لم يكن الإقبال على شهادات الاستثمار فى قناة السويس الثانية ورقم ال 64 مليار جنيه فى 8 أيام يحمل فقط رسالة بأن المصريين على اختلاف مشاربهم ملتفون حول قيادة البلاد، ولكنه قدم أيضا رسالة أخرى أكثر عمقا وهى أن الثقة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى وفى الحكومة التى تعمل معه هى بمثابة تفويض جديد للقيادة السياسية بأن تذهب أشواطا أبعد فى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى لا يمكن للمجتمع المصرى أن يضيع مزيدا من الوقت وهو فى انتظارها دون جدوى. واحدة من مفارقات الأحداث التى شهدتها مصر منذ ثورة 30 يونيو أن هناك إشارات إيجابية تخرج بشكل عفوى من المصريين، ولكنها تقدم رسائل أكثر عمقا وإدراكا ووعيا عن نضج هذا الشعب من يوم الخروج الكبير ضد الجماعة الإرهابية، مرورا بالتفويض ضد العنف والإرهاب فى 26 يوليو 2013، والانتخابات الرئاسية وفى الأمس القريب الخروج بأعداد غفيرة لشراء شهادات الاستثمار فى القناة الجديدة وتوفير تمويل قدره 64 مليار جنيه فى أقل من ثمانية أيام.كل المؤشرات السابقة تصب فى مصلحة تجديد الدماء فى شرايين الحياة العامة المصرية، وهو الأمر الذى ناقشته على مدى الأسبوعين الماضيين واستحوذت قضية تمكين الشباب من قيادة العمل الحزبى على نصيب وافر من النقاش والاهتمام وكانت هناك ردود فعل يلقى أصحابها بالاتهامات على السلطة السياسية بعدم إتاحة الفرصة للشباب، حيث يرى البعض أن المجال السياسى يضيق من جديد وأن السلطة عازمة على مصادرة الحريات والحقوق ويستندون فى براهينهم على وجود بعض الشباب الثورى فى السجون فى قضايا معظمها يتصل بخرق قانون تنظيم حق التظاهر. هنا.. علينا أن نتوقف أمام حقائق مهمة فى السياق السابق، ربما غابت عمدا أو سهوا عن ساحة النقاش: أولاها: أن الدولة دافعت عن نفسها بوضوح حيث إن خرق القانون، تحت أى ظرف، لا يمكن أن يترك فرصة للين أو التراخى فى مواجهة من جماعات أو أفراد حاولوا الخروج على النظام العام دون مراعاة للأحداث الجسام التى مرت بها البلاد التى كانت على وشك حرب أهلية نتيجة الأفعال الخرقاء لفصائل الإسلام السياسي. وثانيتها إن قضاء مصر يتحمل عبئا ثقيلا فى السنوات الثلاث التى أعقبت ثورة 25 يناير فى ظل حالة التردى فى الإمكانات والمنشآت والتأمين والحراسات التى يدفع القضاة اليوم بعضا من أثمانها بعد استهداف قضاة وأبنائهم فى عمليات إجرامية لم تثن حراس العدالة عن القيام بواجباتهم تجاه الوطن. ولعل فيما جرى الأسبوع الماضى فى جلسة الاستئناف الخاصة بعدد من النشطاء دليل آخر على النزاهة والتجرد، فقد أمر القاضى بالإفراج عن الناشط علاء عبد الفتاح وآخرين بل وقدم درساً حقيقيا فى احترام الحقوق والحريات الشخصية بعد أن طلب من النائب العام التحقيق فى واقعة تقديم مشاهد حفل عائلى كدليل إدانة وهو ما يعد انتهاكاً صريحا للقانون والدستور المصري. تلك المقدمة كان من الضرورى البدء بها حتى نؤسس لجملة من الأفكار التى يمكن أن تسهم فى إثراء النقاش العام حول إحياء الحياة السياسية: ◀◀ أولا: حالة الالتفاف الوطنى الفريدة التى عبر عنها المصريون فى شراء شهادات تمويل القناة الجديدة لا تعنى خصما من الحريات العامة والشخصية لمصلحة السلطة السياسية، التى ربما يرى البعض أنها تستثمر الشعبية فى التضييق على الحريات، ولكنى أرى أن تلك الحالة تعنى بالأساس أن هناك قائمة أولويات أخرى لدى المواطن العادى فى مصر ليس من بينها الجلوس متفرجا بينما الوطن فى حاجة إليه وتلك الحالة الإيجابية لا تعنى بأى حال من الأحوال، أيضا، وقوع «ردة» فى الحقوق والحريات بل هى حالة يجب أن تكون وتظل دافعا نحو مزيد من الإصلاح التشريعى والحقوقى والسياسى وصولا إلى مجتمع أكثر حيوية وانفتاحا وأكثر قدرة على الاستفادة من أخطاء الماضى القريب. ◀◀ ثانيا: قوى المجتمع المختلفة تشارك فى حالة الحراك العام وليست هناك خطوطا فاصلة فى الممارسة بين مجموعات أو فئات بعينها وأخرى كما لايمكن إغفال أن هناك قطاعا أوسع من الشباب يدعم توجهات الحكم الحالي، ومن ثم لا يوجد مجال لمسألة أن يحتكر الحديث باسم الثورة أحد وهو درس قاس تعلمناه من أيام الثورة الأولى على حسنى مبارك وقفز الإخوان على المشهد. بمعنى آخر، أن من يطلق عليهم شباب الثورة سواء فى 25 يناير أو 30 يونيو ربما لا يعبرون عن حقيقة الأوضاع فى مصر، فهناك فئة من الشباب شاركت فى الثورتين ولديها مطالب سياسية بعينها وتعبر عن تلك المطالب بقدر من الحدة لا يصل إلى درجة ممارسة العنف وهى مسألة يمكن علاجها من خلال تعديلات تشريعية تسمح بهامش أكبر من الحرية خاصة ما يتصل بقانون الحق فى التظاهر حتى نضمن تدفق مزيد من الحيوية فى شرايين الحياة السياسية ودور الأحزاب والقوى المدنية هى ان تكون جسرا فاعلا لتلك الفئة من الشباب حتى تدخل عالم الممارسة السياسية ولا تكتفى بدور المعارض من الخارج وتلك واحدة من الأخطاء الفادحة التى تركها لنا حسنى مبارك والإخوان منذ أن قدما لنا الصورة الممسوخة للعمل السياسى فى العقود الثلاثة الماضية والتى مازالت تلقى بظلالها على الشارع السياسى إلى اليوم. ◀◀ ثالثا: الخطاب السياسى للحكم والرئيس السيسى يميل إلى دعم مشاركة الشباب فى العملية السياسية وهو ما أفصح الرئيس عنه مرات عديدة فى الحملة الانتخابية وفى الشهور الأولى من وجوده فى قصر الاتحادية وأيضا خلال الاحتفال أمس بعيد الفلاح حيث دعا «الأهرام» إلى عقد ندوة حول رؤية الشباب للمستقبل ومشاركتهم فى الحياة السياسية فالرئيس يطرح رؤية ترفض التشكيك فى وطنية الشباب الثورى أو الراغب فى دور أكبر فى صنع المستقبل ويؤكد أن الاصطفاف الوطنى لن يتحقق دون الشباب والتفاعل معه، ومن ثم هناك رغبة فى منح الشباب فرصة كاملة خاصة فى الانتخابات البرلمانية القادمة. كما بلور السيسى رؤية مبكرة أن النظام السياسى الجديد لن نصل إليه دون أن يكون الشباب جزءا فاعلا فيه وهو مدخل صائب لعلاج مشكلات تراكمت على مدى أكثر من أربعين عاما تسببت فيها النظم التعليمية الفاشلة القائمة على التلقين والحفظ والحياة السياسية الباهتة التى لم تدفع بالمجتمع إلا إلى مزيد من التردى والتراجع الحضارى. ◀◀ رابعا: دعوة الرئيس إلى الأحزاب والقوى المدنية لبناء أحزاب قوية من خلال إندماجات فورية لم تلق إستجابة واعية من تلك القوى رغم كل ما قيل عن ضرورة مساهمة تلك الأحزاب، القديم منها والحديث، فى إعادة الحيوية للنظام السياسى فى البرلمان المرتقب ولو أستمر الوضع على ما هو عليه لن نجنى سوى مجلس نواب «باهت» لا يرقى إلى طموحات المصريين فى حياة سياسية قوية. ويغيب عن تلك القوى أن الشارع المصرى صار أكثر وعيا ويدرك أن المجال العام أكثر انفتاحا اليوم لتقبل حركة القوى المدنية فى أوساط الجماهير وأن الفرصة لا يجب أن تضيع فى دهاليز الخلافات والمصالح الشخصية الضيقة فى ظل سيطرة رءوس الأموال على اختيارات تلك الأحزاب لمرشحيها فى الانتخابات القادمة وهو ما رفضه الرأى العام فى السابق وبالتأكيد لن يتغير موقفه بعد التجارب الصعبة التى مر بها فى الأعوام الأخيرة والتى كانت الانتخابات الكارثية فى 2010 قمة مأساتها ثم الانتخابات التشريعية والرئاسية فى عام 2012 التى بدلا من أن تعطى الأمل فى التغيير، شهدت كل صنوف التلاعب بالدين وشراء الأصوات والحشد الزائف لمصلحة تيار جماعة الإخوان الإرهابية وحلفائها فى التربيطات الانتخابية المشبوهة. أما الأحزاب السياسية فى تلك المرحلة فهى مطالبة بالمشاركة بقوة فى عملية «بناء الثقة» والبداية بالقطع فى منح الشباب مساحة أكبر فى الحياة الحزبية وليس المشهد البائس الحالى حيث لم نر مؤتمرا عاما واحدا لأى من تلك الأحزاب يخرج علينا بنفحة أمل تعيد الثقة للمصريين فى إمكانية التحول من الخيارات «الفردية» إلى تبنى الخيارات «الجماعية» القائمة على البرامج والأفكار الكبيرة الملهمة. ◀◀ فى تلك الأجواء يتعين على الجميع إدراك أن مسئولية «بناء الثقة» مع الأجيال الشابة ومع قطاعات واسعة من الشعب هى مسئولية «جماعية» فى المقام الأول، فلا يعقل أن تطالب السلطة بخطوات متسارعة لتحقيق الإصلاح ومزيد من الانفتاح السياسى بينما قيادات الأحزاب تنتظر أن تقدم لها السلطة السياسية حلولا على طبق من فضة. وعندما تعلم تلك القوى أن التجربة المصرية هى محط أنظار قوى خارجية عديدة ترغب فى رؤية استحقاقات العملية السياسية وتترقب بعض تلك القوى فشلنا فى إتمام العملية إلى نهايتها، تكون المهمة الملقاة على عاتقها من نوع خاص ويكون الفكر والجهد المطلوب مضاعفا فى سبيل ظهور حياة برلمانية وتشريعية تليق بمصر التى اختارت الخروج من نفق الجهل والتخلف الذى سعت قوى الظلام إلى فرضه على شعب عريق. أن الشهادات الدولية الأخيرة عن حالة الاقتصاد المصرى ومنها تقارير فى صحف كبرى مثل «الفاينانشيال تايمز» ووكالة بلومبرج العالمية للأنباء تؤكد أننا على الطريق الصحيح لإعادة البناء والتعمير وجدوى حقيقية للمشروعات الكبرى التى انطلقت من على ضفاف قناة السويس والمدعومة بظهير شعبى غير مسبوق. ◀◀ بعد أيام، يقف الرئيس عبد الفتاح السيسى على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى إجتماعاتها السنوية ليروى للعالم قصة المصريين من 30 يونيو إلى اليوم وكيف هزم المصريون رغم كل الصعاب حالة اليأس والاحباط التى خلفتها تجارب فاشلة وتقدموا بإرادتهم الحرة لتغيير أوضاع خاطئة كادت تعصف بوحدة المجتمع وتاريخ أمة كبيرة ليسطروا الفصل الأول فى مسيرة تحتاج إلى كل نقطة عرق وجهد تعوض المصريين عما فاتهم فى ركب التقدم الإنساني. يقف السيسى على منصة الأممالمتحدة وخلفه شعب يحلم بالصعود إلى مصاف الكبار على الساحة العالمية وهو حلم ليس ببعيد لو خلصت النوايا.. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام