حين أجد الأطراف المتناقضة فكريًا في كل قضية من القضايا المُثارة على الساحة الآن: تكاد تجمع – برغم تَنَاقُضِها – على الَّنيْل من الأزهر والهجوم على مؤسسته نَهْجًا وموقفًا وفكرًا: أزداد يقينًا – حتى وإن تكسَّرت النِّصال على النِّصال - بأن الأزهر يقف على جادة الحق ومحجَّة الصدق، وأنه بِتَلقِّي هذه الهجمات: يدفع ضريبة "الوسط الحق" التي لا مناص منها لكل من يقف مثل موقفه، وينهج مثل نَهْجه، بل إنه بمقدار ما تشتد هذه الهجمات عليه ضراوة وحِدَّة: يتضاعف اليقين بأنه على الحق المبين والصراط المستبين!! لقد ثارت في الآونة الأخيرة على الساحة الفكرية عدة قضايا انطلقت بصددها عقيرة الأصوات الزاعقة والأقلام المهتاجة تخبط خَبْط عَشْواء، ومن بينها – بل من أشهرها وأكثرها إثارة – قضية عذاب القبر، وقضية صحيح الإمام البخاري، وقد كان للأزهر منهما – ولا يزال – الموقفُ العلمي الثابت الرصين المشفوع بالبرهان والدليل، لا يجري فيه وراء كل ناعق، ولا يسترضي به هذا الطرف أو ذاك، رَغَبًا أو رَهَبًا، فالحق أحق أن يُتَّبَع. لقد انبعثت قضية "عذاب القبر ونعيمه"- وهذه هي التسمية الدقيقة – من مَرْقدها الرصين في بطون الحواشي وتضاعيف المجلدات،متَّخذة طريقها الصاخب إلى صفحات الصحف وأبواق الفضائيات، بعد أن كان الأزهريون يدرسونها – في هدوء وَدَعَة – مع أشباهها من القضايا ذوات العدد - في دَأَبٍ وجَلَد – من خلال مصادرهم العتيدة التي تَطْرح المواقف المتقابلة – إثباتًا ونفيًا، وتعديلاً وتجريحًا، كما تَطْرح مواقع الأدلة، وكيفية دلالاتها، وحظَّها من اليقين أو الرجحان أو الاحتمال، ثم ينتهي النقاش دون أن يجترئ طرفٌ على وَصْمِ الرأي المقابل بالتكفير أو التفسيق أو التبديع، مادام كان لهذا الرأي "رؤية" في الفهم، أو "وجه" في التناول، حتى ولو كانت تلك "الرؤية" أو ذلك "الوجه" مرجوحًا أو مظنونًا، أو حتى مرفوضًا!! حين يتخذ الأزهر هذا المنهج السديد الأرجح: منتهيًا إلى "إثبات" عذاب القبر ونعيمه معتمدًا على الأدلة الراجحة، ومعتمدًا أيضًا على "تضعيف" و"توهين" الأقوال المرجوحة التي تنفيه – سواء كان مأخذها العقل أو تأويل النقل:يتصايح المُتَصَايِحُون – ويا لَلْعجب – بأن الأزهر قد انحنى أمام "السلفية المدَّعاة" وانْصَاع لما تراه، ولم يفعل ذلك إلا خشية ورَهَبًا – مع أن قليلاً من الأناة في أصول الموقف الفكري للأزهر "الأشعري اللُّحْمة والسُّدى" لا يدع لقائل قولاً في تباين الموقفين أوتباعد الاتجاهين، واختلافهما الجليِّ لكل ذي عينين، فأين موقف الأزهر من قضية "الإيمان والكفر"، حيث "الإيمان" لديه هو التصديق القلبي الباطني: مقارنًا بموقف تلك السلفية المدَّعاة التي تجعل "أبواب الشرك" مُفتَّحة الأبواب، وتجعل "نواقض الإيمان"شَرَكًا مفتوحًا لا يكاد ينجو منه إلا الأقلون؟ ثم ماذا عن موقف الأزهر الرافض من قضية "الطائفةالممتنعة" التي أصّلت لها مصادر تلك السلفية المدَّعاة، تلك القضية التي كانت " بذرة الحنظل" التي أثمرت "الحصاد المر" الذي نشهده اليوم: إرهابًا وترويعًا ودماءً وأشلاءً؟ ثم – وفي المقابل – هل يبتغي الفريق الآخر من التنويريين والحداثيين أن ينحني الأزهر أمام العاصفة – في قضية ثابتةكهذه، فينفيها بعد أن أعمل في مصادرها مِبْضَع التمحيص والترجيح حتى انتهى به البحث إلى ما انتهى إليه من "إثبات" مشفوع بالدليل؟؟؟ هل ينفيها حتى يَرْضَى عنه: أولئك المُتْرَعُون تنويرًا وحداثةً وما بعد حداثة، ولن يَرضوا؟!! أو يريدون أن يذهب الأزهر فيها إلى القول – مع من يقول منهم– إن الخطاب الديني يقتضينا أن "نستدعي" قضية "عذاب القبر ونعيمه"، ثم "نوظّفها" حين يحتاج الأمر إلى "وَازِع" خُلُقي غير "العقل"، أما حين يكون "العقل" كافيًا كَوَازِع خُلًقي فَعَلَى تلك القضية العَفَاء!! وهل تكون "العقائد" – بأسرها - بهذا المنظور البراجماتي – مَطَيَّة للمنفعة المتغيرة، دون أن يكون لها ثبات أو كينونة أو ذاتية؟؟ إن الأزهر لم يفعل ولن يفعل إلا أن يعتصم بالدليل، ويستمسك بالحق، ويستند إلى البرهان، وإن رضى هؤلاء، أو كره أولئك!! أما ثانية القضيتين فهي التشكيك في صحيح البخاري، تلك القضية التي لا تفتأ تنبعث في أزمنة الفتن، وفي عصور الارتياب ذلك أن ثمة فرقًا هائلاً ينبغي الالتفات إليه بين من يعتنق "الشك" للشك ذاته، فالشك هو قراره "اليقيني" الوحيد،وحينئذ يكون الشك "مذهبًا"، يكتسح كل الثوابت كالريح العاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، وبين أن يكون "الشك" "منهجًا" هادئًا متزنًا يهدف إلى غاية، هي الانتهاء إلى مرفأ اليقين، وبلوغ شاطئ الطمأنينة والاقناع!!. فهل يبتغي هذا الفريق الذي يشكك في صحة أحاديث البخاري أن نطرحها وننبذهاظهريَّا دون أن نأخذ في اعتبارنا ماذا فعل المُحَدِّثُون إزاء رُوَاة هذه الأحاديث تنقيبًا وبحثًا عن ما يمس عدالتهم، أو ذاكرتهم أو سيرتهم، ودون أن يجدوا حرجًا في ذكر "مثالبهم" ومآخذهم، قبل ذكر صفاتهم التي تدعو إلى الطمأنينة، وكيف قرر هؤلاء المُحَدِّثُون في جسارة وجرأة أن الجَرْحَ- أي ذكر المثالب - مقدم على التعديل -أي ذكر المحاسن-؟ فهذا ابن حيان- في القرن الثالث الهجري – يرصد حياته بأسرها للحديث عن "المجروحين والمتروكين والضعفاء" من رواة الحديث، دون أن يجد حرجًا في الَجهْر بمثالبهم ونقائصهم ونقاط ضعفهم، وهو ما دفع الذهبي فيما بعد – إلى أن يكتب كتابه "ميزان الاعتدال" الذي يذهب فيه إلى دعوة المحدثين إلى التخفيف من صرامة هذه "الضوابط" التي سار عليها سابقوه، والتي لا تتغاضى في تعديل الرواة: عن أبسط الَهنَّات وأدنى المآخذ. سيقول المتصايحون "وماذا عن ما يَحِيكُ في صدورنا بصدد بعض الأحاديث والروايات التي نجد فيها ما ترفضه بعض العقول أو بعض العصور، فَمَاذا عليهم لو عادوا - قبل أن يتصايحوا - إلى ما يكتظ به التراث من نقاش هادئ في أسباب الرفض، وأسانيد القبول، ليكون الرفض عن بينة، أوالقبول عن بيِّنة!!. أم هل يرون أن يَصِيح الأزهر مع المتصايحين بعد أدنى اشتباه يتحول بهم من شك المنهج إلى شك المذهب: أَنْ اطرحوا هذا الصحيح أرضًا، وارتابوا في تاريخكم، وكيانكم، وأسس حياتكم؟ ثم أقول أخيرًا: إن التراث الحيّ ليس بحاجة إلى سَدَنة ولا إلى أوصياء، بل في حاجة إلى التأمل والَّدرْس،وبذلك يكون هذا التراث دافعًا، لا مانعًا، وحياة، لا مماتًا!! لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى