أما وقد عادت التهدئة من جديد إلى قطاع غزة، فإن السؤال الأهم الذى يفرض نفسه الآن هو: هل هناك حرب رابعة على قطاع غزة، خاصة وأن المشهد النهائى للحرب الثالثة( لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار) بدا ملتبسا على النحو الذى سمح لكلا الطرفين بادعاء الانتصار أو تحقيق أهدافه ؟! ثم إلى متى ستعيش منطقة الشرق الأوسط حربا دورية على مسرح المواجهات فى غزة، تفصل بين الواحدة والتى تسبقها من عامين إلى ثلاثة أعوام على الأكثر؟ وفى كل مرة يتكرر نفس المشهد مع اختلافات بسيطة فى التفاصيل، حتى بات السيناريو محفوظاً ؟! الإجابة على هذين التساؤلين تبدو مرتبطة بعاملين أثنين، أولهما: القراءة الاسرائيلية للأوضاع الجديدة فى غزة، ودورها فى إعادة بلورة الخيارات والاستراتيجيات الإسرائيلية. وثانيهما: الاستراتيجية الجديدة لحماس منذ اتفاق المصالحة فى إبريل الماضي، وانعكاس ذلك على علاقات القوى داخل غزة فى ظل ثنائية ما يسمي «السلطة المقاومة». فمن ناحية، هذا التغيير فى استراتيجية «حماس» أى الانتقال من احتكار السلطة فى غزة، إلى إبرام اتفاقٍ يسمح للسلطة ببسط بعض النفوذ هناك، ومن مناكفة محمود عباس وتوجيه النقد اللاذع له إلى التعاون الحذر معه، من غير المرجح أن يؤدى إلى تغيير حاسم للموقف بشكل عام على الأرض... فكتائب القسام لن تتخلى عن سلاحها، ولن تخضع لإشراف السلطة الفلسطينية بأى شكل من الأشكال. كذلك لا نية لدى «حماس» لتفكيك أجهزتها الأمنية، التى تؤمن لها الحفاظ على السيطرة الفعلية على قطاع غزة. وهذا بحسابات الأمن الإسرائيلية لن يخلق وضعا مريحا لصناع القرار فى تل أبيب، وسيجعل من اشتعال الموقف من جديد، أو اندلاع مواجهة رابعة أمرا يبدو حتميا، خاصة فى ظل التطور المضطرد للقدرات الصاروخية لحماس والجهاد. ومن ناحية أخري، فإن آليات التهدئة ورفع الحصار باتت مرتبطة بتعزيز مكانة السلطة فى قطاع غزة. فهى المخولة بملف إعادة الإعمار، وحرسها الرئاسى وليس حماس هو من سيتولى المعابر والحدود . ولكى تقوم السلطة بأدوارها السياسية والأمنية والإدارية المطلوبة، فمن المنطقى أن تكون حاضرة بكامل مؤسساتها وأجهزتها الأمنية، جنباً إلى جنب مع الوجود الكثيف والمهيمن لحماس فى القطاع، ما يعنى أن غزة ستعيش حالة من «ازدواجية السلطة». السوابق الفلسطينية مع «ازدواجية السلطة» انتهت كلها بالحسم ذى الكلفة العالية جدا ... شهدنا ذلك فى لبنان بعد ذلك وحتى العام 1982، وفى غزة ما يقرب من ال 15 شهرا (من مارس 2006 يونيو 2007). جميع تلك النماذج انتهت إلى حسم الازدواج، بعد صراع طويل بين حسابات الدولة ومتطلبات الثورة. لبنان، قدم نموذجاً مختلفاً عن مسألة العلاقة بين «الدولة» و«المقاومة»... حيث المقاومة هناك أقوى من الدولة، فيما الأخيرة موزعة على الطوائف. فضلا عن أن «الجيوبوليتكس» يعطى للبنان ميزة لا تتوافر لغزة ، سواء لجهة تداخل الجغرافيا بالديموجرافيا، أو لجهة «العمق الجغرافي». هذه الفوارق، لا تشجع على الاعتقاد بأن «النموذج اللبنانى» قابل للتكرار فى غزة، خاصة بعد كل ما شهدته الساحة اللبنانية خلال السنوات الأخيرة، من حالة اصطدام مستدامة بين حزب الله والكثير من مكونات الدولة والمجتمع هناك.إذن يبقى التساؤل : كيف سيدير الفلسطينيون أمر «ازدواجية السلطة» فى غزة خلال المرحلة القادمة؟ من المسلم به أن للسلطة الفلسطينية، وحركة حماس مصلحة مشتركة فى الإبقاء على وهج القضية الفلسطينية وصدارتها لأجندة الإقليم والمجتمع الدولي. والأصل كذلك، أن وحدة الإرادة والمؤسسات والإستراتيجية، هى شرطٌ مسبق، من دونه لن يصل الشعب الفلسطينى يوماً إلى ضفاف الحرية والاستقلال. لكن الإقرار بهذه الحقائق، لا يعنى أن عناصر الاصطدام قد لا تتغلب فى مرحلة من المراحل على حوافز التعايش ومزايا الوحدة ... فحركة حماس ستمضى فى طريق بناء قدراتها العسكرية بمختلف الأشكال، وبشتى الوسائل الممكنة. والسلطة بموجب اتفاقات التهدئة وآلياتها، و بحكم تعريفها ومكانتها، مكلفة ببذل كل جهد لإثبات الجدارة ولمنع ازدواجية القرار الميدانى ، الأمر الذى تزداد معه احتمالات «تجاوز» أحد الفريقين على الآخر والسعى لتطويعه. صحيح أن سيناريو تعايش «السلطة حماس» يُصعب إسقاطه بالمطلق، أقله لعام قادم ... بيد أن الخبرة الفلسطينية من جهة، وعمق الفجوة بين القطبين الفلسطينيين من جهة ثانية، وتفاقم واستمرار توظيف «الورقة الفلسطينية» ضمن صراع المحاور الإقليمية من جهة ثالثة، والتربص الإسرائيلى الدائم من جهة رابعة ... كلها عوامل ترجيح لكفة سيناريو التصادم فى مواجهة خيار التعايش. إذن قطاع غزة ليس مرشحا فقط لحرب رابعة بين اسرائيل والفصائل، ربما بعد عامين أو ثلاثة من الآن. وإنما يبدو مرشحا كذلك (ربما قبل ذلك التاريخ) لاقتتال داخلى واحتراب أهلي. وتبدو انتفاضة الضفة الغربية وحدها التى يمكنها أن تغير جزئيا فى تلك المعادلة. ذلك أن اشتعال المواجهة مع إسرائيل على نطاق واسع فى الضفة ، وربما داخل الخط الأخضر، ضمن انتفاضة سلمية، ستقطع الطريق على الحرب الأهلية أو تؤجلها على أقل تقدير، دون أن يعنى ذلك بشكل حتمى حماية غزة من مواجهة رابعة مع إسرائيل. بل على العكس.. اشتعال الانتفاضة قد يغرى إسرائيل بالهروب نحو غزة كى تغير من المعادلة... فبدلا من أن تظهر إسرائيل كدولة احتلال تقمع شعبا أعزل فى الضفة يناضل من أجل حقوقه المشروعة، يساعدها اشعال الحريق باتجاه غزة على إظهار الأمر، وكأنه مواجهة بين دولتين وجيشين، تمارس فيها إسرائيل حق الدفاع عن مدنييها. أما «عسكر حماس» فلا أعتقد أنهم سيبخلون على إسرائيل بتقديم تلك الخدمة المجانية. لمزيد من مقالات محمد جمعه