لن يطول الأمد قبل أن يهدأ غبار الانتخابات الرئاسية، ليجد المصريون أنفسهم مجددًا فى مواجهة تحدى أن المجتمعات التى تنشد التغيير حقًّا لا تقف بانتظار ما يجود به حكامها من وعود أو إشارات، وأن رهانها الحقيقى هو قدرة القوى السياسية وقوى المجتمع الحية على الفعل، لا الوقوف على أبواب الرجاء أو الهجاء، أو البكاء. هنا تكمن «محنة السياسة» ويتجلى «بؤس النخبة» فى المشهد السياسى بعد أكثر من ثلاث سنوات على ثورة هزت أركان نظام قديم أنهكه الاستبداد والفساد وفتحت آفاق المستقبل لبناء مصر الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطنى، وهو ما أكده المصريون مجددًا بما أظهروا من حيوية متجددة ووعى يقظ وعزم لا يلين لتخطى أية تحديات تعترض حلمهم فى غد أفضل، إلا أن معضلة تنظيم قوى الشعب المتطلعة إلى المشاركة بفاعلية فى صنع المستقبل تبقى هى التحدى الأكبر أمام مختلف القوى السياسية. لم يخفف من وطأة هذه الأزمة ما تحقق بالفعل من إزالة العوائق القانونية أمام حرية تأسيس الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى، وتفكيك كيان حزب السلطة الحاكم، كأحد أبرز إنجازات ثورة 25 يناير. ولم تبادر القوى المدنية الديمقراطية إلى استثمار أهم ما أنجزته ثورة 30 يونيو من الإطاحة بحكم الإخوان وفضح نهجهم، ومن لف لفهم، فى تضليل البسطاء باسم الدين على مدى عقود طويلة. كما لم تظهر هذه القوى قدرتها على الاستفادة من فرص هائلة يوفرها الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعى، خصوصا مع تلاشى احتكار الدولة لوسائل الإعلام، بل المفارقة أن أغلب رموز النخبة السياسية وقع فى فخ الاكتفاء بهذه الأدوات بديلًا عن التواصل الحى مع الجمهور والاشتباك العملى مع الواقع وقضاياه، مما أسفر عن تحولهم عمليا إلى «نخبة افتراضية» لا أثر لها على أرض الواقع. وتعطى أجواء معركة الانتخابات الرئاسية 2014، فضلًا عن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة وثلاثة استفتاءات جرت منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، مؤشرات يصعب تغافلها على استمرار غلبة القوى التقليدية الأكثر نفوذًا فى الواقع السياسى (العصبيات القبلية والدينية، وقوى المال والسلطة) على حساب الأحزاب المدنية والقوى الثورية الجديدة، التى لم تنجح بعد فى بلورة رؤية سياسية وتأسيس بنية تنظيمية تعزز فرص تأثيرها فى الشارع أو المراهنة عليها كأحزاب مؤهلة للحكم. يعكس ذلك الواقع الهش لكيانات الأحزاب والقوى المدنية عامة، فضلًا عن انعدام التنسيق وخبرة العمل المشترك بين هذه القوى لتبنى أهدافًا وبرامج عملية تسهم فى خلق واقع جديد يستوعب متغيرات ما بعد ثورة 25 يناير/ 30 يونيو. ولم يعد مجديًا الاستمرار فى التماس الأعذار بما جرى من تجريف للحياة السياسية على مدى عقود طويلة، أو الهلع من ظهور عناصر وقوى محسوبة على النظام القديم فى المشهد مجددًا، أو التباكى من سطوة المال أو السلطة على الإعلام ومنابر التأثير فى الرأى العام، أو التعلل بانتشار الأمية والأموال السياسية، وغيرها من أعذار لا تصلح مبررًا لاستمرار الوهن البين فى الأداء السياسى لقوى ترفع شعارات الثورة والتغيير ولا تبدى عزمًا على بذل الجهد المطلوب لامتلاك القدرة على التأثير والعمل الجاد لتغيير هذا الواقع البائس. زاد من بؤس الصورة ما يكتنف المشهد السياسى الراهن من محاولات محمومة لملء هذا الفراغ من قوى تتأهب للانقضاض على الثورة، سواء من عناصر النظام القديم أو قوى التطرف والإرهاب أو جماعات تحوم حولها شبهات الارتباط بأجندات خارجية، توجيهًا وتمويلًا، ما عزز غلبة اعتبارات تدخل حاسم من مؤسسات الدولة العميقة بمساندة شعبية ترى مخاطر حقيقية تهدد كيان الدولة وتعصف بمؤسساتها، على غرار ما نشهده فى العديد من بلدان المنطقة. ولا تمثل الخيارات السابقة بالطبع علاجًا ناجعًا للخلل فى بنية الممارسة الديمقراطية، مما يطرح التساؤل مجددًا حول قدرة القوى السياسية وفاعليات المجتمع الحية على التصدى لتحدى إعادة التوازن فى الخريطة السياسية الراهنة، سواء عبر استكمال بنية الأحزاب القائمة أو اندماج الأحزاب ذات التوجهات السياسية المتقاربة فى كيانات قوية تمتلك مقومات تأسيس بنية تنظيمية فعالة وصياغة رؤى خلاقة تسهم فى جذب الشباب والقوى الثورية المشتتة إلى معترك الحياة السياسية، وتجاوز حالة الأداء الحزبى الهزيل والموجات الاحتجاجية العشوائية التى تستنفد طاقاتها، وصولًا إلى أداء سياسى يليق باستحقاقات الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة، ويفى بمتطلبات تشكيل حكومة قادرة على التصدى لمهام التأسيس للديمقراطية وإعادة بناء مؤسسات دولة مصر الثورة. وغنىٌّ عن البيان أن القوى السياسية التى تتخلف عن الوفاء بمتطلبات تلك الاستحقاقات العاجلة خلال الأشهر القليلة المتبقية من الفترة الانتقالية المحددة وفقًا لخارطة المستقبل بنهاية العام الجارى، سوف تجد نفسها فعليًّا خارج مؤسسات الدولة الجديدة التى يجرى التأسيس لها، من برلمان أو حكومة أو مجالس محلية، ما يفقدها واقعيًّا أى دور مؤثر فى صياغة المستقبل. كلنا مقصرون، فهل آن الأوان لمبادرة عملية نختبر بها جميعًا قدراتنا على أرض الواقع، بعيدًا عن الجدل النظرى والوقوع أسرى غواية لغو الفضائيات والعالم الافتراضى؟