«تربية بني سويف» تنظم المؤتمر السنوي الأول لقسم الصحة النفسية    استقرار أسعار صرف الدولار مقابل الجنيه المصري.. وارتفاع «اليورو» و «الاسترليني»    وكيلا الزراعة والري يتابعان تطهير الترع في البحيرة.. صور    الإسكان: الأحد المقبل.. بدء تسليم الأراضي السكنية بمشروع 263 فدانا بمدينة حدائق أكتوبر    وزير النقل يبحث مع 9 شركات نمساوية تصنيع مهمات السكك الحديدية محلياً    معدل التضخم في ألمانيا يستقر عند 2.2% في أبريل    البحيرة: توريد 176 ألف طن من محصول القمح للشون والصوامع حتى الآن    تعديل لائحة النظام الأساسي لصندوق التأمين الخاص للعاملين بمصلحتى الجمارك والضرائب    الأونروا: 450 ألف شخص نزوحوا قسرا من مدينة رفح    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء القصف الإسرائيلي إلى 35173 شخصا    مبابي: الفصل القادم من مسيرتي سيكون مثيرًا.. وقرار الأولمبياد لا يعتمد عليّ    كولر يصحح أخطاء لاعبي الأهلي قبل موقعة رادس في نهائي أفريقيا    تداول امتحانات الصف الثاني الثانوي من عدة محافظات على صفحات الغش    نشرة مرور "الفجر".. كثافات متحركة بطرق ومحاور القاهرة والجيزة    دفاع المتهم بدهس طبيبة التجمع: هي اللي غلطانة كانت بتعدى بسرعة    بينها «الحوت» و«الثور».. 4 أبراج تجد صعوبة في التعامل مع برج الجوزاء    يوسف زيدان يهدد بالانسحاب من "تكوين" بسبب مناظرة عبد الله رشدي    وزير الصحة يلقي محاضرة عن مستقبل الرعاية الصحية في مكافحة الأوبئة الجديدة    احذر.. الهواء داخل السيارة قد يتسبب في إصابتك بمرض خطير    إطلاق مبادرة «اعرف معاملاتك وأنت في مكانك» لخدمة المواطنين بسفاجا    1695 طالبا وطالبة يؤدون الامتحانات العملية والشفوية ب"تمريض القناة"    الزمالك يدرس توجيه دعوة إلى مجلس الأهلي لحضور نهائي الكونفدرالية    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 14-5-2024    سويلم يتابع إجراءات وخطة تطوير منظومة إدارة وتوزيع المياه في مصر    اليوم.. «صحة النواب» تناقش موازنة الوزارة للعام المالي 2024-2025    بعد التحديثات الأخيرة ل عيار 21.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الصاغة    المفتي يتوجه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى كايسيد للحوار العالمي    اللمسات النهائية قبل افتتاح الدورة 77 من مهرجان كان السينمائي الدولي    أنغام وشيرين وآمال.. فى ليالى خليجية    الفيوم تفوز بالمركزين الأول والتاسع في مسابقة التصميم الفني بوزارة التعليم    وزارة الدفاع الروسية تعلن تدمير 25 صاروخًا فوق منطقة بيلجورود    البيت الأبيض: بايدن يوقع قانونا يحظر استيراد اليورانيوم المخصب من روسيا    رئيس جامعة القاهرة: زيادة قيمة العلاج الشهري لأعضاء هيئة التدريس والعاملين بنسبة 25%    المستشار الألماني يثبط التوقعات بشأن مؤتمر السلام لأوكرانيا    للأطفال الرضع.. الصيادلة: سحب تشغيلتين من هذا الدواء تمهيدا لإعدامهما    معلومات عن فيلم «ريستارت» لتامر حسني قبل انطلاق تصويره اليوم    «يهدد بحرب أوسع».. ضابط استخبارات أمريكي يستقيل احتجاجا على دعم بلاده لإسرائيل.. عاجل    نائب وزير الخارجية الأمريكي: نؤمن بحل سياسي في غزة يحترم حقوق الفلسطينيين    حكم الشرع في زيارة الأضرحة وهل الأمر بدعة.. أزهري يجيب    غرفة صناعة الدواء: نقص الأدوية بالسوق سينتهي خلال 3 أسابيع    قبل الامتحانات.. أفضل 4 طرق للتغلب على النسيان    هل يجوز للزوجة الحج حتى لو زوجها رافض؟ الإفتاء تجيب    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقعًا حيويًا في إيلات    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام إجازة عيد الأضحى المبارك في مصر بعد ضم وقفة عرفات    وزارة العمل توضح أبرز نتائج الجلسة الأولى لمناقشة مشروع القانون    لطفي لبيب: عادل إمام لن يتكرر مرة أخرى    "الناس مرعوبة".. عمرو أديب عن محاولة إعتداء سائق أوبر على سيدة التجمع    «محبطة وغير مقبولة».. نجم الأهلي السابق ينتقد تصريحات حسام حسن    إبراهيم حسن يكشف حقيقة تصريحات شقيقه بأن الدوري لايوجد به لاعب يصلح للمنتخب    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    خالد الغندور: الجميع يتفنن في نقد حسام حسن وأطالب القطبين بالتعاون مع المنتخب    عاجل - "احذروا واحترسوا".. بيان مهم وتفاصيل جديدة بشأن حالة الطقس اليوم في محافظات مصر    القصة الكاملة لهتك عرض الطفلة لمار وقتلها على يد والدها بالشرقية    سلوى محمد علي تكشف نتائج تقديمها شخصية الخالة خيرية ب«عالم سمسم»    تفحم 4 سيارات فى حريق جراج محرم بك وسط الإسكندرية    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك وتمتد فيه عافيتك    الأوبرا تختتم عروض "الجمال النائم" على المسرح الكبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رموز مصرية : أبو الوفا التفتازانى
نشر في الأهرام اليومي يوم 01 - 10 - 2014

لكل قاعدة استثناء، وهذا الاستثناءُ لا ينفى القاعدة وإنما يؤكِّدها، لأنه يثبت بالندرة حُكم الشيوع. والشائع فى حياة الناس، قديماً وحديثاً، هو أن الشخص الذى يشتهر شأنه فى أى مجال، له لا محالة أعداءٌ ينتقصون من قدره ولو بالزور والكذب تنفيساً عن غلّ نفوسهم. ومثلما يحظى مثل هذا الشخص بمن يمدحه، يُبتلى ببعض الكارهين الذين يتعقبونه بالقدح ويجتهدون فى التقليل منه.
وكان الاستثناء الوحيد الذى رأيته لهذه «القاعدة» فى حياتنا المعاصرة ، هو هذا الرجل الذى قابلتُ كثيرين يحبونه وقليلين محايدين تجاهه (لأنهم لا يعرفونه جيداً) ولم أجد أحداً يقدح فيه أو يجرؤ على الانتقاص من قدره. فكأنه حظى بنصيبٍ من المعنى الوارد فى الآية القرآنية «وألقيت عليك محبةً منى» وفى الحديث النبوى الذى يقول ملخّصه: إن الله إذا أحب عبداً من عباده..يُوضع له القبول فى الأرض.
وما ذكرناه فيما سبق،لا يكاد ينطبق إلا على عددٍ محدودٍ من الناس الذين سطعت نجومهم قديماً أو حديثاً، فلا أتذكَّر منهم الآن إلا اثنين فقط: الشيخ الإمام عبد القادر الجيلانى، المتوفى سنة 561هجرية.. وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، أستاذ الفلسفة والتصوف، نائب رئيس جامعة القاهرة «د. أبو الوفا الغنيمى التفتازانى» المتوفى قبل عشرين عاماً، وبالتحديد سنة 1994 .
نشأ الدكتور «أبو الوفا» يتيماً، إذ توفى أبوه (شيخ الطريقة الغنيمية) وهو لم يزل طفلاً فى السادسة من عمره، لكن صديق والده «د. محمد مصطفى حلمى» الأستاذ الجامعى، صاحب الكتاب البديع (ابن الفارض) تعهّد الطفل برعايته العلمية، وألحقه بقسم الفلسفة بكلية الآداب/جامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حالياً. ثم أشرف على رسالته للدكتوراة التى نشرها د. التفتازانى لاحقاً، فى كتابٍ مرجعىٍّ عنوانه: ابن سبعين وفلسفته الصوفية. وهو الكتاب الذى يُعد من دون مبالغة، هو أهمُّ ما كُتب عن هذا الصوفى الأندلسى البديع.. الغامض فى مفرداته.. العارم فى رؤاه وتجربته الروحية.
وقد تولَّى د. أبو الوفا مشيخة الطريقة الصوفية التى كان أبوه شيخاً لها، ثم صار لاحقاً هو: شيخ مشايخ الطرق الصوفية فى مصر. وفى مسارٍ موازٍ ترقى فى وظائفه الجامعية، حتى صار نائباً لرئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا والبحوث. وقد عرفته وهو فى هذا المكان وتلك المكانة، بالطريقة التى سأحكى طرفاً منها فيما يلى، لأنها تدل على قيمة هذا الرجل، وعلى تواضعه الجمّ، وتكشف عن جزء مهم من الجانب الإنسانى فى شخصيته.
فى العام 1984 جاءت فتاةٌ فاضلةٌ لتدرس معنا فى الإسكندرية بالمرحلة التمهيدية للماجستير، وعرفنا أنها من أقارب الدكتور أبو الوفا التفتازانى.. وبعد تردُّدٍ، قلت لها يوماً إننى أريد منها إيصال رسالةٍ خاصةٍ له، فيها بعض النقاط المتعلّقة بكتابه «ابن سبعين» فوافقت الفتاة على تسليم الرسالة. كنتُ بحكم السن المبكر مندفعاً، فكتبت أربعة صفحات فيها اعتراضاتٌ على ما أورده «د. أبو الوفا» فى كتابه، وتفسيراتٌ خاصة لمعنى ودلالة العنوان الغريب الذى اختاره «ابن سبعين» لأهم كتبه وأكثرها اشتهاراً: بُدُّ العارف ( وحقيقة المُحقِّق المُقرَّب الكاشف)
فى الأسبوع التالى، تلهفتُ قبل موعد المحاضرة على معرفة رأى «د. أبوالوفا» فيما أرسلته له، فانتظرتُ الفتاة عند مدخل كلية الآداب بالشاطبى وهممتُ إليها حين رأيتها، سائلاً إياها عما قاله حين استلم الرسالة. فقالت مانصُّه: هوَّ عاوز يشوفك!.. لم أستطع صبراً، وفى الصباح التالى ذهبت إلى القاهرة وتحت قبة جامعتها التقيتُ بالشيخ، الأستاذ، الذى أخبرته «السكرتيرة» بوجودى فخرج بنفسه ليستقبلنى، فاندهشتُ من تواضعه. واندهشتُ أكثر من اهتمامه العلمى، حين أخرج من درج مكتبه رسالتى وراح يناقشنى فيما ورد فيها، وامتدّ لقاؤنا الأول أكثر من ساعةٍ عدت بعدها إلى الإسكندرية فرحاً، ومفعماً بمشاعر قوية لم تغب عن خاطرى طيلة هذه السنوات الطوال، حتى بعدما توثقت صلتى بالدكتور أبو الوفا، وتكرّرت زياراتى له.
وصار الدكتور التفتازانى أستاذاً مباشراً لى، وناقشنى فى الرسالتين اللتين حصلت بهما على درجتى الماجستير والدكتوراة، فكان فى كلتا المناقشتين يفيض برفقٍ بالمعرفة العميقة فى مجال التصوف والصوفية، ويُضفى على المكان من رحيق روحه المحلّقة عالياً بأجنحة المحبة. وكان رحمه الله، هو الذى أوصى بنشر كتابى «عبدالكريم الجيلى فيلسوف الصوفية» فنُشر الكتاب فى سلسلة «أعلام العرب» التى كان يكتب فيها كبار الأسماء، عن كبار الأسماء.. وكنتُ آنذاك فى الخامسة والعشرين من عمرى.
ومع أن الدكتور التفتازانى كان متخصّصاً فى دراسة الفلسفة الصوفية، العميقة، ولغة «ابن سبعين» الموغلة فى الرمزية والاستغلاق، إلا أنه كان حريصاً على تبسيط المفاهيم الصوفية بأبسط العبارات، وكثير الاستشهاد بكلمات ابن عطاء الله السكندرى (حكيم الصوفية، صاحب كتاب: الحكم العطائية) وهو الذى نصحنى بعبارته الذهبية التى التزمتُ بها فى سنوات الابتداء: ادفنْ وجودك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يصلح دفنُه، لا يتمُّ نتاجه.
ومعنى عبارة ابن عطاء الله، للقارئ غير المتخصّص، هو أن المبتدئ يكون كالبذرة ولذلك يتعين عليه التوارى بقدر ما يستطيع، ولا يسعى لجذب الأنظار إليه أو استجلاب الشهرة، لأنه يحتاج الكمون اللازم للنضج. والبذرةُ التى لا تُدفن جيداً، قد تورق مؤقتاً لكن ثمارها لن تأتى، لأن نبتها لن يكتمل.. وهذه واحدة من قواعد التربية الصوفية، وهى فى الغالب تكون لأهل البدايات (المريدين) أما الدكتور التفتازانى فقد التزم بها حتى وهو زشيخ مشايخ الصوفيةس فكان لا يسعى للشهرة والصخب، وقليلاً ماكان يُلبى دعوات الظهور التلفزيونى.
بعيداً عن هذا المسلك العام، ولسنواتٍ طوالٍ امتدت قُرابة عشر حجج، رأيتُ من «د. أبو الوفا التفتازانى» ورأيتُ فيه، كل ماهو فاضلٌ وراقٍ. وقد كثرت لقاءاتى به، بعدما صار رئيساً للجمعية الفلسفية المصرية، التى كان يدعم عملية إحيائها على يد د. حسن حنفى، وكان رحمه الله كثير التبرع للجمعية من ماله الخاص.وعلينا هنا أن نلاحظ أمراً دقيقاً، هو أن الاختلاف الفكرى والمنهجى بين د.أبو الوفا التفتازانى (المتصوّف، الهادئ) والدكتور حسن حنفى (اليسارى، المتدفّق) لم يكن عائقاً يحول دون التعاون المعرفى والأكاديمى، ولم يسع أحدهما لإملاء توجهاته الخاصة على الجمعية الفلسفية المصرية، التى غاب حضورها بغيابهم بسبب وفاة الأول، وشيخوخة الآخر ومرضه الأخير.
وخلال السنين التى عرفتُ فيها د.التفتازانى، وجدتُ فيه التجلى الأتم لما يجب أن يكون عليه المتصوف.. فهو هادئٌ دوماً، عميقُ النظرة والفكرة، مستغنٍ عما فى يده وغير ساعٍ لما ليس بيده، وصابرٌ على صروف الزمان. حتى حين أُصيب فى أواخر عمره بنوعٍ من الفالج (الشلل النصفى) الخفيف فاختلف نصف وجهه بسبب المرض، ظلّت عيناه باقيتين على حال الصفاء الأول، تفيضان بالسكينة التى طالما رأيتها تنعكس على صفحة عيناه الصافيتين.. وفى اللحظة التى نشرت الصحف خبر وفاته، بعد حياةٍ حافلة بالروحانيات الصوفية وبالعمل الأكاديمى الراقى وبالسيرة الشخصية العطرة، تذكرتُ من فورى المعنى الذى ورد فى الحديث: إن الله لا ينتزع العلم من الأرض انتزاعاً، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء.
لمزيد من مقالات د.يوسف زيدان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.