لم تكن حربا عالمية من حيث الدول التي تورطت فيها فى البداية، لكن المركزية الأوروبية التي كانت تنظر للعالم باعتباره حدودها المفتوحة (وهي النظرية نفسها التي تتبناها الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي حركت المركزية إلى ما وراء المحيط) جعلتها حربا عالمية ضد إرادة التاريخ ومنطق الجغرافيا. ولأن التاريخ لا يحب إرغامه على شيء ، فقد دفعت المركزية الأوروبية ثمنا فادحا لجريمة إجبار العالم على تحمل كلفة حرب بين قومياتها المتناثرة، وامبراطوريات النزع الأخير ، فدخلت حربا ثانية – كانت أكثر عالمية من الأولى – ثم دخلت نفقا طويلا تحولت فيه امبراطورياتها القديمة إلى أشباح قوى تستمد وجودها من ظلال امبراطورية جديدة نشأت بعد الحرب الثانية. ومهما قدم المؤرخون والسياسيون من مبررات نظرية لاشتعال الحرب، فان النظرية الاكثر تماسكا هي تلك التي ترى في الحرب أزمة النظام الرأسمالي الاستعماري الذي ضاقت عليه المستعمرات بما رحبت فاشتعل البيت الأوروبي بين الإمبراطوريات المستعمرة وانقسم إلى فريقين يريدان احتكار العالم كمستعمرات تحل الرأسمالية بها وبمواردها أزمتها البنيوية التي تتكرر كل فترة من الزمن . في هذه الأيام نتذكر تلك الحرب "الأوروبية" الأولى التي اندلعت من شرارة صغيرة بين دولتين صغيرتين ثم سرعان ما انضمت إلى أتونها إمبراطوريات أوروبا كالنمسا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا ، وقتلت من أبناء القارة العجوز 10 ملايين شخص وجرحت ملايين أخرى، لكنها أطاحت بالكثير من تفاصيل الجغرافيا في مناطق من العالم – نحن في الشرق الأوسط أولها – وحينما انتهت الحرب بمعاهدة صلح أوروبية ، لم تنته الحرب بالنسبة لنا ، أو لم تُمْحَ آثار أقدامها من تراب خرائطنا حتى الآن.. فوعد بلفور أحد أسوأ نتائج الحرب، واتفاقية سايكس بيكو لتقسيم النفوذ العالمي بالمنطقة على أساس عرقي وطائفي ، لا يزالان يثمران ثمارهما المُرَّة في بلادنا حقوقا ضائعة وشهداء يتناسلون من الطمي حتى آخر وجع البلاد التي أدركها الشتات. الحرب الأولى أدخلت مصر مثلا نفق الحماية البريطانية ووضعت بذرة ضياع فلسطين، ثم جاءت الحرب الثانية لتكتب بقية السِّفر المُرّ الذي ندفع ثمنه للآن في غزة. فهل نتذكر الحرب لنحتفي بالموت، والخروج من التاريخ أم لننصف التاريخ من سطوة كتابة المنتصر؟ أم لنتعلم الدرس القديم ونحن نراه يكاد يكرر نفسه الآن على الرغم مما شهدته المنطقة من ثورات ربيع عربي لم يكتمل ، ويعيد طرح الأسئلة ذاتها لتقاسم النفوذ بين قوى جديدة تحاول اقتناص فرصة فوضى الربيع العربي لإعادة رسم المشهد كما تهوى، لا كما يجب أن يكون؟! هل يكون الربيع العربي ثورة العرب الثانية التي تشبه ثورتهم التي لم تفهم قواعد اللعبة في أوائل القرن العشرين وتحالفت مع القوى العظمى للتحرر من هيمنة الدولة العثمانية، ثم لم تحْظَ بعد الحرب إلا بالاحتلال وبداية انكسار يطول؟ وهل يكرر العالم سطوة سايكس – بيكو باتفاقيات جديدة تفتت العالم العربى على أساس طائفى وعرقى مستغلة الغبار الذى يتطاير من مؤامرات سرية وفوضى علنية خلفها ربيع لم يكتمل. احتفالنا بالمئوية لخراب الحرب الأولى فرصة لإعادة قراءة (وربما كتابة ) التاريخ من مصادر أخرى غير تلك التي اعتمدتها القوى المنتصرة . فهل يمكن كتابة التاريخ بعيدا عن قواعد الإملاء ، ورقص التاريخ ذبيحا على الخرائط من شدة الألم ؟