخية, اضع الحجر واقفا عليه, ابدو عاليا وطويلا وألمس السماء بيدي وامسك نجومها وأقبل قمرها, وملايين من البشر تتوافد علي الميدان, يتسلقون جسدي وحجري, الملايين كي يروا تلك اللحظة المصيرية في عمر الوطن, الفرعون يرحل, خائفا, لا يريد الظهور علي الشاشة, الان جاء دوري لأرفع رأسي, واسفلي حجري ليتفتت ويصبح: ماس الاقراط وزمرد العقود وياقوت الخواتم لجسد الوطن الغالي, ويصبح ميدان التحرير العين السحرية التي تري به الغد المشرق, ويصبح حجري عمود أحد المعابد القديمة, عمود ميدان التحرير, عمود دائما يحمل سماء مصر, اشعر انني جندي خرج لقتال العالم.. حاربت وحققت الانتصار, هللنا وبكينا وسجدنا علي الارض, اطلقنا الصواريخ النارية والزغاريد وصرخات الابتهاج, والحجر اسفل قدمي يجعلني مرتفعا, عاليا أطاول الأمم المتعددة, كي تراني امي وحبيبتي والتاريخ ونانيس خزبك وابنتها ملك, هكذا اعود اليوم للولادة في حياة جديدة وانا اقف علي حجر الحرية. واعود إلي منزلي وكلي حب وأمل وفخر وحرية وحياة, حيث تصبح حيواتنا أفضل لو حمل كل منا حجرا في حقيبته كحجري, حجر يستطيع بناء حضارة. محمد محمد مستجاب: صدرت له مجموعة قصصية بعنوان الثعبان يبحث عن شط التي حصلت علي جائزة اتحاد كتاب سوريا عام2008 وله رواية علي وشك الصدور بعنوان قرية ليس بها رجل