حذر المقال الماضي من آفات شاعت في البشرية هي: الغيبة، والنميمة، والتشهير، والفجور في الخصومة. ويتناول مقال اليوم أدواء جديدة هي: التباغض، والتدابر، والتعصب، والتحزب. وفي المقابل يحمل المقال دعوة إلى لزوم النزاهة، والتعفف، والتَّحلُّل من المظالمِ. فقد دعانا الإسلام إلى تآلف القلوب، والاستمساك برابطة الأخوة.. قال تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".(آل عمران: 103). وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ". وعلى مستوى آخر؛ ذم الله تعالى التحزب المقيت بقوله: "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ".(المؤمنون : 53). فهذا التعصب يؤدي إلى إعجاب كل ذي رأي برأيه، وتسفيه الرأي المخالف، وطغيان خطاب الكراهية، وتخوين الآخرين، والتعايش مع التحيز والمحاباة، وتصيد زلات الخصم؛ بهدف إفشاله، وتشويه سمعته، والقضاء عليه. لزوم النزاهة قال الشيخ عبدالرحمن السديسي إمام الحرم المكي في إحدى خطبه: "الشفافية والنَّزاهة قيمةٌ عزيزةٌ كريمةٌ، تشرقَ بالصَّفاء والجمال، والطُّهر الأخَّاذ المُنثال، فكم من مظالِمَ انتُهِكَت، وحُقوقٍ ضُيِّعَت بغيابها، وكم فُقِدت ثروات، وهُدِّمَت أُسرٌ وبُيوتات، وأُهدِرَت كفاءات، وضُيِّعَت طاقات من جرَّاء فقدها". ويقول الإمام الماوَرديُّ -رحمه الله- : "العفَّةُ، والنَّزاهةُ، والصيانةُ من شروط المُروءة، والدِّيانة". وفيما أخرجه البخاري قال النبي -عليه الصلاة والسلام- : "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النفس". وجاء في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- :"ومن يستعفِف يُعِفُّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله". التَّحلُّل من المظالمِ الظُّلم من أقبح المعاصي، وأشدِّها عقوبة، وقد حرَّمه الله في كتابه، وعلى لسان نبيِّه. والظَّالم "الحصيف"، يسارع بطلب العفو والمغفرة ممن ظلمهم، قبل فوات الأوان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".(البخاري). ويتحلَّلُ الإنسان من حقوق النَّاس بأحد أمرين: إمَّا بالوفاء، أو الإبراء. أمَّا الوفاء فإذا كانت أموالاً يردُّها إلى أصحابها، وإن كان يجهل محلَّهم فليبحث، فإذا تعذَّر العثور عليهم فليتصدق بها عنهم، ويكون لهم أجرها، وله أجر التَّوبة، وإن كان أصحابها قد ماتوا، وخلَّفوا ورثة؛ فإنَّه يبحث عن ورثتهم، ويسلِّم إليهم المال، فإن جهل الورثة، ولم يعلم عنهم شيئاً، يتصدَّق به عنهم. وإذا كان الحقُّ عرضاً، بأن يكون تكلَّم في عرضه وسبَّه فإنَّه يتحلَّل منه، بأن يطلب منه العفو، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، كما قال الله تعالى: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ".(النحل:126). وقال تعالى: "وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ".(البقرة: 237). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد