ليست المرة الأولى التى أكتب فيها عن «نظرية المؤامرة»، فمنذ أكثر من عقدين نشرت فى »الأهرام« مقالاً بعنوان «المؤامرة» ( فى 30 سبتمبر 1991 ). ولم يكن الغرض من ذلك المقال رفض مفهوم المؤامرة بشكل مطلق، بقدر ما هو محاولة لوضعه فى إطاره الطبيعي، وبوجه خاص عدم استخدامه شماعة نعلق عليها ذنوبنا. فالإنسان يسعى عادة إلى فهم الأحداث التى تقع تحت نظره. وكان إكتشاف فكرة السببية وارتباط النتائج بالأسباب هو أحد أهم مظاهر العقل الإنساني، فما نراه اليوم هو نتيجة لأسباب توفرت بالأمس أو أول أمس، وإزاء تطور الحياة الحديثة وتعقدها، أصبحت الأمور غير واضحة، وهى فى حاجة إلى تفسير، وكلما كان هذا التفسير سهلاً ومبسطاً، كان ذلك أفضل. فالأحداث التى نراها اليوم هى نتيجة طبيعية لتفاعل وتلاقى وتضارب العديد من الأسباب والمصالح، التى تتعارض فى جوانب، وتتلاقى فى جوانب أخري. وبدلاً من التحرى عن هذه الأسباب فى تنوعها وتكاملها وتعارضها، فإن الرجل العادى يريد تفسيراً سهلاً ومريحاً وغير معقد، وإذا كان هذا التفسير مبسطاً ومحدداً كان ذلك أفضل.كذلك فإذا جاء التفسير مبرئا لذمة المستمع، وأنه غير مسئول عن النتائج السيئة التى يعيشها، كلما كان ذلك أحسن، ومن هنا جاءت نظرية «المؤامرة». وهى لا تقتصر على تفسير الأمور السيئة للمواطن بسبب وحيد أو أساسي، ولكنها تشير إلى أنها عناصر شريرة بعيدة عنه. فهو ضحية وغير مسئول عن أوضاعه البائسة. وبدلاً من تشتيت الفكر بين أسباب وعوامل متعددة، فمن الأفضل التركيز على شيطان وحيد أو رئيسي، فهناك ما يشبه القوة الواحدة الغالبة والمسيطرة على الأحداث، والتى يكاد يحركها عقل رئيسي، وهى قوة شريرة معادية ونحن جميعاً ضحية لها. وإذا كان معظم أنصار نظرية المؤامرة يتفقون على وجود هذا الشرير الاعظم، فإنهم يختلفون بحسب ظروفهم فى تحديد شكل وطبيعة هذا الشيطان، فالبعض يرى أنها وليدة معتقدات دينية مخالفة تريد إفساد ديننا، والبعض الآخر يرى أنها تعبير عن إختلاف فى الأجناس والعرق ورغبة فى سيطرة جنس على الأجناس الأخري، والبعض الثالث يعتقد أن الأمر لا صلة له بالدين أو الجنس وإنما هى المصالح والأموال التى تريد السيطرة على أوضاع العالم. ويكفى أن نشير إلى بعض هذه الأقاويل المشهورة. فلن نعدم من يقول إنها مؤامرة يهودية صهيونية، تريد أن تسيطر على مقدرات العالم، ويكفى أن تلقى نظرة على «بروتوكولات حكماء صهيون» لكى نتحقق من ذلك، فهناك مؤامرة صهيونية عالمية. وعلى العكس فسوف نرى عند البعض الآخر، أن المشكلة ليست فى الدين وإنما فى الدنيا والرغبة فى السيطرة على مقدرات العالم، وأن هناك مؤامرة كبرى «للرأسمالية والإمبريالية»، وهى التى تثير الحروب والإضطرابات، ويؤكد فريق ثالث، خاصة قبل سقوط الإتحاد السوفيتي، أن من يدبر هذه المؤامرات إنما هى «الشيوعية الدولية». كذلك كان هناك دائماً بؤر فى الغرب لا ترتاح إلى الإسلام وترى فيه خطراً، وقد تأكد هذا الشعور بعد أحداث سبتمبر،2001 حيث بدأت موجة من التعصب الدينى فى الغرب ضد خطر الإسلام السياسى بإعتباره الشيطان الأكبر، وبطبيعة الأحوال، فإن الأمرلا يقتصر على ما تقدم، فللحكومات وخاصة اجهزة المخابرات نصيب لا يمكن إنكاره فى الأحداث الجارية، وسواء أشير فى ذلك إلى أفعال وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية CIA أو السوفيتية KGB أو الإسرائيلية Mossad، أو حتى شركات البترول العالمية، أو جنرال موتورز وربما لبعض العائلات مثل روتشيلد أو روكفلر.. وهكذا. ولا خلاف فى أن لكل من هذه الجهات وغيرها تطلعات ومخططات للمستقبل، ولا جدال فى أن كلا منها يسعى لتحقيق أهدافه بشكل أو بآخر، ولا جدال فى أن لكل هذه المؤسسات أهدافا وأغراضا، وأن كلا منها يسعى إلى تحقيق هذه الأهداف، ولكن الأكثر أهمية هو أن هذه القوى لا تعمل جميعاً وفق مخطط واحد أو لغرض واحد، بل أن هذه الأهداف والأغراض تتعارض فى أحيان وتتلاقى فى أحيان أخري، فضلاً عن أن كل هذه الجهات ورغم ما قد تتمتع به من نفوذ إلا أن قدراتها ليست مطلقة، وهى إذا كانت قادرة على تحقيق نجاح فى مجال، فلا يعنى ذلك قدرتها على الإنجاز فى مجالات أخري. فقد عاصرنا قصصا لفشل دول كبري، كأمريكا فى فيتنام أو روسيا فى أفغانستان. هذه القوى الشريرة وغيرها موجودة بالفعل، وكل منها يسعى لتحقيق ما يراه هدفاً له، غير أن من الصعب القول بأن هذه القوى متفقة أو حتى قادرة على تحقيق كل أهدافها. فالبعض ينجح حيناً ويفشل حيناً آخر، والبعض الآخر ينجح فيما يفشل غيره، وهكذا، وتظل الحقيقة هى أن هذه القوى وغيرها لا تعمل جميعاً وفق مخطط واحد، وأن مصالحها كثيراً ما تتعارض، وإذا أمكن أن تلتقى فى بعض المواقف، فإنها تتناقض فى مواقف أخري، كذلك ليس صحيحاً أن الشعوب دائماً ساذجة، يمكن تسييرها وفق هذا المخطط أو ذاك. النتيجة النهائية لما نراه من أحداث الواقع هى محصلة لتنازع هذه القوى من ناحية، ولأحداث أخرى غير متوقعة أو مفاجئة للجميع من ناحية أخري، وهكذا، فإذا كانت الأحداث التى نراها فى حياتنا اليومية هى نتيجة لتفاعل العديد من العوامل المتنافسة والمتعارضة والطارئة، فإنه لا يمكن الإطمئنان أيضاً إلى ما يخبئه التاريخ للمستقبل، فليست هناك «حتمية تاريخية»، ورغم ذلك فإن ما نراه من نتائج هو حصيلة أسباب أدت إليها، ولكن هذه الأسباب فى تعددها وتنوعها وتداخلها وتوافقها وتعارضها، لا تسمح بإختصار التاريخ فى مؤامرة أو عدة مؤامرات. وخطورة نظرية المؤامرة ليس فقط فى أنها تبسط الأمور وتختصرها كما لو كنا بصدد مؤامرة واحدة، فى حين أن الحقيقة أننا بصدد العديد من المؤامرات المتوافقة والمتعارضة والمساندة والمعرقلة. ولكن يظل الخطر الأكبر لهذه النظرية هو أنها تكاد تعطينا شهادة براءة حين لا نستحق ذلك، فطالما أن هناك مؤامرة، فإن فشلنا لا ينسب لنا، ولا مسئولية علينا، لأن المشكلة هى «المؤامرة». فالنتائج التى تتحقق على أرض الواقع فى ظل نظرية المؤامرة، ليست راجعة لأفعالنا، ونجاحنا أو فشلنا، وإنما لتدخل هذه المؤامرات الشيطانية، فإن نعمل أو لا نعمل، لا فرق، لأن النتيجة التى تتحقق على أرض الواقع مخطط لها سابقاً. أما نحن وأعمالنا أو سوء أعمالنا، فشىء هامشى إلى جانب هذه المؤامرة أو تلك. وبذلك تمثل «نظرية المؤامرة» على هذا النحو صك براءة لفشلنا، فنحن غير مسئولين عما ينالنا من فشل لأننا ضحية مؤامرة كبري. ويكفى أن نلعن المؤامرة وننام مستريحى البال، كلا وألف كلا، نحن مسئولون عن فشلنا. وإذا كنا صادقين مع أنفسنا، فإن السؤال الحقيقي، ليس هو: هل هناك مؤامرة تحاك ضدنا أم لا؟ ليس هذا هو السؤال. فالمؤامرات فى كل مكان، ولن تتوقف... والسؤال الحقيقى هو: لماذا تنجح المؤامرات عندنا ولا تنجح عند غيرنا؟. هل إعلان أو إكتشاف وجود مؤامرة يكفى لإبراء ذمتنا، وغسل أيدينا من المسئولية؟ لقد تساءل المفكر الجزائري، مالك بن نبي، فى صدد ظاهرة الاستعمار، عما إذا كانت بعض الدول «قابلة للإستعمار»، وربما يمكن التساؤل، أيضاً، وهل لنفس الأسباب، هل هناك دول «جاذبة للمؤامرات»؟ لماذا يكثر حديث المؤامرات عندنا، ولا نسمع عنه فى دول أخرى حققت إنجازاً ملموساً؟ ومع ذلك فتظل نظرية المؤامرة سائدة خاصة فى بلادنا خاصة بين المثقفين، والسؤال الحقيقي، إذا كانت هذه المؤامرات صحيحة وتتحقق عندنا، فلماذا لا تنجح فى الكثير من البلاد الأخري، هل الدول الأخرى لها مناعة، ونحن ناقصو المناعة؟ لقد حققت اليابان نجاحاً منقطع النظير، لقد بدأت اليابان رحلتها للتقدم مع حكومة الميجى Meiji فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقيل إنها حاولت الإفادة من تجربة محمد على فى بداية ذلك القرن، واستمرت على الدرب حتى أصبحت قوة اقتصادية هامة فى النصف الأول من القرن العشرين، وانضمت إلى ألمانيا فى حربها ضد الحلفاء فى الغرب. وعندما هاجمت طائراتها بريل هاربر، واجهتها الولاياتالمتحدة بضراوة ليس لها مثيل، ولم تتوان عن إلقاء القنابل الذرية عليها فى نهاية الحرب، رغم أنها كانت قد فقدت معظم قواتها العسكرية، وإحتلتها الولاياتالمتحدة بعد ذلك، وفرضت عليها حكماً عسكرياً ودستوراً جديداً. ومع ذلك استطاعت اليابان أن تستعيد حيويتها رغم أنها تحت الاحتلال الأمريكي، وأصبحت قوة اقتصادية بعد عقدين أو ثلاثة من نهاية الحرب، فهل اليابان، والتى ألقيت عليها حكومة الولاياتالمتحدة القنابل الذرية، حليف لأمريكا والغرب أم هى عدو الأمس. هل انقلبت عداوة الأمس فجأة إلى صداقة؟ لا يمكن أن يرجع ذلك إلى تقارب العرق الأصفر اليابانى مع الجنس الأبيض الإنجلوسكوفي، ولا هو تقارب فى الأديان أو اللغة أو التاريخ الحضاري. كيف نجحت اليابان، رغم المؤامرة العالمية؟ أنه العمل الدؤوب، وليس الشكوى من المؤامرات الخارجية. وماذا عن ألمانيا حليف اليابان فى الحرب؟ لقد احتلتها دول الحلفاء وقسمت أراضيها إلى ألمانيا غربية وأخرى شرقية. وبعد حروب طويلة ومريرة فى أوروبا، كانت ألمانيا فيها مصدر شغب للدول الأوروبية، تركت آثاراً نفسية وسياسية عميقة لدى العديد من الشعوب الأوروبية خاصة فرنسا وإلى حد ما إنجلترا، ومع ذلك استطاعت ألمانيا أن تعود من جديد لتصبح بلداً موحداً، وأهم الدول الأوروبية. وماذا عن الهند، والتى كانت درة التاج البريطانى لأكثر من ثلاثمائة سنة، وعندما استقلت انفصلت عنها باكستان، فى جوار غير ودى إن لم يكن عدائيا، ومع ذلك استطاعت الهند عبر طريق طويل، لم تتخل فيه عن الديمقراطية، أن تحقق إنجازاً اقتصادياً هاماً، رغم تعدد وتناحر الطوائف بها. وهى الآن من الاقتصادات الواعدة. وماذا عن الصين، والتى وإن لم تخضع للاستعمار مباشرة، فقد حاربها الأوروبيون بضراوة للاحتفاظ بمصالحهم الاقتصادية، بما فى ذلك الحرب عندما حاولت الصين أن تمنع تجارة الأفيون. ودخلت الصين خلال القرن العشرين حرباً أهلية طويلة، وخضعت للحزب الشيوعى ثم قامت بينها وبين الاتحاد السوفيتى مرارة وصراع مرير، ولم تكن علاقاتها مع الولاياتالمتحدة أفضل. ومع ذلك بالصبر والمثابرة استطاعت الصين أن تفرض نفسها من جديد على الساحة السياسية والاقتصادية، وهى حالياً ثانى أو ثالث أكبر اقتصاد فى العالم. فهل كانت الصين محصنة من المؤامرات، وعلى غربها الاتحاد السوفيتى الذى أصبح مناهضاً، وعلى شرقها اليابان حليفة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهل الصين جزء من الحضارة الأوروبية والرجل الأبيض، ولماذا لم تواجهها المؤامرات التى نعرفها ونتحدث عنها؟ ولا بأس من الإشارة كذلك إلى جنوب أفريقيا معقل التمييز العنصري، والذى خضع لأبشع أنواع الاستعمار مع التفرقة غير الإنسانية بين ما هو أوروبى وما هو أفريقى وما هو هندي، كيف بدأت جنوب أفريقيا على طريق التقدم ولا تتحدث ليل نهار عن المؤامرة، وهى إحدى الدول الواعدة. وبالإضافية إلى ذلك هناك كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورا.. والقائمة طويلة. ونعود إلى مصر، فنجد أن ما تتحقق فيها من إنجاز يبدو هزيلاً بالمقارنة بما حققته الدول الأخرى خاصة خلال ثلث القرن الماضي، لقد واجهت هذه الدول هى الأخرى محنا وحروبا وأزمات واحتلال، وغالباً خضعت كما خضع غيرها لمؤامرات داخلية وخارجية. المؤامرات موجودة فى كل مكان، وهى كالميكروب أو الفيروس متواجد دائما، ولكن الجسم الهزيل هو وحده الذى يصاب بالأمراض. المشكلة ليست فى وجود مؤامرات، وإنما فى ضعف المناعة، لا يكفى أن نلعن المؤامرات صباحاً ومساءاً، إذا ظل الجسم ضعيفاً. إن كثرة الحديث عن «المؤامرة»، هو صرف النظر عن مشكلتنا الحقيقية، المشكلة فينا نحن، هى نقص مناعة الجسم: هى الكذب، هى النفاق، هى عدم تحمل المسئولية، هى عدم الأمانة... والقائمة طويلة. أخشى أن يكون حديث «المؤامرة» هو هروبا عن قضيتنا الأساسية. القضية: هى الإنسان المصري، هى منظومة المؤسسات، هى القيم السائدة ...إلخ. أرجو ألا يكون «حديث المؤامرة» خاصة الخارجية منها هو هروبا من مواجهة مشاكلنا الحقيقية. لا داعى للبحث عن أعذار خارجية، نحن مسئولون عن أوضاعنا. إننا، بقصورنا، نحن من يجعل المؤامرة ناجحة، فنحن جميعاً مسئولون، المؤامرات سوف تستمر، ولكن مصير بلادنا هو مسئولية فى أعناقنا، تتوقف على ما نفعله وليس على ما يخططه الآخرون، العمل والجهد هو ما نحتاجه لإصلاح عيوبنا ومواجهة الواقع بصراحة، وليس البكاء على الأطلال أو الشكوى من «المؤامرات». والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي