هذا العنوان نصف بيت لشاعر العربية الأكبر: المتنبي، أما البيت كاملًا فيقول فيه: ولم أرَ فى عيوب الناس شيئًا كنقص القادرين على التَّمامِ وليس مثل المتنبى بين الشعراء، وهو الذى يصكّ الحكمة فى صورتها اللغوية الفريدة، وشاعريتها المحكمة، فإذا بها على كل لسان، ويستشهد الناس بها فى كل عصر وأوان. وهأنذا - بدورى - أستشهد بها، وأنا أطالع فيما حولى وفى مجالات شتى هذا النقص على التمام، مع أن أصحابه يملكون القدرة على إنجازه فى أفضل صورة. وقد ذكّرنى به ما كنت أتابعه من حملات أمنية، طيلة الفترة السابقة - بقصد تطهير بحيرتيْ المنزلة والبرلس مما حدث لهما من تشويه وتلوث وبناء أوكار وأعشاش للمهربين وإفساد حياة ألوف الصيادين الذين يقوم رزقهم على أسماك البحيرتين التى أصابها التلوث من ناحية نتيجة للإهمال وعديد الشوائب واستفحال الطفيليات والطحالب وأمراض البيئة، ولتراجع الثروة السمكية للبحيرتين عامًا بعد عامٍ، بعد استقطاع عشرات الكيلومترات المربعة من مساحتهما، واغتصابها من لصوص هذا الزمان. أقول كم تابعت من حملات تهدف إلى القضاء على هذا كله، ولا تكاد تمرّ أسابيع قليلة إلا وصراخ الصيادين الذين ارتبطت حياتهم بالبحيرتين يتصاعد، والشكوى من أن الحال قد عاد إلى ما كان عليه، وكأنك يا أبا زيد ما غزيت. فأردد كنقص القادرين على التمام! والتمام فى هذه الحالة هو القضاء النهائى على الفوضي، واجتثاث الفساد من جذوره، وليس حملة لعدة أيام أو ساعات ثم يعود الحال إلى ما كان عليه. كذلك كنت أقول لنفسى وأنا أتابع حملات متتابعة لتطهير القاهرة مما أصابها من تلوث وإفساد على أيدى من احتلوا أهم الميادين والشوارع فى قلبها، ليجعلوا منها بيئة غير حضارية. والحمد لله أن الحملة الأخيرة قد نجحت فى تطهير المنطقة التى كان يشكو الناس فيها من كل شيء: القذارة وتعذر المرور وانتهاك حرمة الأماكن والمحال وسرقات الكهرباء، هذا النجاح الذى يهيب بنا لإكمال الحملة فى كلّ القاهرة وعودة الانضباط فى كل شوارعها، وبخاصة فى المرور الذى أصبح فى حاجة إلى حل جذري، وليس إلى حلول جزئية لا تفيد لأنها تضرّ فى بعض الأحيان وليس ما حدث فى حى الزمالك من اجتهادات للمرور ببعيد عن الذاكرة، حين ضاق المدخل والمخرج، وأصبحت المعاناة اليومية قدرًا مكتوبًا على كل من يسكنون هذا الحيّ الذى كان مثالًا للرقيّ والانضباط فى كل شيء، فى يوم من الأيام. وليست القاهرة وحدها هى التى تدعونا إلى التخلص من نقص القادرين، فهناك العديد من مدن مصر - شمالًا وجنوبًا - التى تنتظر دورها فى مثل هذه الحملات - التى طال انتظارها - حتى يتاح لها بعض ما أتيح للقاهرة من اهتمام. ثم ألتفت إلى ما يقوم به المسئول عن رصف الشوارع وإقامة الأرصفة، وأعجب كما يعجب غيرى من المواطنين وهم يرون - فى دهشة - أن إقامة الأرصفة أصبحت موسمًا سنويًّا، يبدأ بالهدم والتكسير ثم البناء، هذه العملية التى تتم كلّ عام تطلق العنان لخيال المتسائلين: من المستفيد من هذا العمل السنوى المنتظم؟ ولماذا لم تكن هناك يقظة كاملة عند تسلم هذه الأعمال بعد إتمامها حتى لا تكون بحاجة إلى مناقصات جديدة فى عامها القادم؟ وما الذى يجعل كل ما يتصل بالطرق لدينا فى حاجة إلى مراجعة ويقظة ضمير خصوصًا عند الانتهاء وتوقيع صك التسلم. لقد رأيت بعينى فى سلطنة عمان سلطان البلاد وهو يطمئن بنفسه على رصف الشوارع - وبخاصة الجديدة منها - وخضوعها لمعايير السلامة الدولية ومعايير الأمان، ولا يتم تسلمها من مقاوليها إلا بعد التأكد من أنها قد أصبحت مطابقة للمواصفات. إن ما يفعله السلطان قابوس فى عمان هو إتمام القادرين على التمام، على حين أننا فى مصر نرضى بالقليل، ونتحايل - أحيانًا - بالذرائع والمبررات، فى الدفاع عن النقص أو التشوّه أو عدم الخضوع للمواصفات، أو التسبب فى ضيق المواطنين وإزعاجهم، بسبب هذا النقص الذى يرتضيه القادرون، وكان بوسعهم أن يكونوا أكثر أمانة ووطنية، وأخلص أداءً وسلوكًا، وأنقى ضميرًا ووجدانًا، كما هو مطلوب منهم على الوجه الأكمل حتى لا ينطبق عليهم قول المتنبي: كنقص القادرين على التمام!... وأظن أنه لا يختلف اثنان فى أننا لسنا قادرين على التمام فيما يتصل بقضية النظافة فى كل أحياء القاهرة، وفى كل الجيزة، وهى الأماكن التى يتاح لى السير فيها والتعامل معها، وأجد أن هناك ارتفاعًا فى مستوى عدم القدرة على التمام، وبخاصة أن قضية النظافة لا تحتاج إلى تكنولوجيا مستوردة، ولا إلى خبرات أجنبية، وإنما هى تحتاج فقط إلى عامل نظافة لديه إحساس بالمسئولية وأمانة فى الأداء وضمير يقظ. وتحتاج مع هذا إلى مشرفين ومتابعين لما يقوم به هذا العامل الكادح، وإلى نقله - من واقعه المتدنى - إلى مستوى الحد الأدنى من الحياة اللائقة، حتى لا يهرب دائمًا من أعباء وظيفته، ليقوم بطرق أبواب السؤال، لعلها تحقق له بعض ما يكفيه. فهل تحتاج النظافة فى القاهرة الكبرى - على سبيل المثال - وفى غيرها من المحافظات، إلى شركات أجنبية للقيام بما عجزنا عنه - بالرغم من قدرتنا عليه؟ وهل نحن فى حاجة ماسّة إلى شركات وخبرات أجنبية لضبط الأمور بالنسبة لما يقام على شاطئ النيل من منشآت، كأنها تخزق عيون المصريين، وتقول لهم موتوا بغيظكم، بالإضافة إلى أنها تحجب النيل عن عيون الناس، وتسمح للعديد من أماكن السهر واللهو باحتلال الشاطئين، وممارسة فنون الضجيج والإزعاج المستمرة حتى فجر اليوم التالي، بالإضافة إلى إطلاق الصواريخ، وكأننا كل يوم فى مناسبة وطنية تقتضى هذا، لكل من تسوّل له نفسه أن يطلق عشرات الصواريخ، دون مراعاة لحق الكثيرين فى الراحة والنوم الهادئ بلا إزعاج. أتمنى لو جرّب بعض المسئولين فوضى هذا الضجيج وحجم الإزعاج الناتج عنه والأوقات الليلية التى يمارس فيها، والقادم من الأبراج وأماكن السهر واللهو التى تملأ كورنيش النيل، عابرة النهر إلى حيّ الزمالك، وكأنها صاعدة من داخل البيوت. والناس يتساءلون: أين الدولة؟ وكيف تسمح بهذه الفوضى وهذا الإزعاج المستمر كل ليلة، بدون وازع أو رادع أو ضابط أو انصياع للقانون؟. إن هذا ليس مجرد نقص عن التمام، بقدر ما هو نقص فى الخُلُق، وانعدام للضمير، وخروج على الوطنية والانتماء، والالتفات إلى حق الآخرين وحريتهم التى لا يجب أن يُعتدى عليها بهده الصورة الكريهة المستفزة كل ليلة، دون أن تجد من يوقفها ويتدخل لإنقاذ الذين شاء لهم حظهم التعس أن يسكنوا على ضفاف النيل. أعود إلى بيت المتنبى - شاعر العربية الأعظم - وأقول له: يا أبا الطيب لم يعد الأمر وقْفًا على مجرد نقص القادرين، ولكنه استفحل وتجاوز كل الحدود والضوابط، وأصبح تلاعبًا بمصائر الناس حينًا - كما فى حالة الطرق وسلامتها طبقًا للمواصفات -، ومثيرًا للإزعاج والغيظ من عدم وجود الدولة للردع والقضاء على الفوضى المتزايدة والمتبجّحة. إن نقص القادرين على التمام يعيبهم بلا شك لأنهم قادرون عليه - أما النقص فى الإحساس بشعور الآخرين وصولًا إلى مرحلة انعدام الحس، فهو كارثة الكوارث فى زماننا، وقد عصمك الله من معاينتها، وحماك من الوقوع فيها. لمزيد من مقالات فاروق شوشة