البحث العلمي فى مصر يعيش أزمة كبرى، فما زالت مؤسساتنا البحثية تعيش حالة من الغيبوبة، في وقت سبقنا فيه القاصي والداني نحو النهضة والتقدم، وأوضح دليلٍ على ذلك تجاربُ ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها. هناك آلاف من الأبحاث في مصر موضوعة على الأرفف وحبيسة الأدراج لا ترى النور بفعل البيروقراطية والتخلف، ولا تخرج من محبسها إلا لنيل الدرجات العلمية أو الترقي، اما النهضة العلمية فلا تخطر لكثير من المسئولين على بالٍ مما يؤدي إلى هجرة الكثير من الباحثين خارج مصر بحثًا عن البيئة والمناخ المناسبين. وعلى الرغم من التوقعات المتفائلة والدعوات بزيادة ميزانية البحث العلمى فى مصر؛ فإن الباحثين المصريين ما زالوا ينظرون بعين قلقة إلى مستقبل البحث العلمى في بلادهم، بعد سنوات طويلة من المعاناة فى طلب دعم البحوث العلمية فى مراكز وجامعات مصر، فى حالة من التخبط والإحباطات التى تهز الكيان البحثي بمصر وتدفع أصحاب العقول المتميزة إلى الهجرة بحثًا عن فرصة خارج حدود الوطن، بل إن أول شيء يفكر فيه من يحصلون على الماجستير أو الدكتوراه هو السفر إلى خارج البلاد، بعدما كلُّوا وملُّوا وتعبوا من الوقوف على عتبات المؤسسات الحكومية ومجلس الوزراء. ما هي أسباب تلك الأزمة في مصر إذن؟ تكاد تنحصر هذه الأسباب في عدة مشكلات تقف حجر عثرة في طريق البحث العلمي وتعرقل مسيرته منها: غياب التخطيط، وضعف الإمكانات، وعدم ربطه بسوق الإنتاج، فضلاً عن هجرة كثير من الباحثين النوابغ خارج مصر، وأهم هذه الأسباب سببان رئيسيان الأول هو التدني الشديد للإنفاق الحكومي على البحث العلمي، حيث لم تتعدَ نسبة هذا الإنفاق 0.2% سنة 2009 من إجمالي الدخل القومي؛ أي حوالي 900 مليون دولار، بينما أنفقت سنغافورة حوالي 2% من قيمة دخلها القومي على البحث العلمي في نفس السنة؛ أي حوالي عشرة أضعاف ما أنفقته مصر، وأنفقت ماليزيا حوالي 0.61% من دخلها القومي؛ أي حوالي ثلاثة أضعاف ما أنفقته مصر، طبقاً لإحصائيات مؤسسة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة. أما السبب الثاني لتدهور البحث العلمي في مصر هو الانخفاض في حجم الإنفاق على التعليم الحكومي، حيث لم تتجاوز ميزانية التعليم في مصر 3.7% من إجمالي الدخل القومي في عام 2009 مثلا، بينما بلغ الإنفاق على التعليم الحكومي في ماليزيا 5% من إجمالي الدخل القومي، وفي سنغافورة تعدى حجم الإنفاق على التعليم 3.2% من إجمالي الدخل القومي، ويجب أن نأخذ في الاعتبار التباين الكبير في عدد السكان بين الدول الثلاث فهو في مصر أضعاف أضعاف الدولتين الأخريين وزيادة. فأرقام هذه الميزانية تمثل فضيحة لمصر إذا ما قورنت بالدول المتقدمة أو إسرائيل، أو حتى دول غير بترولية كالأردن والمغرب، فمكافأة مناقشة رسالة الدكتوراه أو الماجستير والتي يتقاضاها الأستاذ نظير جهد يستغرق شهرًا على الأقل في مراجعة الرسالة ضئيلة جدا، فمثلا لو علمنا أن مكافاة الإشراف على الماجستير خمسمائة جنيه (500ج) تقسم على اثنين مشرفين، ومكافأة الإشراف على الدكتوراه ألف جنيه (1000ج) تقسم على اثنين مشرفين أيضا، ومكافأة المناقشة في الماجستير مائة جنيه (100ج) وبدل السفر يبلغ تسعة وعشرين جنيها (29ج)، وفي مناقشة الدكتوراه تبلغ مكافأة المناقشة مائتي جنيه (200ج)، ماذا يفعل الأستاذ الذي يسافر من القاهرة للإسكندرية أو لأسوان كي يناقش رسالة؟ هل تكفيه ال 29 جنيها المرصودة لذلك؟! بينما مكافأة تحكيم بحوث الترقية لا تزيد على 30 جنيها، أما تصحيح ورقة إجابة طالب الدراسات العليا فتصل إلى 80 قرشا، وأن ضعف الميزانية لا يتعلق بمستحقات الأساتذة فقط بل يمتد ليشمل البنية الأساسية التي يعتمد عليها الباحثون في إنتاج أبحاثهم والمتمثلة في المكتبات والدوريات العلمية والمعامل... إلخ. وحتى عندما حاولت بعض الجامعات إدخال تعديلات على لائحة قانون الجامعات الصادرة 1973م وزيادة بعض المكافآت جاءت هذه الزيادة ضئيلة جدًّا وغير مناسبة أبدًا للجهد المبذول والوضع المأمول، ومن هنا من فوق منبر الأهرام نناشد كل من يهمهم شأن البحث العلمي بمصر: أنقذوا البحث العلمي فبه نرتقي ونتقدم. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر