بداية لست ضد الأغنياء، بل إننى أتمنى أن يتحول الشعب المصرى كله إلى مليونيرات، فأنا ضد اشتراكية الفقر، لكننى فى نفس الوقت ضد أن يتحول المليونيرات إلى حيتان يلتهمون خيرات الوطن ويتهربون من دفع مستحقاتهم الضريبية، وهو الأمر الذى لا يحدث سوى فى بلاد الموز. ما يحدث فى مصر فوضى لا مثيل لها فى العالم، فالاقتصاد الرسمى لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من اقتصاد الدولة فى حين ان النسبة الأغلب هى اقتصاد هامشى لا تعرف الدولة شيئا عنه ولا يخضع للمحاسبة الضريبية أو أى شكل من أشكال الرقابة والتنظيم. مثلا تجارة الشقق والعقارات والأراضى نموذج لتجارة ضخمة بالمليارات لا تعرف الدولة عنها سوى الفتات فى حين أن مليونيرات العقارات والشقق والأراضى بعيدون تماما عن أعين الدولة وعن المحاسبة الضريبية. ليست هذه التجارة وحدها وإنما الكثير من الأنشطة الاقتصادية الأخرى تعمل بمعزل عن الدولة ونظامها الضريبي، وفى الوقت الذى يخضع فيه فقراء الوطن من موظفين وعمال لرقابة ضريبية صارمة تتمثل فى استقطاع الضريبة من المنبع قبل أن يتقاضى هؤلاء رواتبهم، نرى المليونيرات لا تتم محاسبتهم ضريبيا، وإن حدث فهم لا يدفعون إلا النذر اليسير نتيجة التفنن فى التهرب الضريبى بمساعدة مكاتب المحاسبة القانونية الخاصة بهم ونتيجة غياب نظم ضريبية وقانونية صارمة تمنع التهرب وتضمن العدالة الضريبية. معظم المحلات الكبرى والصغرى ترفض تحرير الفواتير، ولا تعطيها إلا لمن بطلبها وبعد شد وجذب، وهكذا الحال فى المصانع والشركات التى تعمل دون أوراق أو مستندات، وإن حدث فهناك ملفان واحد حقيقى وآخر مزيف مخصص للمحاسبة الضريبية الذى يظهر به النشاط «خسران» دائما وفى أحسن الأحوال فإن المكسب لا يتعدى نسبة ضئيلة لا تسمن ولا تغنى من جوع فى حين أنهم يكسبون الملايين فعليا ويرفضون دفع مستحقات الدولة. مطلوب إعادة النظر فى أشكال التعامل المختلفة بحيث تصبح البطاقة الضريبية ضمن بيانات بطاقة الرقم القومي، ولا يتم الاعتداد بأى عملية للبيع والشراء من جانب الدولة إلا بعد التأكد من تحصيل حق الدولة من الضرائب، على أن يسرى ذلك على الشقق والعقارات والأراضى والسيارات وكل أنواع التجارة والصناعة أو التصدير والاستيراد. لقد أصبح من الضرورى تشديد عقوبة التهرب الضريبى لتصبح »جناية« وأن تتحول إلى عقوبة مخلة بالشرف، وألا يتم قبول أى تعاملات من جانب الدولة مع المواطنين إلا بعد التأكد من السجل الضريبى لكل مواطن أما الفوضى الحالية فهى أمر غير مقبول أو معقول، ولا يجب السماح به تحت أى ظرف. فى تحليله المهم والدقيق لايرادات الموازنة العامة والمنشور بجريدة الأهرام يوم 4 أغسطس الحالى أشار الأستاذ أحمد السيد النجار إلى أن الرقم المقدر للضرائب العامة فى الموازنة الجديدة يبلغ 207.5 مليار جنيه، وضمن هذه الضريبة تبلغ المرتبات وما فى حكمها 22.1 مليار جنيه، وهى ضريبة يدفعها الموظفون والعمال، أى الطبقة الوسطى ومحدودى الدخل والفقراء، وتضاف اليها أيضا ضريبة دمغة على المرتبات بنحو 3.7 مليار جنيه ليصبح المجموع 25.8 مليار جنيه، أما النسبة الكبيرة المتبقية من الضرائب فإنها تخص هيئات عامة وبنوكا ومؤسسات تابعة للدولة. أى أن الفقراء هم الذين يدفعون، والهيئات والمؤسسات العامة والبنوك هى التى تدفع النسبة الأعظم، أما المليونيرات والشركات الخاصة فلا أحد يعرف عنهم شيئا ويتهربون تماما من دفع الضرائب، ونسبة قليلة منهم هم من يدفعون القليل وبما لا يتناسب مع حجم أرباحهم الحقيقية. لن يستقيم الأمر فى الاقتصاد المصرى إلا بالعدالة الضريبية، وأن يدفع الأثرياء ما عليهم من ضرائب مستحقة، والبداية لابد أن تدرس الحكومة اصدار تشريعات جديدة تضمن تحويل الاقتصاد الهامشى وغير الرسمى إلى اقتصاد رسمى معلن، وكذلك تفعيل قوانين الكسب غير المشروع، ومن أين لك هذا؟ لمعرفة مصادر الثروات والتدقيق فيها وفرض الضرائب والرسوم المستحقة عليها بعدالة وشفافية بعيدا عن الجباية والانتقام وفى نفس الوقت بعيدا عن حالة الفوضى الحالية التى جعلت من البعض أثرياء على حساب الدولة، فالضرائب فى العالم كله لا تهاون فيها، وفى أعتى الدول الرأسمالية (أمريكا ودول الغرب الرأسمالي) لا يتجرأ أحد كبر أو صغر على التهرب الضريبى أو عدم دفع مستحقات الدولة أو إبرام أى صفقة بعيدا عن سلطة الدولة، فهناك تشجيع كامل للأغنياء لكن فى ذات الوقت لا تهاون مع متهرب من الضرائب، ولا يوجد كما هو الحال عندنا فى مصر شيء اسمه الاقتصاد غير الرسمي، فالنشاط الاقتصادى كله لابد أن يكون معلنا وتحت سمع وبصر الدولة وأجهزتها المختلفة. لمزيد من مقالات عبدالمحسن سلامة