بقلم: د. لويس عوض : لكم ترددت قبل أن أكتب هذا المقال؟ ترددت أولا في أن أكتبه أو لا أكتبه; فأنا لم أكتب عن نجيب محفوظ كلمة واحدة رغم كثرة ما كتب وكثرة ما كتبت. ترددت تردد المتهيب, ففي أكثر من مرة يصدر لنجيب محفوظ كتاب جديد كنت أقرؤه, ثم أمسك بالقلم لأكتب, فيتوقف القلم تهيبا. ولم أكن أعرف لهذا التهيب علة إلا خشيتي من أن أظلمه وأظلم معه نفسي. فما من مرة صدر لنجيب محفوظ كتاب جديد إلا وانطلق كوراس النقاد من أشهر الصحف وعلي موجات الإذاعة وفي حلقات الندوات بتمجيده تمجيدا بلا حساب أو يوشك أن يكون بلا حساب. وما عرفت كاتبا من الكتاب ظل مغمورا مغبونا مهملا عامة حياته الأدبية دون سبب معلوم ثم تفتحت أمامه كل سبل المجد دفعة واحدة في السنوات الخمس الأخيرة دون سبب معلوم أيضا مثل نجيب محفوظ. وما عرفت كاتبا رضي عنه اليمين والوسط واليسار ورضي عنه القديم والحديث ومن هم بين بين مثل نجيب محفوظ; فنجيب محفوظ قد غدا في بلادنا مؤسسة أدبية أو فنية مستقرة تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التي تقرأ عنها ولعلك لا تعرف ما يجري بداخلها وهي مع ذلك قائمة وشامخة وربما جاءها السياح أو جيء بهم ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة. والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التي هي في نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التي تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب بل هل مؤسسة شعبية أيضا يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار في القهوة وفي البيت وفي نوادي المتأدبين والبسطاء. بعد هذا كله لم يعد صعبا تفسير تهيبي العظيم كلما سولت لي نفسي أن أتناول نجيب محفوظ. فنجيب محفوظ عندي كاتب من أولئك الكتاب القلائل في تاريخ الأدب في الشرق والغرب, كلما قرأته غلي الدم في عروقي وودت لو أني أصكه صكا شديدا, ونجيب محفوظ في الوقت نفسه هو عندي كاتب من أولئك الكتاب القلائل في تاريخ الأدب في الشرق والغرب كلما قرأته عشت زمنا بين أمجاد الإنسان وقالت نفسي: ليس فن بعد هذا الفن ولا مرتقي فوق هذه القمم الشاهقة. وليس يجوز لمثلي أن يفسد علي الناس أفراحهم كلما احتفلوا بوليد جديد, وليس يجوز لمثلي أن يشارك في عرس عظيم كل من فيه منتش إن بأصفي السلاف وإن بمجرد الإيحاء: فلقد اكتشفت فيما اكتشفت أن بعض من كتبوا عن ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة مثلا لم يقرءوا منها إلا صفحات معدودات وأنا شخصيا أعلن وأعترف علي الملأ أني لم أقرأ منها إلا جزءها الأول وأعلن وأعترف علي الملأ أني لن أقربها ثانية إلا حين يتاح لي أن أعتكف أسبوعين في مرسي مطروح أو في ظروف تتيح التفرغ لقراءة مثل هذا العمل الأدبي الخطير. ورغم أني قرأت أكثر ما كتب نجيب محفوظ فلن أتحدث هنا عن نجيب محفوظ, ولن أتحدث إلا عن شيء واحد هو قصته الأخيرة الصغيرة اللص والكلاب. سأتحدث عنها لا لأني أعتقد أنها أهم ما كتب ولا لأنها تمثل فن نجيب محفوظ, ولكن لأشرح من خلالها فن نجيب محفوظ في اللص والكلاب بلا زيادة ولا نقصان. فإن أردت أن تعرف موضوع هذه القصة في كلمات فقل إنها قصة جان فالجان في القرن العشرين أو شيء من هذا القبيل. وجان فالجان هو بطل رواية البؤساء لفكتور هيجو, وهو نموذج اللص الذي يطارده المجتمع حتي بعد أن يستوفي قصاصه. كذلك الحال في رواية نجيب محفوظ: فيها سعيد مهران أو سعيد فالجان. لص شبه مثقف يدخل السجن في اللصوصية, وحين يخرج من السجن تبدأ مأساته الحقيقة, فهو يجد أن زوجته التي طلقته وهو في سجنه قد خانته, وتزوجت من أخلص صديق له في عصابته, ويجد أن ابنته الصغيرة سناء تنكره إنكار الولد الذي لم ير أباه أبدا, ويجد أن أصدق أصدقائه بين المتعلمين وهو الأستاذ رءوف علوان المحامي قد خان كل ما كان يبشر به من مبادئ لنصرة الفقراء وتأليبهم علي الأغنياء, وباع تعاليمه الاشتراكية أو الشيوعية لا أدري( فنجيب محفوظ لا يحدد لنا بالضبط هذه التعاليم) مقابل قصر جميل قرب الجيزة. وقد كان المحامي رءوف علوان مثله الأعلي لأنه هو الذي فلسف لسعيد مهران اللصوصية وجعل من سرقة الفقراء للأغنياء مذهبا, وعمق في هذا اللص شبه المثقف نوازع النهب والسلب والسطو وقطع الطريق حتي غدا بفضله زعيم عصابة خطيرة. ويبدو أن سعيد مهران قد تبلورت في ضميره فكرة روبين هود أو اللص الشريف أو يبدو أنه رسم لنفسه مثلا أعلي في الحياة هو أدهم الشرقاوي الذي جاء ذكره في المواويل أنه يسرق الأغنياء ليعطي الفقراء, أقول يبدو لأن نجيب محفوظ لم يرسم هذا الجانب من شخصية سعيد مهران بوضوح كاف. أخلص أصدقائه يسلمه للبوليس ليخطف زوجته وماله وأحب امرأة في حياته تتخلي عنه للتزوج من تابعه الخائن الذي لا يساوي قلامة ظفر, وبنته الصغيرة محور أحلامه تنكره إنكارها لرجل جاء من الطريق, وأستاذه وملهمه يبيع كل ما نادي به من مبادئ مقابل الجاه والحياة الناعمة. هؤلاء هم الكلاب الذين أحاطوا باللص ساعة خروجه من السجن; فلم يبق أمام اللص إلا سبيلا واحدا هو مطاردة الكلاب وتدميرها الواحد بعد الآخر. وفي عملية المطاردة هذه تبين أن القدر نفسه يقف في سخرية مريرة إلي جانب الكلاب; فحين يتسلل سعيد مهران ليلا ليغتال صاحبه اللص الخائن عليش تفتك رصاصاته بمجهول بريء استأجر شقته من بعده وحين تسلل سعيد مهران ليلا ليغتال المصلح الاجتماعي الدعي رءوف علوان تفتك رصاصاته بالبواب المسكين البريء. وهكذا يفر سعيد مهران كالقنيصة وقد خابت كل آماله في تطهير الدنيا من الكلاب. ويبدأ طراد من نوع جديد, طراد المجتمع لهذا السفاح الجديد, فالبوليس وراءه لا يهدأ لأن هذا واجبه والرأي العام وراءه لا يهدأ لأن الصحافة تستثيره, أما هو فهو معتصم آنا عند بغي عاشقة له اسمها نور تعيش في بيت علي حافة المقابر ومعتصم آنا بين المقابر نفسها حتي يحاصره رجال الأمن من كل جانب ويوشك أن ينزل بهم وبنفسه الدمار, ولكن قواه تخذله في اللحظة الأخيرة فيستسلم للبوليس. أما ماذا فعل نجيب محفوظ الفنان في اللص والكلاب فهو قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه سيد من يبني البناء في أدبنا القصصي. فهو مهندس من أعظم طراز يعمل بالمسطرة والفرجار ولا أعتقد أني أبالغ في القول إن قلت إن بناء اللص والكلاب لا يقل إحكاما عن بناء أعظم ما قرأت في القصص الكلاسيكي العالمي, كل شيء فيها محسوب بأدق حساب, ولا أريد أن أقول البداية والوسط والنهاية كما يقول الأرسطاطاليسيون, ولكن أكتفي بأن أقول إن كل خصائص القصة الكلاسيكية وصلت فيه إلي حد الكمال. فهو يعرف أين يتحرك وأين يقف وأين يتكلم وأين يصمت, وهو يهتم بالصقل والصحة والسلامة والاقتصاد والتوازن اهتماما ليس بعده اهتمام, وهو لا يتوه في التفاصيل ولكن يركز علي الجوهريات. ولكن غريبة الغرائب في اللص والكلاب أنها قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون. فهذا اللص الشريف إن صح هذا التعبير شخصية ملتهبة الخيال تستطيع أن تعيش بشهوة واحدة في الحياة, هي شهوة الانتقام بعد القوة الملتهبة العنيدة التي سيطرت علي شخصيات الأدب الروماني العظيم كشخصية هيثكليف في مرتفعات وذرينج لإميلي بروونتي وشخصية أدمون دانت في الكونت دي مونت كريستو لإسكندر دوماس الأب وغيرهما كثير في أدب الرومانسيين حيث تسمم عقل البطل ووجدانه أو تسيطر عليه فكرة واحدة أو شهوة واحدة آكلة مدمرة تعصف به وبكل من حوله. فكيف أتيح لنجيب محفوظ, وهو علي غير ما يذهب النقاد, عدو الواقعية اللدود, أن يصب كل هذا الوجدان الرومانسي في هذا الإحكام الشكلي الكلاسيكي, هذه هي الظاهرة المحيرة حقا في أدب هذا الأديب العظيم, وهي أيضا علة هذا الصدع الكبير في هذا الأديب الكبير, الصدع بين مادة الفن وصورته, ذلك الصدع الذي نلمس آثاره في باطن قصة اللص والكلاب.. وهذا الصدع ينجلي أول ما ينجلي في بناء نجيب محفوظ لشخصياته, فهي بوجه عام شخصيات مرسومة من الخارج, مرسومة بإحكام ولكنها مرسومة من الخارج رغم هذا الإحكام. فهذه الشخصيات باستثناء شخصية الصوفي الفقير إلي الله, وربما شخصية المومس نور إلي حد لا بأس به. حين أقول إنها مرسومة من الخارج أقصد أن اللص الشريف سعيد مهران والمحامي المزيف رءوف علوان وعامة اللصوص وقطاع الطرق الذين صورهم نجيب محفوظ لا يتكلمون بلغتهم وإنما بلغة نجيب محفوظ, ولا يفكرون بعقولهم وإنما يفكرون بعقل نجيب محفوظ, خواطرهم خواطر نجيب محفوظ وذكرياتهم ذكريات نجيب محفوظ, لست أقصد نجيب محفوظ الرجل وإنما أقصد نجيب محفوظ الفنان. كل هؤلاء ليسوا لصوصا ولا بغايا ولكنهم يمثلون فكرة نجيب محفوظ عن اللصوص والبغايا, انظر هذا الحوار بين اللص الشريف وبين الشيخ الصوفي علي الجنيدي: هل تستطيع أن تقيم ظل شيء معوج؟ فقال الشيخ برقة: أنا لا أهتم بالظلال!. وأنا لا أعتقد أن لصا مهما كان شبه مثقف قادر علي أن يجادل رجلا من رجال الله في مشكلة تقويم ظلال الأشياء المعوجة. فإذا ما توغلا في الحديث قال الشيخ: قال سيدي إني لا أنظر في المرآة كل يوم مرارا مخافة أن يكون قد اسود وجهي. أنت ؟ بل سيدي نفسه! فتساءل ساخرا: فكيف ينظر الأوغاد في المرآة كل ساعة. أما الأوغاد فهم الكلاب الذين يطاردهم اللص أو يطاردونه, فالمطاردة في نجيب محفوظ متبادلة لأن سعيد مهران فريسة وكلب صيد معا سواء قبل سجنه أو بعد خروجه من السجن والمجتمع فرائس وكلاب صيد معا. ولست أعتقد أن اللص مهما كان مثقفا أو شبه مثقف مستطيع أن يفكر في هذه الوقفة الفلسفية التي تذكرنا لابد بخوف كاليبان من أن ينظر إلي نفسه في المرآة في أوسكار وايلد. ولو أني أردت أن أسوق من أمثال هذه الخواطر والملاحظات والتعليقات ما يوضح رأيي هذا لسقت مائة مثل ومثل. ولكن كل هذا لا يغض من جمال هذا العمل الفني العظيم. فنجيب محفوظ ومعه عامة نقاد الكلاسيكية مستطيع أن يقول: أنا لا أصف لك الواقع بحذافيره وبتفاصيله ولكني أصف لك الواقع في جوهره وكلياته. ليس من الضروري أن أصف لك كيف واقع سعيد مهران المومس نور ولكنه يكفيني أن أوحي لك بأن الليلة حين انتهت كانت قبلة امتنان وكانت ثمة فراشة تعانق المصباح العاري في تلك الساعة من الليل. فإن أردت أن تعرف من بطل هذه القصة الجميلة قلت لك إنه ليس سعيد مهران ولكن شخص آخر لا يفكر أحد فيه, وهو المومس نور, بل أكاد أقول إن شخصية المومس نور من أجمل الشخصيات التي صادفتها في أية قصة من روائع الأدب العالمي. ولا تعجب من هذا القول لأن نجيب محفوظ جعل منها البصيص الوحيد الذي يختلج( ولا أقول ينير) وسط هذا الظلام الحلك. أما رمزيتها فلا يجوز أن تخفي علي أحد, فهي شيء أشبه ما يكون إلي نور الخير, وسط غابة ظلماء لا مكان فيها إلا للصوص والكلاب. نور هي النور الوحيد في حياة سعيد مهران, نور خافت حقا, نور لا يرغب فيه أحد حقا, حتي أحوج الناس إليه, نور لا يشع وسط الأحياء ولكنه يختلج كالنجم الباهت علي تخوم الحية حيث يلتقي الموتي بالأحياء عند مقابر الإمام. وهي أخيرا نور زائف, زيفها من زيف هذه البغي, التي تستطيع أن تجمع في وقت واحد بين أطهر معاني الحب والتضحية وبين بيع الهوي كروتين يومي لا يدخل في اختصاص علم الأخلاق. وحتي هذا النور البعيد الشاحب المختلج بين تخوم الموتي وتخوم الأحياء, حتي هذا البصيص أطفأه نجيب محفوظ حين جعل المومس نور تختفي فجأة, لا أحد يعرف كيف ولماذا, ولكن نرجح بسبب مهنتها وهي الدعارة أنها وقعت في أيدي رجال البوليس. اختفت في اللحظة التي كان فيها اللص المطارد أحوج ما يكون لا أقول إلي يد منقذة أو قبلة حانية ولكن إلي أربعة جدران يحتمي فيها ولقمة عيش يتبلغ بها بعيدا عن عيون مطارديه. فهل رأيت تشاؤما أكثر من هذا التشاؤم الذي تفصح عنه قصة اللص والكلاب ؟ أنا ما رأيت تشاؤما من هذا التشاؤم إلا في قصص دوستويفسكي وبلزاك, ولا تستكثر علي نجيب محفوظ صحبته دوستويفسكي وبلزاك فهو أخ لهما صغير مهما اختلف عنهما في منهج فنه وفي صورة فنه. وهل رأيت تشاؤما أكثر من هذه الصورة التي رسمها نجيب محفوظ للصوص أشباح وكلاب, أشباح يطارد بعضهم بعضا بين القبور. فكأنما القرافة في نجيب محفوظ هي رمز الدنيا كلها, ولا أقول رمز القاهرة وحدها أو هي الأرض الخراب التي حدثنا عنها الشعراء في شعرهم الحزين, وكأنما البشر من الفصيلتين يعيشون في مأساة طراد خائب من الجانبين ساحته ليست عالم النور ولا عالم الظلمات ولكن تلك التخوم التي يلتقي فيها الموت بالحياة لحظة ثم يشمل الكون كله ظلام ساكن عميق.