كانت معركة قسم الاربعين بمثابة رأس الحربة في معركة السويس كلها، طلقة الآر بي چي التي خرجت من قاذف الفدائي الشهيد ابراهيم محمد السيد سليمان غيرت الموقف تماما. بدأت المجموعة الاولي من دبابات العدو في اقتحام المدينة. كان الكمين الاول الذي يضم ابراهيم سليمان في دشمة خرسانية بين مجموعة مساكن قريبة من قسم الاربعين. كان واضحا ان العدو يهاجم المدينة بواسطة موجات، وكانت الموجة الاولي مكونة من دبابة وعربتين نصف جنزير.. اقتحمت باقصي سرعة، اطلقت من القاذف الصاروخي طلقة علي الدبابة. لكن سرعتها العالية حالت دون وصول الطلقة إلي المكان الذي من المفروض انني اصوب عليه وهو الجزء الذي يصل بين برج الدبابة وجسمها، لم تصبها الطلقة في مقتل. ضربت الدبابة دانة اثناء اندفاعها اصابت الساتر الحجري الموجود امام شركة النقل. وفي هذه اللحظات كنت غيرت بسرعة مكاني الذي اطلقت منه المقذوف علي الدبابة كما تقضي بهذا القواعد. في هذه اللحظة، اطلق المقاتل احمد العطيفي مقذوفا اصابها في البرج، غير ان الاصابة لم تكن شاملة. في نفس الوقت. كان اللهيب المنبعث من المدفع قد اصاب يد المقاتل احمد وهنا تناول ابراهيم سليمان منه المدفع. استدارت الدبابة وعربات النصف الجنزير هاربة، ولاحظنا ان عربات النصف جنزير التي كانت مصاحبة للموجة الاولي بها »دمي« علي هيئة جنود. كما كانت ترفع اعلاما مغربية وجزائرية. بدأت تقدم موجة الهجوم الثانية. كان هذا طابورا مدرعا مكونا من 3 دبابات و21 عربة مدرعة وعدة عربات نقل تحمل الذخيرة والمؤن، كانت الدبابة التي في المقدمة ضخمة جدا من طراز سنتوريان، كان ابراهيم سليمان قد اختفي وراء شجرة ضخمة، وكان قد اقسم اثناء احد تدريباتنا انه لو تصدي لدبابات العدو فانه سيضربها علي بعد عشرة امتار. كان ابراهيم يلبس نظارة طبية، وفعلا من هذه المسافة القصيرة اطلق ابراهيم قاذفه الصاروخي، اصيبت الدبابة. ومشيت حوالي 21 مترا باضطراب ثم توقفت. رأيت البرج يستدير علي ميل في اتجاه الخندق الذي يكمن به المقاتل احمد ورفاقه، كانت المسافة قريبة جدا. وكان اتجاه المدفع محددا. ورأيت هذا المنظر فاخفيت عيني بباطن كفي حتي لا اري دانة المدفع وهي تفتك بزملائي، ولكن حدث ان مال مدفع الدبابة إلي اسفل ميلا بسيطا وخرجت الدانة لتستقر في الردم الموجود بعيدا عن الخندق.. لم تنفجر.... وهنا ينطلق المقاتل محمود من مكمنه. يعبر خط السكة الحديد. يقفز فوق الدبابة المصابة. يلقي داخلها بقنبلة. كان السائق في الداخل قد بتر رأسه عن جسده بعد الطلقة التي اطلقها ابراهيم سليمان، كان افراد الطاقم في حالة رعب شديدة. يحاولون شد بعضهم إلي اعلي للخروج من الدبابة المصابة. اذ ان السنتوريان لا يوجد بها فتحات تحتية تمكن الطاقم من الهروب. اشتعلت النيران في الدبابة. وبدأ الرعب يظهر علي الجنود الاسرائيليين الذين كانوا يركبون العربات المصفحة راح سائقو هذه العربات يبتعدون بسرعة في محاولة مضطربة خوفا من انفجار الدبابة. كانت هذه اول دبابة يتم تدميرها من الطابور الاسرائيلي المدرع الذي هاجم المدينة. ولاتزال هذه الدبابة ترقد محطمة امام قسم الاربعين فوق خط السكة الحديد المؤدي إلي الزيتية. بينما توجد مقدمتها علي بعد حوالي 21 مترا من مبني القسم، وهو المكان الاصلي الذي اصيبت فيه. ورقم هذه الدبابة كما هو موضح علي اللوحة المثبتة بها 814266. عند مشارف المدينة كان رجال القوات المسلحة، في هذه اللحظات، يشتبكون مع جنود العدو. وكان بعض الجنود واهالي المدينة قد هاجموا عربات النقل التي تحمل المؤونة والذخيرة. وتم ابادة هذه العربات باكملها. ومازال حطامها، أو بقاياها توجد عند مدخل المدينة. وفي داخل المدينة كان تدمير الدبابة الاسرائيلية قد حول الموقف. عرف الجميع ان الدبابة قد دمرت. وان الجنود الاسرائيليين تخلوا عن عرباتهم المصفحة في حالة فوضي ورعب لا مثيل لهما. ونعود إلي المنطقة الواقعة حول قسم الاربعين. لقد تمكن ابراهيم سليمان من تغيير موقعه واصابة عربة مصفحة اسرائيلية، وكان الرجال قد بدأوا يهاجمون افراد الطابور المعادي الذين ارتفعت صرخاتهم المرعوبة. وراح رجال القوات المسلحة يشتبكون مع العدو ويهاجمونه. ويذكر المقاتل محمود، شابا من رجال قواتنا المسلحة كان ضابطا برتبة نقيب. كان قصيرا ابيض، يا سلام، لم ار في حياتي من هو اشجع منه، كان يهاجم باصرار وبقلب ميت لا يعرف الخوف.. اسمه.. اسمه. والله لا اذكر اسمه. لم يقل اسمه، لم تكن هناك فرصة للتعارف. كان كل من في المدينة يسرع إلي مكان القتال، يعاون جنود القوات المسلحة يقدم ما يمكنه من المساعدة، اشترك في القتال اناس لم يحملوا السلاح طوال حياتهم ولم يشتركوا في خناقة. اذكر علي سبيل المثال عبدالعزيز محمود موزع الصحف الذي كان ينقل الجرائد والمجلات من القاهرة إلي السويس. قطع عليه الطريق، سأل »هما اليهود جايين منين« اشار له الرجال إلي الاتجاه، حمل سلاحا، وذهب وقاتل واستشهد، كان الاطفال الصغار ينقلون الذخيرة خلال القتال، والعجائز يشتركون في اطفاء الحرائق. كان الاسرائيليون قد هربوا من مصفحاتهم، وقام افراد الكمين بتغيير مواقعهم. عبر المقاتل احمد العطيفي الطريق إلي داخل سينما رويال. كان باب السينما الحديدي مغلقا. اطلق دفعة رشاش علي القفل، فتحه. واسرع إلي الداخل ليحتل موقعا يمكنه من اصابة الجنود الاسرائيليين فوجيء بعد لحظات ان جنديا اسرائيليا قد اقتحم السينما، اصبح في مواجهته. اطلق الكوماندوز الاسرائيلي دفعة رشاش مرقت بجوار احمد، وبسرعة لحظية اطلق احمد دفعة رشاش اصابت الاسرائيلي في يده القابضة علي رشاش المدفع »العوزي« اخترقت احدي الطلقات خزانة المدفع، ونفذت الرصاصات الباقية إلي جسد الاسرائيلي. رأيت مدفع العوزي الرشاش الذي كان يحمله فرد الكوماندوز الاسرائيلي ضمن الغنائم واثار الطلقات التي اصابت خزانته تصنع فجوة عميقة تخترق جسم المدفع كما رأيت سترة هذا الفرد الذي كان واضحا انه ينتمي إلي جنود المظلات الاسرائيليين. في نفس الوقت بدأ افراد العدو في الجري للدخول إلي اقرب مبني لهم. وتصادف انه مبني قسم الاربعين. لم يتمكن جميع افراد العدو من الدخول إلي القسم. اذ ان جنود القوات المسلحة ورجال المقاومة والاهالي هاجموا العربات المصفحة وفتكوا بها. اصبح كل فرد في المدينة مندفعا نحو مركز المعركة الدائرة حول قسم الاربعين. الاهالي، البائعون منهم واصحاب الدكاكين. اللبان والجزار وبائع الصحف والقهوجي، والذين احتجزوا في المدينة بسبب قطع الطريق إلي جانب رجال القوات المسلحة حوالي الساعة الواحدة والنصف ساد هدوء مفاجيء استمر دقائق.. بدأت الرصاصات المتفرقة دانات المدفعية. وردت المدينة بجحيم من النيران، كانت الطلقات تخرج من كل مكان في اتجاه واحد اتجاه العدو. كان الطابور المدرع الاسرائيلي قد اصبح مادة للنيران التي التهمته، اما افراده فتم الفتك بهم فتكا تاما، وتناثرت اشلاؤهم علي قضبان السكك الحديدية. وفي عرض الطريق وامام ابواب البيوت التي حاولوا اللجوء إليها، وتناثرت الخوذات ورشاشات العوزي وصناديق الطلقات، وبين ألسنة اللهب ترتفع صيحات الجرحي من اليهود، صيحات كالعويل، وفوق الضجة ترتفع صيحة »الله اكبر« من المقاتلين من الرجال فتبدو وكأنها صرخة المدينة المدافعة عن نفسها في مواجهة العدوان. وداخل قسم الاربعين استطاع عدد من جنود العدو التحصن فيه. مبني قسم الاربعين مربع الشكل. مدخله الخارجي يؤدي إلي فناء داخلي يطل عليه طابقان. ان من يتحصن بالطابق الاعلي يمكنه التحكم في مدخل المبني، وفي المنطقة المحيطة بالقسم حيث يوجد سور مرتفع يبعد عن جسم المبني حوالي ثلاثة امتار. لقد صمم المبني وروعي عند انشائه ان يشبه الحصن. بحيث يمكن الدفاع عنه بسهولة. كما ان المبني يقع عند مفترق الطرق، وعلي ناصية خطي السكة الحديد، الخط المؤدي إلي قلب مدينة السويس. والخط المؤدي إلي الزيتية. لقد تم الفتك بالقوة الاسرائيلية المهاجمة. وقام رجال القوات المسلحة بالتصدي للموجات الاخري من الهجوم الاسرائيلي عند مدخل المدينة. وتم تدميرها موجة وراء الاخري. كما تصدوا لعدد من الدبابات والمدرعات التي حاولت التقدم ولكن هالها ما جري لموجة الهجوم الاولي التي ابيدت. ولكن كان الذعر يسطير علي حركة هذه القوات. لدرجة ان احدي الدبابات الاسرائيلية تراجعت عند مدخل المدينة بمجرد اطلاق دفعة رشاش عليها وقامت مدرعة اخري بالدوران حول نفسها مرتين. ويعلق احد المقاتلين علي هذا المنظر: »كان جسم العربة يعكس رعب من بداخلها، وعندما دارت السيارة حول نفسها مرتين وبسرعة شديدة وفي نطاق ضيق من الارض لم اتصور ابدا ان في امكانية هذه العربة الدوران بكل هذه المرونة« وحول القسم تجمع رجال القوات المسلحة وبعض الاهالي واستعدوا لاقتحام القسم. وطوال هذه الفترة لم تهدأ المناوشات واطلاق الرصاص من الجانبين. بدأ حصار مبني القسم، اتفق الرجال علي الانتظار حتي آخر ضوء حيث قرروا اقتحام القسم من ناحيتين. قبيل الغروب بفترة وجيزة بدأ اطلاق النار من جانبنا بكثافة، وتقدم الرجال لاقتحام القسم. كان علي رأسهم ابراهيم سليمان. كان هناك ايضا هذا النقيب الشجاع كان طوال فترة القتال كالنحلة لا يهدأ. يتحرك هنا وهناك يا سلام.. لم اعرف اسمه. اصيب عند سور لاقسم، كان يمسك قنبلة يدوية بيده، صار يزعق وجرحه ينزف.. ياوحش.. ياوحش.. تحرك إليه ابراهيم سليمان، اقترب منه، اخذ منه القنبلة. كان النقيب يريد ان يسلمه القنبلة بعد ان اصيب اصابة جسيمة. من علي بعد معين رأينا المشهد في غبشة الغروب. كان المقاتل العطيفي وسرحان والبهنسي »مهندس زراعي« وجنود القوات المسلحة يقومون بتغطية اقتحام القسم، اندفع ابراهيم سليمان، قفز من فوق السور، ارتفعت يداه في الهواء، ونفذت رصاصات رشاش اطلقت عليه من النافذة العلوية، كان الوقت غروبا بقي الشهيد ابراهيم سليمان مكانه منحنيا فوق السور حتي صباح اليوم التالي، غير ان استشهاد ابراهيم لم يكن نهاية الهجوم، ومحاولة اقتحام القسم، اندفع الرجال ومن بينهم اشرف، استمر اشرف يجري في اتجاه القسم. تمكن فعلا من اجتياز المدخل. لكنه عندما مر إلي الفناء تلقي دفعة رشاش. وسقط شهيدا داخل القسم وفي الحال اندفع الشهيد فايز، وفوق درجات السلم الداخلي بالقسم استشهد. نزل الليل وكان الظلام كثيفا والعتمة شديدة، واصوات القتال الليلي الغامض تتردد في المدينة. طلقات الرشاشات ودانات المدفعية. واحيانا يسود الصمت لدقائق فيسمع صوت الجنازير وهي تتحرك علي مسافات متباعدة. اضطر المقاتل محمود إلي اشعال النيران في احدي الدبابات المعادية ليضيء المنطقة المحيطة بالقسم. وظلت هذه الدبابة مشتعلة حتي الصباح. وكانت المدينة الملتهبة يسودها شعور قوي بالانتصار والثقة. كانت جحيما لا يمكن اقتحامه. وكان كل من فيها علي استعداد للموت والفتك بمن يفكر في الدخول اليها، كان مستحيلا علي اي قوة ان تدخل السويس. وامام قسم الاربعين رقد عدد من الشهداء.. بينهم هذا الضابط الشجاع برتبة نقيب. الذي لم يهدأ طوال المعركة. والذي كان يقاتل قتالا وحشيا. لم يكن مهما التعرف. المهم انهم مصريون وهو مصري، ويرقد ايضا ابراهيم سليمان واشرف وفايز شهداء منظمة سيناء العربية. واهالي السويس. في الصباح عندما اقتحم الرجال القسم. وبعد السيطرة علي القسم. وجدوا اثار دماء واربطة جراحية ومقصا ومشرطا. صباح 52 اكتوبر قد بدأ وبدأ معه انه من المستحيل الان اقتحام المدينة. 52 اكتوبر بينما قصف المدفعية مستمر، يتصل القائد الاسرائيلي بالمسئولين عن المدينة عن طريق تليفون موجود بالزيتية. يهدد بتدمير المدينة بالطيران. يهدد بقطع المياه بدأوا يوجهون اذاعات إلي المدينة بمكبرات الصوت. في نفس الوقت قام عدد من اهالي المدينة رجال دين ومثقفون بالمرور في الشوارع مستخدمين مكبرات الصوت. يلهبون مشاعر الاهالي، وكان الناس يقولون في الطرقات. انهم يهددون بضرب المدينة بالطيران.. ان لاسويس تقصف بالطيران منذ ست سنوات، ماذا يجري لو اصبحت المدة ست سنوات واياما. كان واضحا ايضا من شكل تهديدات الاسرائيليين انهم لن يحاولوا اقتحام المدينة عنوة. وردا علي هذه التهديدات كان قرار المدينة كلها، رفض الاستسلام تحت اي ظروف والقتال حتي الموت. ويستمر قصف المدفعية والطيران. مساء 52 اكتوبر خلال النهار تقدمت امكانيات الدفاع عن المدينة. كل ساعة تمر تعني تحسين موقفها الدفاعي. لقد تم تدعيمها باطقم اقتناص الدبابات من جنود الفرقة 91 الموجودة شرق القناة. في نفس الوقت كان يتم تنظيم موارد المدينة المتاحة وتوظيفها بافضل الطرق. في المساء دفع العدو بعض دباباته ومدرعاته في محاولة لاستقصاء موقف القوة التي اقتحمت المدينة. ابيدت هذه المحاولة عند مدخل المثلث. وحتي يوم 72 اكتوبر استمر العدو يقصف المدينة بالطيران والمدفعية وفي يوم 62 اكتوبر ركز عليها تركيزا شديدا لماذا.. لان هذا اليوم كان يوافق عيد الفطر. بعد انتهاء الحصار وانسحاب القوات الاسرائيلية دخل إلي المدينة شاب كثيف اللحية يرتدي افرولا اصفر انه واحد من اهالي السويس. يبلغ من العمر أربعين عاما يعمل مصورا. لكنه بعد العدوان تطوع للعمل الفدائي. قناوي لم يشترك في معركة السويس لانه كان في مهمة لاستطلاع قوات العدو. قضي 09 يوما فوق جبل عتاقة. وبمجرد انسحاب العدو تقدم إلي مدينته السويس. لم يسأل عن امه واخوته. كان اول سؤال وجهه إلي من التقي بهم.. فين زمايلي ورآه المقاتل احمد سمعة يسأل فاستفسر من احد الوافقين بجواره.. - مين ده.. وترقرقت الدموع في عيني قناوي لان زميله لم يتعرف عليه بسبب ما لحق به من تغير. وعندما تعانقا ولمح قناوي زملاءه، لم يجد بينهم ابراهيم سليمان . وفايز واشرف امتلأت عيناه بدموع. قال المقاتل العطيفي - نقصنا اربعة يا قناوي.. وكانت السويس من حولهما تحتفل بالنصر، والطلقات تلعلع في الهواء. وكان اللقاء حارا مؤثرا يدفع بالدمع إلي العيون.. انها الحرب..