انتهى مولد المسلسلات الرمضانية.. وكثيرا ماتفجر لنا عروض تلك المسلسلات الكثيفة المشاهدة قضايا مهمة تتعلق فى معظمها بالذوق وبالأخلاق.. علاوة على العادات والتقاليد.. ولكن فى رأيى أن القضية الأساسية هذا العام هى قضية اللغة، واللغة كما هو معروف أداة التواصل والتوصيل بين التفكير وبين الواقع.. بين الناس بعضهم ببعض وهى تتكون أساسا من مفردات دالة وأدوات وصل وللخيال نصيب فى خلق صور وألفاظ جديدة.. ولكن.. من الملاحظ أن اللغة فى مسلسلات هذا العام والأعوام السابقة أيضا قد تدنت إلى ماتحت اللغة السوقية.. فإذا كانت اللغة تعد مقياسا صعودا وهبوطا للمجتمعات فلا شك أن لغتنا الحالية لغة هابطة بل شديدة الهبوط. كيف وصل بنا الحال إلى أن يكون نموذج مثل «الليمبى» مسيطرا على السوق الفنية لعدة أعوام.. وكيف يكون هذا الشكل المشوه.. هو المطلوب لدى المنتجين.. بل وهذه هى المصيبة كيف يفرض نفسه على قنوات التليفزيون فى شهر رمضان؟. إن «الليمبى» هذا هو تلخيص لما حدث للغة عندنا فى السنوات الماضية.. ربما منذ الانفتاح حيث حلت ألفاظ جديدة محل الألفاظ السابقة الراسخة.. وحيث أصبحت الانتهازية والكسب السريع والتحول الأخلاقى سمات مميزة لهذا العصر.. فبدأت المتاجرة باللغة البذيئة فى الأغانى وبدأ تسويقها عن طريق الأشرطة فى الميكروباصات وعربات التاكسى ومواكب الأفراح والأفلام وكل أماكن التجمع، وحسب نظرية: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة فسريعا ما التقط الناس أبجدية تلك اللغة الرديئة وأثمرت بسرعة فى المناطق العشوائية وترعرعت وأضيفت إليها ألفاظ جديدة من حياتهم اليومية.. وسريعا ما تلقف صناع الأغانى الشعبية من نوع (تحت السلم) مفردات تلك اللغة ليشكلوا منها سلمهم الموسيقى الجديد ثم يتلقفها مؤلفو المسلسلات من نوع تحت السلم أيضا وكذلك كتاب الأفلام الرخيصة. فإذا عدنا إلى نموذج «الليمبى» وجدناه يجمع كل تلك النقائص.. خاصة فى ذلك الشكل الجديد الذى يتجسد فى تلك المرأة العجوز التى تشوه كل أشكال العجائز. سواء فى طريقة مشيها أو نطقها للكلمات أو تصرفاتها. وأنا لا أعتقد أن المسألة تتم صدفة أو لمجرد الإضحاك أو السخرية بل إنها مقصودة كآلة من آلات الهدم التى يتبناها كارهو هذا البلد.. أو المأجورون لهدمه. هناك نظرية تربوية تقول: إن التكرار يرسخ المعلومة.. فإذا ماطبقنا هذه النظرية على الأغانى أو المسلسلات أو الأفلام جاءت النتيجة خطيرة.. خاصة إذا كانت هذه الطرائق الفنية تكرس أفكارا هدامة أو لا أخلاقية.. أو تعتمد على اللغة البذئية أو الهابطة. خاصة لدى الاطفال الأجيال الصاعدة هؤلاء الذين يروق لهم التقاط الكلمات الغربية وحفظها وترديدها.. ولعل أخطر من المسلسلات والأفلام الإعلانات غير المدروسة التى يحفظها الأطفال لقصر مدتها وتركيزها واعتمادها على الشاذ من المناظر. ولعل ما أصاب لغتنا العامية أصاب اللغة الفصحى أيضا.. ويمكن لمن يتابع القنوات الفضائية أو التليفزيون أن يلاحظ الكم الفظيع من الأخطاء النحوية فى حوارات المذيعين أو الضيوف.. بداية من نصب الفاعل ورفع المفعول والخطأ الشائع لدى الجميع تقريبا فى الخلط مابين اسم كان وخبرها ولعل هذا راجع إلى مقررات المدارس فى مراحلها الأولى حيث تكون النصوص والنحو شديدة الغموض والتقعر خاصة فى الشعر العربى القديم إلى حد التقعر والطنطنة والبلاغة الزائفة.. إن لغة الشعوب وخاصة الأغانى تحدد هويتها.. وكلما ارتقت اللغة دلت على رقى المجتمع وكلما هبطت دلت على هبوطه وهبوط ذوقه.. وفى مراحل صعد مصر كما كان فى الستينيات كانت اللغة تدل على المجتمع وقتها فقد كانت أغانى الستينيات تحفز على الحياة والكفاح والعمل.. وكانت تحملها للناس أصوات قوية وفاعلة مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وغيرهم.. ولاتزال تلك الأغانى صالحة وصداحة حتى اليوم وقد سمعنا الكثير منها يتردد فى ثورتى يناير و30 يونيو.. فما الذى اختفى من حياتنا فى السنوات الماضية؟ إنه فى كلمة واحدة «الجمال». والجمال لفظة جامعة شاملة تتفرع منها كل أشكال الحياة والحيوية.. ولعل أهمها: الذوق. لقد اختفى أو تضاءل الذوق أولا فى الشارع حيث تحول إلى نوع من القبح.. وانتقل هذا القبح من شكله المادى فى الشارع الى شكله المعنوى داخل النفوس.. فأصبحت النفوس أيضا قبيحة.. يتبدى ذلك فى الأخلاق وفى التعامل وفى التصرفات بل وأثر ذلك أيضا وهذه مصيبة فى الضمير نفسه.. فى مفهوم الضمير.. فى القيم التى يتشكل منها ذلك الضمير... فتحورت القيم.. تم تحولت.. وحلت قيم الانتهازية وتحليل الحرام وتحريم الحلال وكل قيم الانفلات لتحل محل القيم الراسخة سواء الدينية أو الاجتماعية. فى كلمته الأخيرة.. الدالة والمكثفة.. نبه الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى نقطة مهمة وجوهرية حين تكلم عن «مكارم الأخلاق» التى هى القيم الجميلة التى هى جوهر الأديان.. فالمسألة ليست مسألة حفظ نصوص الدين أو ترديدها وإنما الوصول إلى هدفها.. إلى تلك القيم المشتركة بين الأديان جميعا والتى تدعو إلى مكارم الأخلاق.. ولعل هذه النقطة بالذات جاءت فى موعدها حيث أصبحنا نعيش «الدين الشكلى» لا جوهر الدين.. وإلا فلماذا لايزال الفساد والرشوة والغش والكذب متفشية حتى الآن رغم التشدق بالدين.. مع أن الدين هو المعاملة!... لمزيد من مقالات بهيج اسماعيل