لم تكن الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 مجرد صراع عسكري مسلح انتهى بهزيمة طرف، وانتصار الطرف الآخر، ولكنها في الحقيقة كانت تعبيرًا عن متغيرات حادة في بنية الفكر الإنساني العالمي بشكلٍ عام، وانعكاس ذلك بطبيعة الحال على الفكر العربي، بحكم وقوع معظم أرجاء العالم العربي تحت الاحتلال الأوربي سواء قبل أو بعد الحرب، هذا فضلاً علي التبعية الفكرية للعالم العربي للحضارة الغربية آنذاك. إذًا طرحت الحرب العالمية العديد من الأسئلة الفكرية المهمة لأول مرة في التاريخ، ربما كان أولها تسمية الحرب نفسها بالحرب الكبرى أو الحرب العالمية، فلأول مرة في التاريخ يدخل العالم بأكمله في حربٍ كبرى شاملة تنتشر فعالياتها ومعاركها ونتائجها على قارات العالم أجمع، هذا فضلاً على استمرارية الحرب إلى عدة سنوات. وربما يعود ذلك إلى التطور التقني المهم الذي عرفته البشرية منذ الثورة الصناعية. إذ عرف الإنسان اختراع الموتور والطاقة البخارية، هذه الاكتشافات المهمة التي لعبت دورًا هامًا في طي الزمان وتقصير المسافات، وكانت بمثابة البدايات الأولى لما نسميه الآن "العولمة"، إذ لم تعد الحركة مقصورة على السفن الشراعية والاعتماد على قوة الرياح أو القوى العضلية، وإنما سخر الإنسان الطبيعة لخدمته باختراع القوة القاهرة "الموتور" المحرك. ثم كان اختراع السيارة وأيضًا الطائرة والغواصة من الأشياء الهامة التي جعلت أي حرب قادمة هي بحق حرب كبرى لا يعرف العالم إذا بدأت متى تنتهي. كما طرحت الحرب أيضًا سؤالاً مهما هل الحرب هي صراعا بين الديمقراطية والديكتاتورية كما روج لها من جانب الحلفاء؟ هل الحرب هي صراع من أجل بقاء الديمقراطية أمام زحف الديكتاتوريات القديمة المستبدة؟! إذ روجت أداة الدعاية الانجليزية الفرنسية آنذاك أن الحرب ليست إلا محاولة من جانب الديكتاتورية المتمثلة في النظم التقليدية البالية التي تمثلها ألمانياوالنمسا والمجر وروسيا والدولة العثمانية، وهي جميعًا إمبراطوريات أقرب ما تكون إلى النظم السياسية في العصور الوسطى، في مواجهة صعود الديمقراطيات المتمثلة بشكل أساسي في انجلترا وفرنسا، ثم الولاياتالمتحدة بعد دخولها الحرب العالمية في عام 1917. وتمت الدعاية بشدة إلى هذه النظرية في أكبر حملة دعائية عرفتها البشرية في تاريخها، وتم طرح السؤال الخطير هل تنتصر الدكتاتورية على الديمقراطية وتسود العالم؟ كما تم إعطاء الحرب العالمية صبغة قومية أيضًا، إذ روجت آلة الدعاية الغربية لهذه الحرب على أنها حرب ضد القوميات، فهل تنتصر الإمبراطوريات التي تقهر القوميات وتكبت حركتها النشيطة الصاعدة، أم تستطيع القوميات الصمود والبقاء على قيد الحياة والانتصار للمبدأ القومي. وضرب مثال على ذلك بالدولة العثمانية التي تقهر القوميات التابعة لها، ألم يضطهد هؤلاء القوميين العرب ومذابح جمال باشا العثماني في بلاد الشام دليل على ذلك؟! كما ساعدت انجلترا القومية العربية والشريف حسين على الوقوف في وجه الدولة العثمانية، ومن هنا كان الدور التاريخي للورانس العرب، هذا الرجل الذي قدمت السينما العالمية فيلمًا شهيرًا عنه. ألم تضطهد الدولة العثمانية أيضًا الأرمن؟ حيث تم إلقاء الأضواء على ما سمي بمذابح الأرمن. وتم الترويج لنفس المنطق فيما يخص القوميات الخاضعة لإمبراطورية النمسا والمجر في شرق أوربا، وأيضًا القوميات الخاضعة للإمبراطورية الروسية في آسيا وأوربا. وفي ضوء ذلك نستطيع تفهم الظروف الدعائية والتاريخية وراء التصريح الشهير للرئيس الأمريكي مع نهايات الحرب العالمية الأولى حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، كمحاولة من الغرب لإرساء قاعدة تفكيك الإمبراطوريات القديمة والانتصار للقوميات. لكن الانتصار الكبير الذي حققه الحلفاء في عام 1918 كان يخفي في الحقيقة تحولات حضارية مهمة وخطيرة تصيب البنية الحضارية الأوربية التي ازدهرت لقرون عديدة منذ عصر النهضة. فتحت أقواس النصر وأكاليل الغار كان البعض ينبه إلى أن هذا الانتصار هو في الحقيقة انتصارا بطعم الهزيمة، وأن الحضارة الأوربية في خطر بل إلى أفول. وفي تلك الآونة أصدر الفيلسوف الألماني شبنجلر كتابه المهم "سقوط الغرب" في عام 1918، هذا الكتاب الذي أصبح شاهدًا مهما على منحنى خطير في تاريخ الحضارة الأوربية. وترجم الكتاب إلى الانجليزية بين عامي 1926 و1928. في هذا الكتاب يطرح شبنجلر بجرأة مصير الحضارة الأوربية على بساط البحث، متنبئًا بتحولات عميقة في مجريات هذه الحضارة. وبالفعل ستشهد الفترة التالية، فترة ما بين الحربين العالميتين متغيرات خطيرة في الفكر الأوربي وانقسامات حادة في الفكر الأوربي لا سيما مع ظهور اليسار الماركسي في الاتحاد السوفيتي، وانتشار الماركسية في أوربا، وأيضًا اليمين الفاشي وصعوده في إيطالياوألمانيا. وانعكست أسئلة الحرب العالمية الأولى على عالمنا العربي مبكرًا، واهتم رموز الفكر العربي بهذه الحرب والتطورات التي تجرى في أوربا، واهتزت لديهم صورة أوربا بلد الحضارة العالمية آنذاك. إذ أثار اندلاع الحرب العالمية الأولى جدلاً كبيرًا في صفوف التيار الليبرالي العربي، هذا التيار الذي استقى فكره وثقافته من أوربا، حيث وجد هذه القارة التي تربطه بها وشائج فكرية ونفسية تدفع نفسها دفعًا نحو حربٍ ضروس هائلة تلتهم الحضارة التي طالما تغنى بها هذا التيار فكان عليه أن يقدم تفسيرات مقبولة لهذا الوضع الذي وصلت إليه أوربا. وعلى صفحات السفور، مجلة التيار الليبرالي في مصر آنذاك، دار نقاش حاد وطويل بين أهم رموز التيار الليبرالي في العالم العربي في محاولة لتفسير حالة الحرب التي تعيشها أوربا وتنعكس آثارها على العالم بأكمله. ومنذ عام 1915 دار الجدل بين المفكرين العرب حول ذلك الشأن، فرأى الدكتور محمد حسين هيكل أن هذه الحرب: "إن هي إلا نزوات الطيش تصيب الإنسانية حين ترى أنه قد طال متاعها بالسكينة، وحين تنسى الويلات الكبرى التي تجرها الحروب المستعرة". وكان الطرف الآخر لهذا الحوار هو الدكتور طه حسين الذي امتدح الحرب الدائرة في أوربا آنذاك معللاً ذلك بأن: "الحرب تخلق الحضارة، وأن حالة الحرب الحاضرة تخلق حضارة التنافس". وهكذا تحددت معالم الخلاف بين قطبي هذا التيار الدكتور هيكل يؤمن بمبدأ "الإخاء والسلام الذي تطمع فيه الإنسانية" وأن هذه الحرب مع كرهه لها ستقضي حتمًا على: "مبدأ الأثرة واستعباد الضعيف لتخرج لنا أوربا جديدة أساسها المدنية والسلام، وأن الحرب لا بد لها أن تزول حتمًا من العالم". ويرد طه حسين على هيكل موضحًا أهمية الحرب من أجل السلام قائلاً: "إن السلم حين أرادت أن تتأيد وتشمل برحمتها أبناء الإنسان لم تستطع أن تظفر بذلك حتى لجأت إلى عدوتها التقليدية الحرب فسألتها المعونة والنصر ورغبت إليها في المؤازرة والتأييد". على أية حال كان واضحًا لهؤلاء المفكرين أن عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى سيختلف كليةً عن ما قبله وأن هذه الحرب بشير بعالمٍ جديد وحضارة جديدة ستطبع صورتها على أوربا. وهكذا اتفقوا على أن هذه الحرب: "قامت لإعلان إفلاس المبدأ القديم، وبشير بالمبدأ الجديد". وكان على هذا التيار الفكري العربي الانتظار لسنواتٍ حتى يدرك في سنوات الثلاثينيات وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، أن الحرب العالمية الأولى كما يصفها هيكل في عام 1932: "كشف تعاقب السنين من بعد الحرب العالمية الأولى عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوربا التي حاربت في سبيلها أربع سنوات تباعًا والتي بذلت فيها مهج أبنائها، لم تكن إلا قضية الاستعمار ومن يكون لها حق التوسع فيه، دول الوسط أم الحلفاء؟"