قال الأطباء لدوستيوفسكى إنه مريض بالصرع فقال لهم: إذا استطاع الصرع أن ينتج هذا الأدب والجمال والابداع والمتعة فهو ليس مرضا بل مزيد من الصحة المجهولة للأطباء. لم يبعث الأطباء أى بهجة فى طفولتى، أصواتهم معدنية خالية من المشاعر، حركتهم ميكانيكية كالآلات، يعلقون فى أعناقهم خراطيم، يدقون على الصدر بأصابع حديدية، يغرزون فى الجسم الإبرة والمشرط، ثم يقبضون على المظروف المنتفخ بالفلوس. أما الموسيقى فكانت تغمرنى بالبهجة، يقفز قلبى ويطير، أرقص مع البنات والأولاد، نغنى للقطن والقمح والبرتقال، تحت وسادتى مفكرتى، أكتب فيها مشاعرى وأفكارى، لم أفصل بين شعورى وتفكيرى إلا بعد دخولى المدرسة، زميلتى إزيس أحبها، أغنى وألعب وأكل معها، يضربنى المدرس على أصابعى بحافة المسطرة ويقول، سيحرقها الله فى النار لأنها كافرة ويحرقنى معها. كان المنهج المدرسى يعلمنا كراهية الأديان والأجناس الأخرى، وتمييز الذكور عن البنات، واحتقار الخدم والبوابين ذوى البشرة السوداء. لم أتخلص من هذه القيم العنصرية الطبقية الذكورية إلا بعد القراءة خارج المنهج الدراسى، بتشجيع من أمى وأبى. يبدأ الابداع فى الطفولة بالتفكير خارج المنهج المقرر، مما يحتاج إلى وعى الأم والأب (أو شخصية أخرى) بأهمية تحصيل المعرفة، يولد الإنسان بعقل يشتهى المعرفة أكثر من الجنس، أغلب المدرسين (الفرويديين) يتصورون أن الجنس محرك التاريخ، ويتصور أغلب المدرسين (الماركسيين) أنه الاقتصاد وليس الجنس. والدراسات الأحدث أوضحت أن »المعرفة« هى المحركة للتاريخ، لولا شهوة المعرفة ما عرفنا القطار والسيارة والطائرة والكمبيوتر، لولا شهوة المعرفة ما أكلت حواء الثمرة المحرمة، لولا كسر المحرمات لأغرقنا الطوفان والجهل والمرض والعبودية، لم أدخل كلية الطب لأكون طبيبة بل لأشرح المخ بالمشرط وأعرف كيف يعمل؟ كيف يمكن للمادة (المخ) أن تفكر وتشعر؟ دراسة تشريح المخ وفصوصه وسوائله الكيمائية وموجاته الكهربية، ضرورية لمعرفة كيف نفكر، لكن التفكير لا يقوم فقط على الكيمياء والكهرباء، هناك عوامل أخرى غير مادية مثل الإرادة الشخصية والدوافع الاجتماعية وغيرها، وأغلب مناهج التعليم تفصل بين المادى واللامادى، أو بين الجسم والنفس والعقل والروح، وهكذا يتم التجهيل بأهم وأجمل ما فى الحياة وهو التفكير المبدع. يقوم الإبداع على «المعرفة» الكلية للظواهر، والأفكار والأجزاء المترابطة فى أى مجال علمى أو فنى أو اجتماعى. ولولا تطور المخ مع التغيرات الاجتماعية الدائمة لما شاهدنا الطائرة والكمبيوتر والأقمار الصناعية وعلوم الفضاء. والشجاعة تؤدى إلى صدق الشعور والتفكير، ويحتاج الصدق إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بعض شخصيات قليلة تضحى بحياتها وأمنها وسمعتها من أجل التفكير خارج المنهج والصندوق المغلق المفروض، هؤلاء المبدعون من النساء والرجال تظل شعلتهم مضيئة لا تخبو، وإن وصموا بالجنون أو ماتوا بالسجون. تتميز المناهج فى الطب والعلوم التطبيقية الأخرى بالجمود والثبات على النظريات السابقة، لهذا كانت المحاضرات فى كلية الطب مملة، أهرب منها إلى الأدب والموسيقى، لماذا تسعدنا الموسيقى؟ لأنها تخاطب (فى آن واحد) العقل والجسم والروح والوجدان، لأنها تعيدنا إلى الأجزاء التى بترت منا فى الطفولة، تعيدنا إلى ما قبل عمليات ختان العقل والجسم، نعود إلى كياننا الكلى الذى كان ونحن أطفال، قبل أن تفسد المدرسة فطرتنا وذكاءنا الطبيعى، قبل أن تفصل المدرسة بين أجسامنا وعقولنا، بين المادى والروحى، بين الفردى والاجتماعى، بين الذكر والأنثى، بين الأنا والآخر، بين الماضى والمستقبل، بين الأرض والسماء، بين الزمان والمكان، بين الإله والإنسان، وغيرها من الثنائيات والتقسيمات الموروثة منذ تحريم المعرفة. فى كلية الطب كان الأساتذة يملكون الشهرة والثروة والصلات الوثيقة بالسلطات الحاكمة، يحشون عقولنا بمعلومات تتسرب بعد الامتحان. وسألنى الاستاذ عن عمليات الختان فى إمتحان شفهى، قلت »مضاعفاتها خطيرة أحيانا والأفضل منعها وكأنما نطقت كفرا، وأعطانى صفرا. وتعرضت لشتى الضربات من زملائى الأطباء، بعد أن بدأت أكتب عن مضار عمليات الختان التى أودت بحياة بعض الأطفال الإناث والذكور. كليات الطب المتقدمة بالعالم أضافت مواد جديدة لمناهج التعليم، منها الأدب والموسيقى، لترقية الشعور والوجدان لدى الأطباء، وتعليمهم كيف يفكرون. وفى بلادنا وجد التعصب الدينى الأصولى فى نقابة الأطباء أرضا خصبة. لا تساعدنا مناهج التعليم عن التفكير، بل تقدم معلومات جاهزة لنحفظها ونطبقها. التعليم الجيد لا يعطينا السمكة بل يعلمنا كيف نصطادها من البحر. لمزيد من مقالات د.نوال السعداوى