غاية المجتمعات من التغيير هى إعادة بناء المنظومة الشاملة التي خرجت ضدها الجماهير، وفي القلب من تلك العملية صياغة الحياة السياسية والحزبية علي نحو يلبي مطالب قطاعات عريضة من الرأي العام، بما يعود عليها بالنفع، والطريق الأقصر لذلك هو تضافر الأحزاب والكوادر السياسية لظهور برلمان يعبر بشكل حقيقي عما تتوق إليه تلك القطاعات الجماهيرية ، في سعيها الدائم لبناء مجتمع أفضل. كان الاستحقاقان الأول والثاني لعملية التحول السياسي كتابة الدستور ثم انتخاب رئيس جديد باعثين علي استكمال العملية إلي مبتغاها، وهو انتخاب برلمان يعبر عن إرادة جموع المصريين ويضع الحكومة موضع المساءلة والحساب. في الشهور الأخيرة، وبعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلي سدة الحكم توقع الناس أن ترتقي نخبة الأحزاب السياسية والقوي الشبابية إلي مستوي التحدي الذي تفرضه أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواجهتنا جميعا لخطر الإرهاب الذي أثبت الشعب المصري أنه كان سباقا في مواجهته ، عندما خرج ضد جماعة الإخوان في 30 يونيو من العام الماضي مدعوما بجيشه العظيم، وازداد التفاؤل مع حجم التفاف القوي السياسية من أطياف متباينة وراء الإرادة الشعبية الجارفة، ولكن ما حدث أن تلك القوي عادت من جديد إلي نفس اللعبة القديمة في الانفصال عن الشارع والدخول في حوارات ماراثونية في الغرف المغلقة لعقد صفقات انتخابية دون سند حقيقي لتلك المجموعات أو الأحزاب في الشارع المصري، ودون أن نعرف ماهية المشروع السياسي لتلك الأحزاب أو الدوافع التي تحركها للدخول في مواءمات أو تنازلات أيديولوجية لمصلحة تحالف بعينه، وهو ما يعني غياب الرؤية العميقة وفقدان البوصلة السياسية والاعتماد علي بعض الشخصيات التي تظن أنها تحرك الأحداث ووجود مجموعات مصالح بدأت حملة ضد مؤسسات «الدولة» تعبر عن مصالحها الضيقة وتراجع بعض النخب السياسية الحقيقية تاركة مكانها لمن يمول أو يدفع أكثر لخوض انتخابات مجلس النواب القادم. في ظل تلك الأوضاع الملتبسة لابد من وقفة جادة حتي نشخص أعراض المرض المزمن للسياسات الحزبية، ونعمل علي بناء نظام جديد علي مستوي التحديات والمخاطر التي تواجه الأمة المصرية والعربية، ويسهم في استعادة روح السياسة في أوصال الجسد المصري، وحتي نكف عن لوم أطراف بعينها في السلطة ونلقي بالتهم جزافا بأن هناك من يريد تأميم الحياة السياسية لمصلحته دون أن نتدبر الأسباب الحقيقية التي أوصلتنا إلي النقطة الحالية. عملية إعادة بناء السلطة التشريعية فى مصر ليست بالعملية الهينة أو البسيطة ما لم تع النخب السياسية أن عليها العمل على بناء مؤسسة تقوم بوظائف محددة هدفها التشريع والمراقبة وتحافظ على مسافة مع السلطة التنفيذية التى تقوم بمراقبة أعمالها، ضاقت رؤية النخب وجماعات المصالح كلما ابتعدنا عن تحقيق الهدف المرجو من ظهور برلمان حقيقي، وتعود دورة التاريخ من جديد لإعادة إنتاج الفشل فى البرلمانات المصرية وهو ما تجلى فى الأربعين عاما الماضية، واحدا تلو الأخر، دون أن تكون للجماهير القدرة على التأثير فى مخرجات العملية السياسية التى وصلت إلى حالة انسداد قبل 25 يناير 2011 على أثر سيطرة جماعات مصالح بعينها على مقدرات السياسة ثم أعاد الإخوان وتابعوهم من قوى مدنية ودينية إنتاج المنظومة القديمة بكامل حيثياتها دون نقصان فى لعبة مكشوفة فاقمت من حجم الغضب ضدهم واستدعت عملية تصحيح من قبل الغالبية الساحقة من المصريين الذين لم تدخل عليهم تلك الألاعيب الانتخابية المستهلكة قبل ثورة 30 يونيو. ---- بداية العلاج أن تعى القوى السياسية أن خلق نظام سياسى جديد يقوم على أسس واضحة وشفافة ويتشكل وفقا لرؤية واسعة تدرك أن مبدأ الفصل بين السلطات وظهور برلمان يستقطب خيرة عقول وشباب الأمة المصرية هو اللبنة الأولى فى صرح جديد يوفر للدولة الوسائل لتحقيق أهدافها ويحميها من الوقوع فى أزمات حادة، وهو النقيض لحالة فقدان الرؤية والتعامل مع الأزمات «الوقتية» وتقديم مجرد مسكنات للمشكلات العديدة التى تعترض طريق البناء والتنمية والنهضة الاقتصادية المرجوة والدوران فى فراغ دائم يستهلك طاقة السلطة السياسية ويدفعنا إلى مزيد من التناحر الحزبى والاستقطاب. لقد نسيت القوى السياسية أن دستورنا الجديد يوفر تلك الأرضية الجيدة لاستعادة روح السياسة، ومازال الرئيس السيسى واضحا تماما فى مطالبته للأحزاب بالقيام بدورها المنشود فى استكمال صروح الديمقراطية من خلال توافق وطنى يستوعب الاختلافات ويعلى من مصلحة الأمة فوق كل شيء آخر، وهى الرسالة التى يبدو أنها تضل طريقها اليوم فى دهاليز معتمة وتتكسر على موائد الصفقات الحزبية التى نشتم منها رائحة المصالح الخاصة والنظرة الضيقة للتحولات السياسية والاجتماعية فى البلاد. وقد كان الرئيس السيسى واضحا، فى لقاءاته بالقوى السياسية أثناء الحملة الانتخابية، بمطالبته الأحزاب بتشكيل كيانات موحدة وفقا للاتفاق الفكرى بينها حتى تتخلص مصر من حالة السيولة الحزبية التى تسبب فيها نظاما حسنى مبارك ومحمد مرسي، وطالبهم بضرورة احتواء الشباب واحتضانهم لأنهم أمل المستقبل. كما قال إنه يريد أن يكون للأحزاب تأثير ودور حقيقى فى الوقت الراهن وفى المستقبل، ولابد أن يكون لديها مراكز للدراسات الاستراتيجية تعينها على طرح حلول حقيقية للمشكلات بشكل علمي، لا أن يكون الحل المطروح يسير فى اتجاه مغاير للواقع. والنقطة الأهم هى ما قاله أنه من الأفضل للمستقبل السياسى لمصر أن تندمج بعض الأحزاب السياسية المتشابهة فى المنهج والفكر السياسى وتقليص عدد الأحزاب لتفعيل المشاركة الإيجابية لهم فى الحالة السياسية. ------- على أرض الواقع، يبدو أن الأحزاب الموجودة على الساحة لا تستوعب كلمات رئيس البلاد عن ضرورة وجود اتفاق فكرى فيما بينها، وأن تسعى لاندماجات تقوى من موقفها فى الشارع السياسى وهى الاندماجات وليس التحالفات الوقتية- التى ستمكن الكيانات الحزبية الأقوى من بناء أذرع بحثية تقدم بها رؤى جديدة وتستعد بها لدخول البرلمان القادم وهى مهمة ثقيلة لا يعيها إلا من نذر نفسه لخدمة مصالح الوطن وليس السعى وراء تربيطات انتخابية لا تخدم سوى مصالح فئة بعينها من رجال الأعمال وأصحاب الثروات وتابعيهم. وفى رأيى أن الفرصة مازالت قائمة أمام تلك الأحزاب للخروج من النظرة الضيقة للحياة الحزبية ومنح فرص أكبر للشباب والقادرين على الإنجاز وخدمة الجماهير لو صدقت النوايا والأهداف ونحى هولاء المتناحرون خلافاتهم جانبا من أجل ظهور كيانات سياسية على الساحة. وربما كان الأجدى فى حالة مصر اليوم هو الوصول إلى نسخة أقرب إلى نظام الحزبين اللذين يتنافسان بقوة على مقاعد البرلمان ويؤسسان لحياة حزبية ثرية وفعالة تستلهم تجارب دول أكثر تقدما فى نظامها السياسى وتتفادى عيوب النظم السياسية التى سادها الارتباك والتشرذم، بسبب تفتت الحياة السياسية خاصة فى مراحل ما بعد الثورات. وربما سينظر البعض إلى الدعوة السابقة ويرى أنها بعيدة المنال وغارقة فى التفاؤل أو الإفراط فى التوقعات من أحزاب لم تصل إلى درجة النضج بعد، ولكنى أتحدث بوضوح هنا عن مقتضيات المسئولية الوطنية التى تعنى تنحية الرغبات والمصالح من أجل بنيان قوى للدولة المصرية فلا يكفى أن نطالب الرئاسة والسلطة التنفيذية بتحمل كل العبء، وتتفرغ الأحزاب لخلافاتها وحساباتها وانتقاداتها للسياسات العامة دون إسهام فعلى فى الحياة السياسية. وفى السياق السابق، تجادل قيادات حزبية فى ضعف الأحزاب القائمة بسبب حداثة عهدها وخروج معظمها بعد ثورة يناير، وقال البعض إنها تخضع لتقييم غير منصف وغير حقيقى من المواطنين، الذين يريدون من تلك الأحزاب تقديم الخدمات، برغم أن دورها هو أن تكون همزة وصل بين المواطن والسلطة، وهو طرح ربما يكون محقا ولكنه يغفل حقيقة وجود أحزاب قديمة تقود المشاورات الحالية وترى فى نفسها جدارة لقيادة العملية السياسية وهى الأولى أن تطرح مشروعات الاندماج على الآخرين وتختصر فارق الخبرة فى الشارع السياسى ولا مجال هنا لتصدير الإحباط والحديث عن استحالة بناء الشعبية لأن رأس الدولة نفسه يدعم التوجه نحو تفعيل حياة حزبية فاعلة ترسخ لمباديء الدستور وتدعم ظهور مؤسسات مستقلة. تلك دعوة صادقة أن نتحين الفرصة ونعيد التفكير فى سلبيات ما يجرى على الساحة الحزبية وأن نخرج من عباءة الماضى ونبدأ فى بناء كيانات قوية تليق بأحلام كل المصريين وفى مقدمتهم الشباب الذين هم فى أمس الحاجة إلى التعبير عن أنفسهم عبر مؤسسات حزبية حقيقية حتى تتوافق الرؤية القائمة على بناء دولة حديثة والمضى فى طريق التحديث، مع الرغبة فى بناء نظام سياسى يقى مصر من العودة إلى الدوائر المفرغة التى خلفتها الأنظمة السابقة.. فهل من مجيب...؟! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام