متى يبلغ البنيانُ يوماً تمامه.. إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم.. ولو أن ألف بان خلفَهم هادمُ كفى.. فكيف ببان خلفه ألفُ هادم؟ هكذا يتساءل العقلاء مع الشعراء، وهم يطالعون أحوالنا بمصر حاليًا، داعين للنفوس المُضطربة أن تطمئن، والأرواح الحائرة أن تقر، والاستقطاب المتنامي أن يتجمد، والتحريض المتصاعد أن يتوقف. هكذا: كثيراً ما يتساءل الناس عن عوامل هلاك الأمم، وأسباب تعاسة البشر.. وهاكم السر الكبير: أمراضُ أخلاقية تنتشر بين الناس؛ فتُمسي سمومًا تسري بالأبدان، ومعاول هدم لأركان الإيمان، وأمراضًا نفسية تأكل زهرة العمر، ومفاسد قلبية تُضيِّع شموس الدين، ومنكرات عملية تُؤخر حياة الناس. في المقابل، حض الإسلام على مكارم الأخلاق، وأكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أقرب الناس منه مجلسًا يوم القيامة أحسنهم أخلاقًا.. لكن شاع بين كثيرين في هذا الزمان خُلُقُ "تحقير" الآخرين، والانتقاص منهم، والاستعلاء عليهم، والخوض في أعراضهم، برغم أن ذلك ظلمات فوق ظلمات، وحُرمات فوق حُرمات، وقد حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا تَحَاسَدُوا ولا تَنَاجَشُوا ولا تَبَاغَضُوا ولا تَدَابَرُوا ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ". (صحيح مسلم). ومعنى (لا يحقره) أي : لا يزدريه، ولا ينتقص منه. ومعنى : (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي : يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم، لكونه شرًا كبيرًا. والأمر هكذا، يجب على كل مواطن شريف التصدي بكل قوة لما يشيعه البعض، وبخاصة من السياسيين الفاسدين، ووسائل الإعلام المغرضة، من أخلاق تنتقص وتحتقر فصائل من الناس، وأبرزها: الحكم على النيات، والانشغال بعيوب الناس، والجرأة في تصنيفهم، والتشكيك في سمعتهم، والظن السيء والتشهير بهم، والتحريض على الكراهية، ونشر "الفجور" في الخصومة، واستباحة السب واللعن والشماتة والشتيمة، والتدابر والتباغض، والنميمة، ونشر الإحباط بقول: "هلك الناس"، وفي المقابل: يجب التحلي بالموضوعية والنزاهة، والتحلل من المظالم، ونبذ الحزبية والتعصب، ونبذ جميع أشكال الإساءة والازراء بالناس. إنها أخلاق ردئية توغر الصدور، وتملأ النفوس حنقًا وغيظًا، وتنشر البغضاء بين فئات المجتمع، وتقلب الناس بعضهم على بعض، وتضعف أواصر الدولة، وتهدم البنيان، وتخرب العمران. مع أنه لا يكتمل إيمان "عبد" حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤمن بالقضاء خيره وشره، ويكف عن التدخل فيما لا يعنيه، ويمتنع عن التخذيل، والتحقير، ويعلم الفارق بين الشجاعة والوقاحة، ويوقن بأن المرء - يوم القيامة - مع من أحب. فليتنا نواجه - بجميل الإيمان - رديء تلك الأخلاق.. فذلك واجب الوقت، وفريضة المرحلة. قال تعالى :"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".( التوبة:105). قال الشيخ الشعراوي حول الآية: "نحن هنا أمام ثلاثة أعمال: عمل يراه المؤمنون، فالتزِموا بهذا المنهج حتى يشهدوا لكم بما يرون من أعمالكم..(فَسَيَرَى) ذكر الفعل مرة واحدة، لأن الرؤية ملتحمة بعضها ببعض.."وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ 0لْغَيْبِ وَ0لشَّهَادَةِ": انفرد سبحانه بعلم الغيب، أما عالم الشهادة فالرسول والمؤمنون يعلمون أشياء، وسبحانه عالم بالكل:"فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد