أثار المشروع الأمريكي لبناء التحالف الدولي- الإقليمي ضد الإرهاب شكوكا بشأن دوافعه، وتشكيله من 50 دولة، في مواجهة تنظيم «داعش» ودولة الخلافة. وزاد الشكوك أن المشروع جاء مفاجئا، وكصحوة متأخرة لإدارة أوباما لاستعادة نفوذها في منطقة، كانت على وشك الانعتاق من الهيمنة الأمريكية. فعلى مدى السنوات الماضية، عزفت إدارة أوباما عن الانخراط في شئون الشرق الأوسط، ولم تبذل أي جهد لأجل القضية الفلسطينية، وأنهت وجودها في العراق، وأعلنت اعتزامها تقليص وجودها في الخليج، و»الاستدارة شرقا» نحو آسيا.
إذن لماذا قررت الانقلاب على سابق سياستها، والعودة مجددا إلى المنطقة بتحالف قد يستمر سنين، وقد يعرضها مجددا لضربات انتقامية من قبل التنظيمات القاعدية ورديفاتها من دويلات الخلافة التي تتكاثر كتكاثر الفطريات؟ وهل أتى التحول في سياسات الإدارة في إطار «مراجعة استراتيجية» تستهدف العودة مجددا للتحالفات التقليدية مع دول الخليج، أم أنه مجرد تحول تكتيكي؟ الأرجح، أنه تقف خلف التحالف ضد الإرهاب مجموعة من الحسابات الأمريكية، تتمثل أهمها فيما يليهما: مجاهدين عبر الدول أولا: تنامي ظواهر «عولمة» الجهاد و«توطينه»: فعلى مدى العقود الماضية، انتشرت ظاهرة «الجهاد» في مناطق وبقاع متعددة من العالم، وكان النموذج الأبرز «الجهاد الأفغاني» الذي استثمرته الولاياتالمتحدة في هزيمة الاتحاد السوفييتي وتفكيكه. وعلى أثر أحداث 11 سبتمبر وحربي أفغانستانوالعراق، وتقويض البنية الأساسية لتنظيم القاعدة، تفتتت الكثير من التنظيمات الجهادية، وجرت عمليات مختلفة من «عولمة» و»توطين» المجاهدين، وانتشرت ظاهرة المجاهدين عبر الدول، مع استقطاب العديد من شباب ومواطني الدول الغربية، والآن يبلغ عدد المقاتلين الأجانب ضمن صفوف داعش أكثر من 12 ألف مقاتل، منهم حوالي 1000 من الدول الغربية. وقد لفت جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، في مقدمته لتقرير «استراتيجية الاستخبارات الوطنية» الذي صدر منذ أقل من أسبوعين، الانتباه إلى أن «الولاياتالمتحدة تواجه أكبر مجموعة متنوعة من التهديدات خلال 50 عاما سواء في الوضع العالمي أو المحلي». وهو ما يشير إلى «حالة الاستنفار»، وعودة سيطرة تقديرات شبيهة بأجواء ما بعد 11 سبتمبر، وسط مجتمع الاستخبارات الأمريكي. وبذلك تثبت منطقة الشرق الأوسط قدرتها على تغيير حسابات القوى العظمى وصناع القرار بها، وإجبارهم على إجراء تغييرات أساسية في استراتيجياتهم العالمية، وتؤكد المنطقة مجددا أنه حتى الدولة الأكبر في العالم لا يمكنها أن تترك المنطقة أو تنعزل عنها، ومن المرجح أن يتطور التفكير الأمريكي بشأن تحالفات استراتيجية مع المنطقة، تستمر عقودا مقبلة. ففي ضوء تنامي الخطر «الجهادي» على الحضارة، على نحو ما أوضحه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في قوله انه «إذا استطاعت داعش أن تجمع مليون شخص فلن يكون هناك وجود لأوروبا»، فإن هذه التقديرات من شأنها دفع صانع القرار الأمريكي وصناع القرار الأوروبيين لإعادة تقييم تقديراتهم وحساباتهم، ومن شأن الخوف من هذا الخطر أن يكون الباعث الأساسي للتحرك الأمريكي للتصدي لهذا الخطر الكوني. إعادة دمج وتمثل الدافع الثاني للولايات المتحدة من هذا التحالف في سعيها لبناء جسور ارتكاز إقليمية جديدة في مرحلة ما بعد الإسلام السياسي؛ ففضلا عن أن التحالف ضد الإرهاب يجمع بين دول ناصرت الإسلام السياسي وأخرى ضده (تركياوقطر من ناحية، ومصر والسعودية والإمارات من ناحية أخرى)، فإن الدعوة الأمريكية تشير إلى الرغبة في ترتيب الأوضاع بعد مرحلة فشل الإسلام السياسي؛ لقد شهدت المنطقة صداما بين المشروع الأمريكي التركي القطري الداعم لقوى هذا التيار، والمشروع المصري الخليجي الذي وقف على الطرف النقيض، ومن خلال التحالف يجري إعادة دمج أطراف المشروع الأول في الثاني، بعدما كاد الأوائل يتعرضون لعزلة إقليمية شديدة. وتعكس استراتيجية «دعم المعتدلين» في سورياوالعراق مفهوما مازال غامضا، خصوصا بشأن معنى «الاعتدال»، فمن شأن هذا التحالف أن يبني جسرا عابرا للمذاهب خلف القيادة الأمريكية، وأن يشكل تحالفا إقليميا يسلخ العراق مما يسمى بدول الهلال الشيعي، ويجمع بين أنصار مشروع الدولة الوطنية (مصر والسعودية والإمارات)، مع أنصار مشروع الإسلام السياسي (قطروتركيا)، مع أنصار الاعتدال الشيعي والكردي، وهذه التوليفة ستشكل محطات الارتكاز الأمريكية الجديدة في المنطقة. أوراق اعتماد جديدة ثالثا: تقويض شبكة التحالفات الناشئة بالإقليم؛ فقد شهدت المنطقة نواة لتحالف خليجي - مصري، بدأت تتشكل أهدافه الاستراتيجية وتتمركز حول منع سقوط الدول الوطنية، ومواجهة تنظيمات العنف والإرهاب، وبدأ التفكير في مدّ مجالات هذا التحالف ليشمل بعض الجوانب العسكرية والأمنية، وبرز توافق إقليمي نحو إعادة التوازن لعلاقات المنطقة بالعالم عبر «تنويع» الشراكات مع روسيا والصين والهند واليابان، على نحو من شأنه أن يدخل تغييرات بموازين القوى بالمنطقة والعالم. وإلى حد كبير، نظر الخليجيون لتطور علاقات مصر بروسيا باعتبارها قيمة استراتيجية مضافة لحساب الخليج، ونظرت مصر لتنويع دول الخليج شراكاتها الدولية باعتباره قيمة مضافة لحساب مصر. ويأتي التحالف ضد الإرهاب ليؤثر على مستوى التقدم المحرز في العلاقات المصرية - الخليجية، وربما يؤدي لتعريض دول الخليج لأخطار وتهديدات أمنية ودفاعية جديدة، تضع الالتزام المصري نحو أمن الخليج على المحك، بشأن مدى جدية ما أعلنته مصر على لسان قيادتها، حول استعدادها لإرسال قوات للدفاع عن أمن الخليج، وبهذا التحالف تعيد الولاياتالمتحدة موضعة نفسها في قلب المنطقة، وتعيد تقديم أوراق اعتمادها مجددا باعتبارها الرهان الأساسي للأمن الإقليمي. وفي ضوء انخراط دول الخليج في العمل العسكري ضد داعش، وعدم مشاركة مصر، فإن ذلك يظهر الموقف المصري وكأنه مختلف عن الموقف الخليجي في التحالف. لذلك من المهم أن تقدم مصر ذاتها في هذا التحالف باعتبارها صاحبة دور خاص في مواجهة الإرهاب، وربما يكون قيامها على الشق السياسي والديني من الحرب ضده (على حد ما أعلن) هو أمر هام، وينبغي التفصيل في هذا الدور وتوضيحه، باعتباره دورا لا يمكن أن تقوم به غير مصر عبر مؤسستها الدينية الرئيسية (الأزهر)، كما أنه من المهم تاليا أن تقوم مصر بدور في تدريب جيوش الدول العربية «العائدة» في معاهدها وأكاديمياتها العسكرية، لتشكل نواة جيوش تتمحور عقيدتها الرئيسية في الدفاع عن الدولة الوطنية، وهو ما يمكن أن يقوم به الجيش المصري مع قوات العراق وليبيا ولبنان واليمن. كما يجب على مصر أن توضح أن بقاءها على موقفها الحالي – وعدم المشاركة العسكرية في التحالف- من شأنه أن يحافظ على «المسار الاستراتيجي الثاني» للخليج وللعالم العربي، حيث من شأن تكريس علاقات مصر بروسيا أن يضمن لدول الخليج ومصر بديلا استراتيجيا إذا كررت واشنطن مواقفها في ظل أي اضطرابات تالية قد تشهدها المنطقة. إسقاط النظام السوري أما العامود الرابع من التفكير الأمريكي بشأن التحالف ضد الإرهاب، فيتمثل في أن هذا التحالف من الأرجح أن يشكل «مخلب قط» لإسقاط النظام السوري، وربما رأس حربة للاشتباك مع إيران عند الضرورة. فلقد واجهت الولاياتالمتحدة عراقيل في كل مرة كانت على أهبة الاستعداد للتحرك لإسقاط النظام في سوريا، ومن المحتمل أنها قررت -بهذا التحالف- التحرك نحو هذا الهدف على نحو تدريجي، قد تستكمله إدارة جمهورية أو ديمقراطية تالية. وعلى الرغم من إعلان الرئيس أوباما في خطابه بالأمم المتحدة أن «الحل الوحيد في سوريا هو الحل السياسي.. وأنه لا توجد طريقة أخرى لإنهاء هذا الجنون هذا العام أو بعد عقد من الزمن»، إلا أنه يبدو أن ذلك ضمن الهدف غير المعلن لأطراف التحالف، الذي يضم دولا يجمعها مصلحة حيوية في إسقاط النظام كفرنسا وتركيا والسعودية وقطر. وعلى الجانب الميداني، فإن ملاحقة عناصر تنظيم داعش على الأراضي السورية سوف يفرض شن عمليات على مناطق تخضع لسلطة النظام، سواء بطريق الخطأ، أو بشكل متعمد، كما أن من شأن إفراغ مناطق داعش في سورية توفير مساحات ومناطق جغرافية تشكل نقاط ارتكاز لقوات «الجيش الحر»، وغيرها من الفصائل التي ستقاتل ضد النظام. ويرجح من هذا الاحتمال أن قيادات هذا «الجيش» كانت قد أكدت أنه لن يقاتل داعش، إلا إذا حصل على تعهد بمساعدة عناصره فى حربهم الرئيسية ضد نظام الرئيس بشار الأسد، وهو ما يفيد بأن مشاركته، ربما جاءت بعد حصوله على هذا التعهد. لقد أعلنت الإدارة عن تدريب مقاتلين وفصائل سورية «معتدلة»، وكشفت عن استضافة السعودية لحوالي 5 آلاف عنصر، وإذا صدقنا الرواية الأمريكية بأنه يجري تدريب هؤلاء لمحاربة فصائل تنظيم دولة الخلافة، فإنه من الصعب العثور على مصلحة فصائل «الاعتدال» السورية في قتال هذا التنظيم، في ظل احتمالات وقوع خسائر كثيرة في صفوفهم، عند أي مواجهات، والأرجح أن تتوجه الضربات الجوية إلى قواعد للنظام على نحو يجره لمواجهة لا يريدها، مع توقع بأن تتجه هذه التنظيمات التي يجري تدريبها إلى الاندفاع والاستيلاء على المواقع التي تنسحب منها قوات الجيش. ومن شأن المواجهات مع تنظيم داعش أن تتداخل قواته الفارة من ساحات المعارك مع عناصر وفي مناطق تابعة للنظام، وأن يحدث انتشار أوسع للتنظيم على رقعة أكبر من أرجاء سوريا. ويشير إلى ذلك أن الإدارة الأمريكية لم تعلن أن هدفها هو إسقاط دولة الخلافة -مع تحديدها بمساحات جغرافية يمكن ضبط ضرباتها العسكرية فيها- وإنما حددت هدفها في القضاء على التنظيم. هكذا يبقى الغموض بشأن الدوافع هو سيد الموقف في التحالف ضد الإرهاب؛ في ظل الحديث عن حرب تمتد لثلاث سنوات وفق الرواية الأمريكية، ولعشر سنوات وفق تقدير الأمير سعود الفيصل (وزير الخارجية السعودي)، وفي ظل التأكيد بعدم التدخل بريا من جانب الولاياتالمتحدة أو أي من حلفائها. المؤكد أن أهداف التحالف تتجاوز القضاء على تنظيم داعش. فهل اختارت إدارة أوباما هدفا لا يمكن الاختلاف حوله، من أجل التمدد تاليا إلى أهداف من المرجح أن يختلف عليها أعضاء التحالف؟ وهل سعت لتبني بدائل وأهداف تمكنها من حشد سياساتها أمام الموقفين الروسي والصيني؟ وهل جرى التحالف وفق صفقة تتضمن إسقاط النظام في سوريا في مقابل الاستيعاب الإقليمي للنظام في العراق؟ مصلحة إستراتيجية وفي الأخير، تبقى الإطاحة بتنظيم داعش وإسقاط دولة الخلافة مصلحة استراتيجية عربية، لأنه تنظيم توسعي، لا حد لطموحه في تقويض الحضارة العالمية، والإطاحة بالمخالفين له داخل دائرة الحضارة الإسلامية، ولأنه لا يمكن تبرير استمرار وجود هذا التنظيم على أراضي دولتين كبريين بحجم العراق وسورية، مع احتمالات إقدامه على خطوات أكثر جرأة باستهداف مدن تاريخية ورمزية وأماكن أخرى، عندما يتكاثر أعداد أتباعه، حيث انه يتبنى عقيدة لا تعرف نهاية لتمددها. ولكن الأخطر من كل ذلك أنه يهدد بنشأة جيل عربي جديد على أفكار مغلوطة بشأن الجهاد، تكرر تجربة استنزاف الصحوة الإسلامية والشباب العربي على نحو ما حدث في زمن الجهاد الأفغاني.