العملة الخضراء الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم في البنوك    بسبب صاروخ حوثي.. سكان تل أبيب يختبئون في الملاجئ وتوقف حركة الطيران وإجلاء رئيس إسرائيل    البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على خطة ويتكوف لوقف إطلاق النار    عادل عبدالرحمن ينقذ مودرن سبورت من الهزيمة أمام طلائع الجيش    «العقل لا يستوعب».. أول تعليق من أكرم توفيق بعد رحيله عن الأهلي    «وداع على غير العادة».. بيان مهم بشأن حالة الطقس حتى نهاية مايو (تفاصيل)    من كان ل هولندا.. زياد ظاظا يشعل أولى حفلاته بأوروبا في حضور عربي أوروبي (صور وتفاصيل)    مصطفى كامل يطرح ثاني أغاني ألبومه بعنوان «كتاب مفتوح» (فيديو)    تناولها بانتظام.. 6 فواكه غنية بالألياف وتساعد على فقدان الوزن    6 اختبارات منزلية لاكتشاف العسل المغشوش.. خُذ قطرة على إصبعك وسترى النتيجة    القبض على عامل خردة بتهمة قتل زوجته في الشرقية    البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على اقتراح وقف إطلاق النار والمناقشات مستمرة مع حماس    أحمد السعدني عن حصد الأهلي لبطولة الدوري: "ربنا ما يقطعلنا عادة    كلمات تهنئة للحجاج المغادرين لأداء فريضة الحج    عضو ب الحزب الجمهوري: ترامب لا يريد الدخول في صراع مباشر مع إيران حاليًا    مطار سفنكس يستعد لاستقبال الوفود الرسمية المشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير    دعاء تهنئة بعيد الأضحى المبارك 2025.. أفضل الأدعية    والدة غادة عبد الرحيم: يجب على الجميع توفير الحب لأبنائهم    خالد الجندي: لا يصح انتهاء الحياة الزوجية بالفضائح والانهيار    قصور الثقافة تختتم عروض مسرح إقليم شرق الدلتا ب«موسم الدم»    صدمته سيارة.. تشييع وكيل الإدارة العامة للمرور في مسقط رأسه بالمنوفية (صور)    ميلانيا ترامب تنفي شائعة رفض "هارفارد" لبارون: "لم يتقدم أصلاً"    تعليقًا على بناء 20 مستوطنة بالضفة.. بريطانيا: عقبة متعمدة أمام قيام دولة فلسطينية    «تود سوردي» يقود ثورة الذكاء الاصطناعي في الفضاء التجاري    المطارات المصرية.. نموذج عالمي يكتب بأيادٍ وطنية    الإفتاء: توضح شروط صحة الأضحية وحكمها    أجمل ما يقال للحاج عند عودته من مكة بعد أداء المناسك.. عبارات ملهمة    تقارير: مانشستر سيتي يبدأ مفاوضات ضم ريان شرقي    "حقيقة المشروع وسبب العودة".. كامل أبو علي يتراجع عن استقالته من رئاسة المصري    الحكومة: استراتيجية لتوطين صناعة الحرير بمصر من خلال منهجية تطوير التكتلات    إحباط تهريب صفقة مخدرات وأسلحة في نجع حمادي    البورصة: تراجع رصيد شهادات الإيداع للبنك التجاري ومجموعة أي أف جي    مجلس جامعة القاهرة يثمن قرار إعادة مكتب التنسيق المركزي إلى مقره التاريخي    الوزير محمد عبد اللطيف يلتقي عددا من الطلاب المصريين بجامعة كامبريدج.. ويؤكد: نماذج مشرفة للدولة المصرية بالخارج    رواتب مجزية ومزايا.. 600 فرصة عمل بمحطة الضبعة النووية    رئيس جامعة بنها يتفقد سير الامتحانات بكلية الهندسة- صور    بين التحضير والتصوير.. 3 مسلسلات جديدة في طريقها للعرض    إنريكي في باريس.. سر 15 ألف يورو غيرت وجه سان جيرمان    يوم توظيفي لذوي همم للعمل بإحدى شركات صناعة الأغذية بالإسكندرية    دموع معلول وأكرم واحتفال الدون وهدية القدوة.. لحظات مؤثرة في تتويج الأهلي بالدوري.. فيديو    انهيار نهر جليدى فى سويسرا يدمر قرية جبلية ويثير مخاوف من تداعيات التغير المناخى    الإسماعيلى ينتظر استلام القرض لتسديد الغرامات الدولية وفتح القيد    الكرملين: أوكرانيا لم توافق بعد على عقد مفاوضات الاثنين المقبل    لندن تضغط على واشنطن لتسريع تنفيذ اتفاق تجارى بشأن السيارات والصلب    بالصور- وقفة احتجاجية لمحامين البحيرة اعتراضًا على زيادة الرسوم القضائية    "قالوله يا كافر".. تفاصيل الهجوم على أحمد سعد قبل إزالة التاتو    وزير الزراعة يشهد تخرج متدربين صوماليين ضمن برنامج إدارة التربة    محافظ المنوفية يشهد استلام 2 طن لحوم كدفعة جديدة من صكوك الإطعام    «أوقاف الإسكندرية»: تجهيز 610 ساحات لأداء صلاة عيد الأضحى 2025    حملات تفتيشية على محلات اللحوم والأسواق بمركز أخميم فى سوهاج    صور.. رئيس الوزراء يتفقد المقر الجديد لجهاز حماية المستهلك    نائب رئيس الوزراء: قصر العينى أقدم مدرسة طبية بالشرق الأوسط ونفخر بالانتماء له    مصنع حفاضات أطفال يسرق كهرباء ب 19 مليون جنيه في أكتوبر -تفاصيل    الإحصاء: انخفاض نسبة المدخنين إلى 14.2% خلال 2023 - 2024    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمضحي    وكيل وزارة الصحة بالإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بوحدة طوسون    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموت على ضفاف بحيرة جنيف
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 08 - 2014


إبراهيم منصور: الغائب الحاضر
انظر الي مياه البحيرة وأتأمل حركات الطيور التي لا تستقر في موضع وكأن مياه البحيرة بها تيار كهربائي يلسع ويدفع الطيور الصغيرة والكبيرة الي الرفرفة بجناحيها علي وقع أصوات مزعجة غير محببة تحلق فوق رءوسنا.
وفي بعض الاحيان تصرخ الطيور صرخات متلاحقة وكأنها تطلق صرخة تحذير أو نجدة لبقية الافواج فتندفع في سرب أو أسراب منتظمة السرعة في حركات رشيقة . الي يساري ملف علي السور به أوراق تخصني والي يميني حقيبة خلود بها كرات التنس وبعض احتياجات لاعبة تنس محترفة من مضارب وكريمات ضد الشمس ومراهم للحفاظ علي البشرة. شابة مشاغلها رياضية من قمة الرأس الي أخمص القدمين، مالي بها؟ وقضايا حقوق الطفل واخلاء العالم من الاسلحة النوية التي تشغل خلود منذ عامين فهذه من باب الموضة والحداثة وليس الاصالة ، ضحكت منها ومن نفسي .
«خلود» اسم اتقبله بصعوبة وكان إبراهيم منصور رحمه الله يسخر منها ويقول لها : ولماذا الخلود يا خلود؟ يا ابنة البحرين، الحياة القصيرة متعة وآثامها أقل وأنا لا أدعو بطول العمر لأحد مهما كان . وتقول له خلود ضاحكة من قلبها : هل تدعو له بسرعة الرحيل؟
ونضحك جميعا . يقول إبراهيم في رزانة مفتعلة، لا أدعو له بطول العمر او قصر العمر . اتركه حائرا مثل بقية البشر، ويشير بيده الطويلة الي جموع الواقفين او الجالسين او السائرين، هذه مهمتهم ، قدرهم، كل منهم معلق من عرقوبه، ولا مدد ولا مشاركة جماعية في أمور الموت والرحيل .
في السنوات الاخيرة كنا للأسف نتحدث كثيرا عن الموت علي مقاهي القاهرة في الحسين وعلي النيل حتى طالنا الموت وغاب عنا أعز الاحبة . وكما راح إبراهيم منصور فجأة ، كنت أراه فجأة أمامي او الي جواري او متحدثا في الراديو وغير ذلك من وسائل اتصالات حديثة ، فيضحك او يبتسم عندما يراني ويذهب في حاله ، تاركا نسمة طيبة من الرضا أينما حل . وأكون مطمئنا طوال وجود حقيبة خلود الي جواري أو قريبا مني ، اما إذا نسيتها او ضاعت مني كما حدث معي عدة مرات ، فهذه مصيبة وتلحق بي .
لا يهم ضياع حقيبة خلود التي بها مستلزمات لعبة التنس وحتى إذا كان بالحقيبة قطعة مجوهرات ذهبية أصيلة ، فهذه كلها قابلة للتعويض وبسهولة، أما اوراق الملف فهذه اوراق تتعلق بحقيقة مرض ابراهيم المفاجئ والسريع وأقواله في فراش الموت في الساعات الاخيرة ولا احد يدعو له بطول العمر بسبب عذابات جسده حيث الموت راحة واقتصرت دعواتنا له بالسلامة والشفاء العاجل . وقد اتفقت كلمتنا نحن رفاق إبراهيم منصور علي اسناد مهمة الحفاظ علي اوراقه الي خلود وهي سوف تتكفل بوضعها في خزينة سرية في احد البنوك حتي تتسلمها الاسرة منها فيما بعد .
وحانت مني نظرة الي يساري وقد صاح طائر في هياج وهز جناحيه بقوة في الفضاء فوقفت رافعا رأسي الي اعلى وأشرت بيدي قائلا: خلود. انظري هناك. قالت البنية وهي ترتعش : نعم. رأيته. إبراهيم قادم نحونا. بعدها أضافت في خوف شديد، هيا بنا. لا أقدر. لا أقدر علي لقاء الموتى, وبدأت تصيح: رحمة الله عليهم، طلبت منها الهدوء ولكنها أصرت علي الهرب بعيدا في عجلة غير محببة. ونسيت خلود حقيبتها التي تضم ملابس اللعب وكرات التنس علي السور وجرت وتركتني واقفا ممسكا بملف الاوراق التي تضم أقوال إبراهيم في ساعاته الأخيرة .
انتظرتني خلود علي الناحية الاخرى من الطريق، وفور اقترابي منها. صاحت تسألني عن سر صياح الطير المفترس عند ظهور إبراهيم، كنت غاضبا، قلت: لا أعرف . وكنت حقيقة لا أعرف، وهل ظهر إبراهيم حقيقة علي شاطئ بحيرة جنيف في عصر اليوم الرابع من مارس عام 2013؟ جنيف مدينة كوزموبوليتانية وفيها بشر من أركان الأرض وليس من السهل معرفة المارين وابراهيم كانت ملامحه مميزة في القاهرة أما علي ضفاف بحيرة جنيف فالحكمة القائلة يخلق من الشبه أربعين لا تزال صالحة .

قصاصات أوراق

لا أود السير وراء خلود علي طريق الأساطير محلية كانت أم أجنبية، وخلود في النهاية ناشطة في مجالات حقوق الانسان بدرجة متطوعة ولاعبة تنس محترفة وليست من المشتغلات بالفلسفة او العلم. أريد ان القي بهذا الملف الذي يحاصرني في البحيرة، ويكفي ما سمعته من خلود من أقوال وحكايات، كما تكفيني أقوال إبراهيم التي سجلتها في ساعات رحيله لفهم القضية.

خناقة علي البحيرة

ماذا حدث؟ بكت خلود فجأة وهي تمد ساقها. بكاء خفيفا صامت صحبته دموع تساقطت علي خدها الأيمن، بكاء كالحفيف . البنت تتألم بشدة لدرجة الجنون . وقفت في موضعي أتأمل ما يجري ، قلت : استدعاء طبيب علي الفور . قالت : كلا . بعدها ، قالت : لا بأس من البكاء عصرا . البكاء محبوب ساعة العصاري حيث الشمس ذهبية اللون والملمس .
لا يهمني الآن البكاء او الصمت عصرا ، ما يهمني هو هذا الألم المرسوم علي وجه الفتاة في تقلصات عميقة ، الألم يعتصرها عصرا ، الألم هو الذي يشغلني, قبل أن تصرخ ثانية . قالت خلود فجأة : الموت طلسم من طلاسم الحياة والألم سحره. الفتاة تخفي آلامها عني تحت غلالة من الثرثرة هززت رأسي موافقا وكأنني أفهم مغزي الكلام. واحتبس الكلام ثانية في حلقي وغضبت خلود، هي تود سماع صوتي بعيدا عن الصمت ، تود سماع صوتي وضجة الكلام عندما يتساقط من فمي أما إشارتي الصريحة باليد بالموافقة علي قولها فلا تكفيها ، بعدها قلت شيئا غبيا أثار غضبها ، تهددني ، قالت إنها سوف تشتري حاسوبا لحصر أعداد الكلمات التي انطق بها في حضرتها، عدادا مثل عداد التاكسي، قلت : فكرة حسنة ومن جانبي سوف اتوقف عن الكلام كلما نطقت بعشر كلمات ، استراحة يعني، قالت وقد ازداد غضبها : هذا لا يكفي . الكلام لا يقاس بالكلمات يا سيدي . الكلام يقاس بالزمن ، هذا الرجل تحدث نصف ساعة وذلك تحدث ساعتين ونصف الساعة. الا تعرف قواعد لعبة التنس أو كرة القدم حيث تقاس الضربات بالزمن الذي استغرقته ، سرحت بعيدا عنها ، وقلت الزمن الحقيقي يرتبط بالجغرافيا وليس بعدد الكلمات . سألتها : كم هي المسافة بين بحيرة جنيف وجامع عمرو بن العاص في القاهرة مثلا ؟ اقصد مصر القديمة ؟ قالت غاضبة، مالنا الان بمصر القديمة وجامع عمرو ابن العاص ، نحن نجلس علي سور حجري علي بحيرة جنيف ، وأنت بعد عشرين عاما إلي جوار البحيرة لا تعرف إذا كانت مياه البحيرة عذبة ام مالحة؟ ما هذا العمى؟ خذ عندك يا سيدي بحيرة جنيف مياهها عذبة صافية وهي واحدة من أشهر سبع بحيرات عذبة في سويسرا . كانت خلود قد اخرجت تليفونا صغيرا أكبر من حجم علبة السجائر من حقيبتها المرمية علي السور ونظرت في شاشة صغيرة وحركت أصابع يدها ، وتوصلت الي الاجابة . الكرة الارضية كلها تحت تصرفها الآن وليس بحيرة جنيف فقط وإذا طلبت منها معلومات عن بيتي في الجيزة لأرشدتني إليه في يسر . من جانب آخر الجلوس الي جوار شخص يتألم ليس ممتعا علي الاطلاق ، ورأيت الذهاب بعيدا عن البحيرة وحجز غرفة لها في مستشفي قريب او بعيد ، لا يهم ، لن أتطفل علي الفتاة وأعبث في حاجياتها لمعرفة نوعية الأدوية والمهدئات التي تتناولها .... في لحظات تشد قفصها الصدري وتطرد الهواء وتهز ساقها وتفرد كتفيها كأنها تستعد للطيران ، أرقبها وأضحك ، أقول سمو الأميرة تود الطيران ، وتقول خلود لي في حماسة وقوة : نعم . وتكمل : سمو الأميرة لا مكان لها علي الارض ، سمو الأميرة موضعها في الفضاء .
استمع وأضحك . وبعدها أحزن ، يهزني الكلام وبعدها ادركت مغزى أقوالها : هل تنوى سمو الأميرة الرحيل وهي في عجلة من أمرها إلي هذا الحد؟ فهم النساء ليس سهلا.
بعد قليل قلت لنفسي:
لا وقت للضحك أو للفهم ، هذه نطاعة ، طلبت منها القيام والذهاب الي المستشفي ، رجتني أن اتركها في حالها عدة لحظات فالألم يشق جسدها من اصبع القدم الي قمة الرأس . جسمها مقسوم ، وطلبت مني الهدوء قليلا . أعترفت خلود أخيرا بالضعف والوجع لعلها تفيق وتذهب معي الي المستشفي فالعناد لا فائدة منه ، لكنها فجأة ضحكت وقالت : ما أحلي الموت الي جوار بحيرة جنيف . لا تخف . وبعدها أضافت : في حقيبة يدي أسماء الأدوية وطبيعة العلاج الذي اتناوله ويجب اطلاع الأطباء في المستشفي علي هذه الاوراق قبل تناول أدوية جديدة ، علما بأني محرومة من كثير من مضادات الالم ويجب علي تحمله كما كان يفعل أجدادنا . عادت الفتاة إلي رزانتها وعقلها وابتعدت عن تصرفات الاطفال التي تغرقني فيها وتمارسها معى من حين إلي آخر . الفتاة مصابة بمرض خطير تخفي تفاصيله عنى وهذا حقها . مريضة وفي حاجة الي عون سريع. معرفتي بخلود تعود الي عدة سنوات مضت ، تعاملت فيها معها باعتبارها لاعبة تنس شابة خليجية متميزة ومترجمة من الطراز الأول ، كانت دائمة الضحك ، تجيد فن السخرية من نفسها ومن الآخرين ومن أهل الخليج وبقية العرب وحتى السويسريين وقد عملت في جنيف عدة سنوات انتقلت فيها بين جنيف وباريس ودول الشمال وروما وبرلين وكانت سريعة التنقل ولا تقدر علي البقاء في مدينة واحدة اكثر من عدة شهور . وخلود تزوجت في شبابها المبكر قبل بلوغها العشرين من العمر لأسباب عائلية وطلقت بسبب عشقها للعبة التنس وتزوجت ثانية وانفصلت عن زوجها وبسبب قرفها من مهنة الترجمة الفورية تابعت التقدم في اللعب حتى أصبحت نجمة يشار إليها بالبنان إلي جانب ظهورها علي الفضائيات بصفة مستمرة مما جعلها معروفة علي طول بحيرة جنيف وعرضها وفي الفنادق الشهيرة . الآن تجلس خلود الي جواري تتألم علي سور حجري بالقرب من بحيرة جنيف وتحدثني عن الرحيل . هل هذا يجوز يا ربي ؟

يوم حزين

بمصرع أولجا في جنيف في فندق علي هذا النحو الغريب يكون سجل القتلي في حياتي أنا خالد المصري قد بلغ أوجه ولا مكان فيه لمزيد من قتلي جدد ، لكن هيهات وهيهات وهيهات. القتلى كثر في عالمنا المعاصر والأسباب دونية وأينما سرت رأيت أمامي قتلي من فلسطين ولبنان وسوريا والاردن والعراق وصبرا وشاتيلا والبوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا، أما جنوب شرق آسيا فحدث ولا حرج فالقتلي من رؤساء الحكومات والاحزاب والمفكرين والاعلام والشعراء وكذلك الحال في بقية الدول الافريقية والصومال والجزائر ومالي وبوروندي وروندا وغيرها حتى الدول الاوروبية لحق بها هوس القتل والتفجيرات والتجارة في أسلحة الدمار الشامل علانية ودون خجل او مواراة والرئيس اوباما لا يجد ما يقوله بعد ان مهدت له كونداليزا رايس كل الطرق بالدعوة الي الفوضى الخلاقة. وقف خالد بالقرب من الشرفة يتحدث إلي نفسه محاطا برجال الشرطة من كل جانب . وتذكر خالد في وقفته فجأة أن أمه في صغره في مصر القديمة كانت تصفه بأنه طائر الفرح وتردد دوما علي مسامعه أنه طائر الفرح الذي ورد في الحكايات القديمة وتؤكد أنه سوف يشاهد في حياته مناظر القتلي ولن يهرب منها ولن يصاب واحد من أصابعه بسوء .
هز خالد رأسه وقال : صدقت كلمات أمي حتى الآن وصاحبتني هذه النبوءة في صباي وشبابي ودفعتني لخوض معارك حماسية من الخليج، ألي شمال إفريقيا . أقبل علي المخاطر محملا بأحلام واحتياجات الجوعي للطعام وحليب الأطفال مسلحا باتفاقيات ومواثيق حقوق الانسان قائلا لنفسي: أنا طائر الفرح الذي تحاهلته شهرزاد في سفرها الخالد ألف ليلة وليلة . تركتني شهرزاد ليد الاقدار ومحاسن الصدف وكان الحظ دوما إلي جانبي حتى دبت الشيخوخة في عروقي .وساقتني الاقدار لأجلس سليما معافى مع قتيلة في غرفة واحدة ورجال الشرطة حولنا في فجر يوم صحو في فندق.
خرجت الي الشرفة ، القيت نظرة علي الطريق وقد دبت الحركة فيه مبكرا، نظرت الي ساعتي واستدرت الي واحد من رجال الشرطة في ملابس مدنية، سألته : هل يسمح لي بالحديث في التليفون لأسباب عائلية ؟ تأملني الرجل طويلا ، وبعدها قال :
لا بأس علي ان تكون المكالمة قصيرة ولا تكشف عن موقعنا ، وتناول منى التليفون المحمول ووضعه في جيبه قائلا: بعد قليل .
طأطأت رأسي وصمت ولم انظر إليه ثانية او احادثه .

بهاء طاهر وقدرة الطواويس علي الطيران؟

وهل تقدر حقيقة الطواويس على الطيران لمسافات معقولة أم تندفع في موجات إلي أعلي وتختفي بين الأشجار القديمة المعمرة، ثم تعود؟ مسألة طيران الطواويس والخلافات حولها شغلت المواطينين العرب أكثر من الاجانب في جنيف ؟ مثل طبيعة مياه بحيرة جنيف وهل هي مياه مالحة أم مياه عذبة نقية ؟ السير حول بحيرة جنيف في الربيع والصيف نعمة ومتعة، ولهذا يحلو الحديث بين الجاليات المختلفة حول ما جرى وما يدور في عالمنا المعاصر من قضايا شائكة تخطت المذابح وكل الخطوط الحمر، ولا يكدر مزاج خالد المصري الي حد الصراخ سوى الاقتراب من مفوضية اللاجئين حيث عذابات الناس مدونة في ملفات, ويقول لنفسه : أينما حولت رأسك يا سيدي إلي اعلى او الي أسفل تجد عذابات الناس تحاصرك من كل جانب بل ومن كل زاوية وركن . هذه الملفات الموزعة علي المكاتب وفي الدواليب وعلي الارض هي التي يطلق عليها بهاء طاهر عفاريت الكون، حيث تسجل الملفات الجرائم التي جرت في السنوات الاخيرة من قتل وشنق وتعذيب وخطف بنات صغيرات وصبية ورضع وابتداع عمليات بطش جديدة في قتل الناس . ومن شدة غضب بهاء طاهر مما يدور حولنا من جرائم اطلق عليها فنون القرن الواحد والعشرين. ودعا الفنانين الي اتقان عمليات القتل المتوحشة علي الطبيعة ثم وضعها في تماثيل لتزيين سطح البسيطة وحتى تذكرنا بجرائم القرن الواحد والعشرين.
مذبحة صبرا وشاتيلا ومخيم جنين ايقونات في سجل القتل والتعذيب ومن قبلهما مذبحة قرية دير ياسين في الماضي الافتراضي اما في وسط أوروبا وبعد الحرب العالمية الثانية فقد حلت بركات عوالم أخري في أوروبا، يا للمصيبة، أمريكا التي امتلكت الطاقات النووية وجربتها في اليابان، أصبحت ايقونة العالم الحديث وهكذا عبر البشر مياه المحيط وخرجت عفاريت الكون لتمرح علي صيحات الطواويس علي حافة بحيرة جنيف وجاءت النهاية متسقة مع ما يدور وما مقتل أولجا في غرفة في فندق الكمال سوى لحن جنائزي أخير في سوناتا ايقاعات متصاعدة لا نهاية لها بصوت الطواويس. ويدور السؤال من جديد: وهل مياه بحيرة جنيف عذبة أم مالحة، ويضحك بهاء طاهر مني إذا عرضت عليه هذا السؤال ، قائلا في غضب جم: الغباء ليس له حدود في عالمنا المعاصر. فأضحك أنا من جديته. ويروي لي بهاء طاهر حكاية سمعتها منه عشرات المرات عن صديقنا المترجم والكاتب الموهوب عادل الحاج عندما نزل الي حافة البحيرة في ليلة صحو وملأ كوبا من مياه البحيرة ليتأكد من قدر عذوبتها فزلقت قدمه وكاد يغرق كما تصورنا في البداية وفي الحقيقة هو سباح ماهر لا يخاف موج البحر فما بالنا ببحيرة راقدة نائمة نغماتها تغرق في صمت ازلي في انتظار هياج واحد من طواويس البحيرة .

الصمت ضجة المحتاجين

اتصلت بخلود قبل انطلاقي ناحية مبنى الصليب الاحمر ، قبل أن افتح فمي بهمسة جاءني صراخها واضحا وقفز الحزن منها عبر التليفون المحمول إلي قلبي وصدري . هذه احزان وصرخات موت قريب منا . أعرف يا خلود ، ومهمتنا التغلب علي الموت ، وهزيمته ، بعد ان نجحنا في عامين في محاصرته في ملفات مرقمة تتعدي مئات الالاف والملايين من الناس : من القتلي والمهجرين والجوعى والمصابين والفارين، عملنا في المنظمة اصبح يقارب عمل العاملين في المجازر العمومية ، ولا نمتلك في مواجهة الجرائم والعنف سوى عدة مواد قليلة من المواثيق الدولية، وثائق دولية معتبرة نظريا ومجموعة بيانات إدانة جاهزة صاغها كبار رجال الفقه والقانون الانساني في العالم ، وهذه قضية أخرى .
خلود : يا لاعبة التنس العالمية ، نحن نتعامل مع الموت حاليا وفقا لقواعد حديثة وليس كما كنا في السابق , نحن حاليا نحقق ونفحص الجثامين ونكتب تقارير بأسباب الوفاة ، وفي هذه وحدها الكفاية لفهم ما يدور ، لقد مضي وقت كان الموت فيه لغزا ، نحن حاليا في مرحلة محاصرة الموت ، وبعد التسجيل تأتي لحظة عودة الحياة ، واولاها نشر قوائم القتلي في الصراعات المسلحة تمهيدا لعودتهم الي الحياة ,كل من سجل اسمه في قوائم الموتي لم يعد ميتا بل حيا من الاحياء ، وهذه طريقة الفلاح المصري في مقاومة الموت ببناء مدافن عالية طاهرة علي الارض . وقبل الاقتراب من مبني الصليب الاحمر توقفت عن السير وتوقفت عن البكاء ، واكتشفت وقلت لنفسي مقتل اولجا علي هذا النحو المتفرد يختلف كلية عن جموع قتلي الصراعات السياسية المسلحة في المنطقة ويقترب من موت الدسائس والعمليات القذرة , والاغتيالات المخابراتية ، فهناك من كان يتربص بالبنية ويتتبعها بعيدا عن صراعات الحرب بين أطراف البوسنة والهرسك والصرب والكروات وغيرهم . إذن فتح باب الجرائم الفردية في وسط أوروبا يا خالد وهذه مصيبة مدوية حيث لا فرار من الجرائم الفردية إذا فتح باب الانتقام والتعصب والتمييز العرقي ووو ...
هذا أول مداخل الارهاب الديني والدنياوي إلي المنطقة. مقتل أولجا علي هذا النحو البشع أول خطوة علي طريق الارهاب. وكما أدخل الصهاينة الارهاب والتمييز الي منطقة الشرق الاوسط في بداية القرن العشرين بواسطة وعد بالفور، تمهد الارض حاليا لموجة ثانية من الارهاب علي يد جماعات ضالة أخرى، وتلامست خطوطها مع بقية دول العالم .
خلود بارك الله فيها تعرف التفاصيل بل تفاصيل التفاصيل. أقف تحت الهضبة العالية المقام عليها مبني الصليب الاحمر الدولي , في مواجهة الباب العمومي لمبنى الأمم المتحدة ، تارة انظر الي السيارات التي تمر إلي جواري، وبودى أن أوقف كل سيارة وأطلب من سائقها الوقوف دقيقة والترحم علي فقيدتنا أولجا لكنني تذكرت اننا في جنيف ولسنا في القاهرة فصمت....

مياه البحيرة عذبة

أحسست بالضيق في وقفتي أمام مبني الصليب الاحمر، خاصة بعد أن هجم علي طاووس ضخم، صارخا، قلت : هذا حفل الوداع يا أولجا . صراخ الطواويس فيه السلوان وكل العزا ء . الطواويس هي زينة هذا الحفل وصوتها أحلي صراخ , وأنينها أجمل أنين بل وأحلي من أنين كل مغنيات الاوبرا. أنين الطواويس يا خالد ضخم فيه عظمة وخواء كالطرق علي النحاس المفرغ. لامعنى لوقوفي أمام بوابة الصليب الاحمر في هذا الوقت المبكر من الصباح ، وكطفل كسر لعبته الغالية الثمن بنفسه، وقف خالد حزينا يبحث عن لعبته بعد ضياع أولجا الفاتنة الشجاعة, أولجا صاحبة القلب الرقيق رغم عملها علي مقربة من جثامين الموتي والمصابين وسط بحور الدماء والجرحى: هذا قدرنا يا أولجا . وجمعت حاجياتي ووضعتها داخل نفسي وجمعت احزاني في صرخة طاووس شارد ، قلت : هذا شعار المرحلة يا رجل يا عجوز، ابتسمت بعدها وقد تأكد لي أن أولجا قد رحلت عن دنيانا كما رحل سابقون وكما سوف نرحل نحن، وقررت السفر الي القاهرة وبعدها ترك العمل، قبل ضياع ساشا وسانيا وخلود البحرينية وغيرهن من بقية الجنسيات، ومن الزملاء نخبة من خيرة شابات وشباب العالم، واقتحمني سؤال شارد، يقلقني منذ صباحي المبكر: هل مياه بحيرة جنيف فيها عذوبة بما فيه الكفاية أم هي بحيرة مالحة ....؟ وظهر في المشهد عادل الحاج الفلسطينيي المثقف الذي لا يكتفي بالسماع ويزعم أن كل فلسطيني العالم بعد عام 1948 لديهم مرض خطير هو اللمس والتأكد من الوزن قبل بوادر اي اقتناع، او اقتراب من حقيقة ما، فالشك في شروق الشمس قانون حاكم في الشرق الاوسط برمته، والعبرة بالحصافة. هل طلعت الشمس صباح اليوم: ربما، واكمل خالد ترهاته متسائلا في برود عجيب: هل قتلت أولجا فجر اليوم ؟ قال خالد لنفسه أيضا مترددا: ربما .
ويصيح عادل الحاج في الذهاب والاياب أمامه في المشهد : الارض ليست خرائط ملونة والقضية الفلسطينية ليست مجموعة قرارات دولية، فلسطين مساحة من أرض معروفة الحدود ويجب لمس ترابها والتأكد من وزنه وصلابته بعد رشه بالماء . استعادة قانون الكثافة لقياس صلابة الارض واجب مقدس علي كل فلسطيني التمسك به وممارسته كتعويذة لعودة فلسطين ومن لا يعلق قانون الكثافة الفلسطيني علي صدره ليس فلسطينيا من أصله .
وضرب خالد الارض بقدم واحدة وهو يقف علي مقربة من بوابة الامم المتحدة قائلا : جسد أولجا يشبه في مظهره الخارجي وهي مرمية علي الارض في الفندق لخريطة فلسطين ، الشكل الظاهرى واحد من حيث الخطوط الخارجية، أما الباطن فيشتعل نارا ، أولجا أيقونة البوسنة والهرسك وسانيا ايقونة كرواتيا وساشا ايقونة الصرب ، كلهن يعملن في مهام انسانية ويقضين ضحايا جرائم ارهابية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.