فى 31 أغسطس 2006رحل شخص نجيب محفوظ تاركا وراءه زحاما من الشخصيات ازداد به وجودا على وجود. من الأكثر وجودا..نحن أم العائش فى الخيال الأشد حضورا من الحقيقة؟ هكذا واقعية نجيب محفوظ: شخصيات من عالم الحقيقة هذبها الخيال وشذبها, وأضفى عليها من سحره وكثفها ليخدم من خلالها فكرة او هدفا, لذلك تجيء شخصيات الروائى العظيم نسخا محسنة من الواقع, بمعنى أن الكاتب ينقيها من الشوائب والزيادات، أى من التفاصيل التى لا تخدم هدفه أورؤيته, ويظل يشذبها حتى تصير مدببة كجملة لحنية ترج القلب, وقناعا دراميا,يشبه الوجه الأصلى لكنه ليس نسخة منه, ويعيش صانعه خلفه إلى الأبد. إن شخصيات نجيب محفوظ لتزدحم محتفلة كل ليلة بعيد ميلاده الأبدي.«زيطة» صانع العاهات (زقاق المدق) ومحجوب عبد الدايم صاحب فلسفة «طظ» (القاهرة الجديدة) وزميله فى الفردية المدمرة حسنين ( بداية ونهاية). هذا بالنسبة لرواياته الأولي. ثم تأتى مرحلة الخمسينات التى صنعت شهرته, ولم يصدر بها إلا الثلاثية-وهى تكفيه- وأولاد حارتنا وهى عمل رمزى تمت مصادرته وخارج عن السياق الذى نتحدث فيه. قلنا إن الثلاثية وحدها تكفي, فبين زحام الشخصيات التى خلدها محفوظ هى زحام وحدها.فأسرة عبد الجواد كلها تقريبا إبداعات أدبية خالدة: الأب السيد أحمد- أو سى السيد- وزوجته الخاشعة أمينة, وابناؤه ياسين وكمال وخديجة.. وفى الستينيات ارتد نجيب محفوظ إلى الواقعية النقدية التى ميزت رواياته فى الأربعينيات, عائدا من تسجيلية الثلاثية ورمزية أولاد حارتنا.ومن تلك الفترة نتذكر صابر الرحيمى الذى يبحث عن أبيه فى رواية يختلط فيها الواقع بالرمز(الطريق), واللص سعيد مهران وفيلسوف اللصوصية ومنظرها القديم رءوف علوان, الذى ضلل سعيد بالنظرية, وعند التطبيق اشترك فى حملة صيده, لأنه- رءوف علوان - صار ضمن السادة الذين كان قد أفتى لسعيد بجواز بل وجوب سرقتهم (اللص والكلاب).ومن الشخصيات التى لاتنسى أيضا فى تلك المرحلة عيسى الدباغ فى «السمان والخريف», ذلك الوفدى القديم الذى فقد دوره بعد ثورة يوليو,الفاسد الذى خرج فى التطهير,لكنه مازال يحمل بين ضلوعه قلب ذلك الثائر الطاهر الذى كانه ذات يوم. وتعد السبعينيات مرحلة محفوظ الملحمية, نسبة إلى روايته الكبرى فى ذلك العقد: ملحمة الحرافيش. ورغم رمزية العمل فإنه أيضا لايخلو من الشخصيات الخالدة, نكتفى منها بثلاثة: عاشور صاحب الرؤيا (التى أنقذته هو وعائلته الصغيرة من وباء الكوليرا), وجلال صاحب الجلالة الذى انتشى بخمر القوة سائرا على خطا أمه الجميلة التى لاقلب لها «زهيرة», ورغم أنه رأى بعينيه وهو طفل فواق تلك الخمر المدمرة وهو يهشم رأسها المعبود,إلا أنه عبد القوة هو أيضا حتى دمرته. كل هؤلاء , وآخرون, يتجمعون كل ليلة حول كعكة عملاقة بها أكثر من خمسين شمعة, كل شمعة تمثل عملا من أعمال نجيب محفوظ. ويظلون ينفخون وينفخون فيزداد الشمع توهجا, ويزدادون هم حبورا..وحضورا, ويجعلون من كل ذكرى رحيل عيد ميلاد.