في الصباح, كانت العجوز تفتح أبواب الشرفة الطويلة في الطابق الذي يرتفع قليلا عن أرض الطريق. كانت تضغط الزر في الجدار الجانبي وتضيء لمبة الفانوس القديم المعلق في عز النهار, بعد ما تكون أضاءت نور الشقة كلها. وتروح تزيل الغبار الأصفر الناعم. أما بقية النهار, فقد كانت تترك أبواب الشرفة مفتوحة والنور مضاء, وفي الشتاء تترك الشيش وتغلق الزجاج. وإذا ما وقف أحدنا في شرفتنا المقابلة, كنا نلمحها عبر هذا الزجاج المضاء, وهي تمر وحيدة من هنا إلي هناك داخل الشقة. في الصباح كنت أنتبه إلي صوت ضربات الفوطة الكبيرة وهي تنفض الأبواب والمقعدين والطاولة بينهما, كنت أراها هناك بحجمها الصغير في جلباب البيت والروب المفتوح, وشعرها الأبيض المنكوش أسفل الإيشارب المربوط, وهي ترفع الغابة الطويلة بنهايتها التي ثبتت فيها اللوفة الكبيرة, تمررها علي بقية الجدران والسقف العالي. أما في الأيام الأخري, فقد كنت أقلق من نومي علي الضربات القوية للعصا القصيرة في السجادة المطوية علي سور الشرفة الحجري. وكانت هذه مهمة شبه يومية لا تنتهي أبدا. وقبل أيام كنت أتفرج علي الدبابة التي جاءت صباحا واستقرت في الجانب أمام شرفتها, عندما فتحت وخرجت تستأنف العمل, وأنا استنتجت أنها فوجئت بالدبابة الكبيرة التي جثمت بمدفعها الذي يمتد بعيدا, بينما الجندي يطل من برجها العالي بخوذته الحديدية المصقولة, لقد رأيتها تنكمش ثابتة ثم تتراجع مسرعة وتغلق الأبواب وراءها. غابت زمنا لا نراها, وأنا افتقدتها مع الأيام. ظلت الدبابة ثابتة مكانها بجرمها الهائل وجنازيرها القوية, وقد بدت في مكانها ثقيلة وراسخة, إلا أن تضاريسها كانت متناغمة وفي لون الرمال حتي بدت غاية في الرشاقة والخفة لأنها لا تلامس الأرض من الخلف وتشب بصدرها كأنها علي وشك النهوض بينما يمتد مدفعها الطويل مائلا إلي أعلي قليلا. وكانت حركة الجندي في برجها العالي تضفي عليها شيئا من الحيوية والألفة. كنت أري الشباب الذين يتناوبون الحراسة ليلا يتركون مواقعهم ويتجمعون حولها يتحدثون مع قائدها وبعض من زملائه الذين يظهرون يشربون الشاي, قبل أن يعود كل إلي موقعه, ثم علمت أن قائدها اعتاد علي تلقي بلاغات الأهالي الذين يأتون من مناطق أخري للاستغاثة من هجمات تتعرض لها مناطقهم من البلطجية أو المساجين وأنه كان يحتفظ بأرقام مواقع أخري يتصل بها. أما في النهار فقد بدأ الأولاد يلتفون حولها ويتحدثون مع قائدها ويشبكون الأعلام فيها ويتسلقونها ويتعلقون في مدفعها, وقد رأيت رجلا كبيرا يركب علي المدفع ويدلي ساقيه من الجانبين ويضع أمامه طفلا صغيرا, بينما وقف رجل آخر يلتقط لهما صورا, الأمر الذي ذكرني بتلك الدبابات التي كانت تتجول بين المتظاهرين في ميدان التحرير وقد حملت علي صدرها كتابة كبيرة ومعوجة تقول: يسقط حسني مبارك. الدبابة فعلا كائن جميل. أصبح المكان مختلفا. ولم تمر سوي أيام إلا وسمعت ضربات الفوطة وهي تعمل في الأبواب. كانت فتحت وخرجت تواصل عملها اليومي. في بعض المرات خيل إلي من هنا أن قائد الدبابة يلتفت إليها ويتبادلان الكلام. وعندما انتهت من تنظيف السقف رأيتها تمد الغابة خارجا وتمرر اللوفة لتزيل بها الغبار عن جسد الدبابة من خلف ومن أمام. ولما مدت الغابة أكثر لتنظف المدفع راحت اللوفة تنزلق علي استدارة الماسورة وتتفلت ناحية الأرض. ظلت تحاول بلا فائدة حتي سحبت غابتها ودخلت. في الصباح, كنت سمعت صوت الدبابة القوي وهي تبتعد. خرجت ولحقتها تنحرف آخر الطريق, ولم ألبث أن رأيت العجوز تخرج هي الأخري. ثبتت مكانها قليلا, ثم تقدمت وأمسكت بالسور الحجري واستندت عليه بصدرها, ومالت تبحث في الناحية التي هنا, ثم مالت تبحث في الناحية التي هناك. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان