ماجد يوسف هل يجوز نقد القيم السلبية في حياتنا بطريقتها التي جعلت منها قيمآ سلبية أفاض الكتاب والنقاد والمحللون، عند حديثهم عن الدراما الرمضانية، في الإشارة إلي البذاءات، والألفاظ الخارجة، والسباب المقذع، والهبوط - بشكل عام - في مستوي الحوار، ولغة التخاطب.. ناهيك عن الموضوعات وتسطيحها، والقضايا وتدنيها، والسذاجة والمباشرة والقصص المستهلك التي اتخذتها هذه التمثيليات أطروحات لها صدعت بها رؤوسنا علي مدي الشهر الكريم الفائت كله. وطبعا كانت الحجة المرفوعة من قبل أصحاب هذا الهراء، في وجه سيل الانتقادات التي وجهت لهم، انهم بذلك يسامتون الواقع، ويعبرون عن لغته الحالية، ومصطلحاته الدارجة، وصيغه الشائعة، وأفق المعاملات فيه، ومستوي العلاقات التي تحكمه.. وان علي الفن (الصادق)!!.. ان يكون أمينا في نقل كل ذلك بلا تزويق ولا تجميل! وهي قولة حق يراد بها باطل، أو من الأفضل أن نقول.. انها قولة باطل يراد بها باطل أشد.. ولعل مثل هذا الكلام البائس، أو هذا النوع من التفسير الأعرج، كان وراء بعض (تترات) هذه المسلسلات التي زادت الطين بلة بالتكريس لنفس هذه المفاهيم المتراجعة، واستخدام نفس هذه اللغة المتدنية - التي تترسم الواقع (قال) - كما تبدت في تلك المقدمات الغنائية (السوقية) وهذا أقل ما يقال عن بعض ما كانت تردده.. تلحينا وغناء وكلاما.. معظم هذه الأغاني الفجة.. وسرعان - للأسف - ما يحفظ أولادنا الصغار، والناشئة من مراهقينا وشبابنا، وفتياننا وفتياتنا هذه الفجاجات الملحنة والمغناة ويرددونها مع إذاعة المسلسلات المتكررة ليل نهار علي أكثر من قناة وفي أكثر من وقت من ساعات النهار والليل.. بما يساهم - بما لا يدع مجالا لأي شك - في المزيد من الهبوط الحاد في الذوق العام،وفي تراجع الحس الراقي بفن الغناء، وفي تسيد الكلمات المبتذلة والسوقية، والتي هي أصلا حتي علي المستوي الشعبي الواطئ السقف الفني جداً.. لغة اصطلاحية خاصة.. بما يعني أنه لا يفهمها ولايعيها ويستخدمها بالتالي.. إلا مستويات من الناس الجهلاء والرعاع والسوقة والبلطجية وأصحاب التعليم المحدود جداً في أحسن الأحوال!.. »العملية بقت كشري.. وكله فاتح ع الرابع). ... وقد يقال في الدفاع عن مثل هذا الكلام.. ان المقصود منه.. هو السخرية أو الإدانة لبعض المضامين السلبية التي يحتويها العمل الدرامي المعين .. فالقصد الحقيقي هو شجب هذه الفوضي التي تسم حياتنا الآن في كثير من مناحيها وأبعادها الراهنة، وبالتالي.. فغرض كاتب الأغنية الحقيقي، هو نقد هذا الواقع المتردي، الذي اختلطت فيه القيم، وانبهمت الرؤي، وضاعت البوصلة الهادية المرشدة، واختلط فيه الحابل بالنابل، بما دفع مؤلف الأغنية إلي هذا القول الفلسفي العميق.. »العملية بقت كشري، والكل فاتح ع الرابع)! وهذالدفاع في الحقيقة، عن مثل هذا الهراء والتدني، بمثل هذه الطريقة، هو ما يعنيني الوقوف عنده لتبيان الخلل والخطل - ان لم أقل النصب والاحتيال - في مثل هذا القول المخاتل المخادع (إن وجد)! وهي فرصة، كذلك، لمناقشة بعض المفاهيم المغلوطة في الأدب والفن والإبداع، بل ليس فيهم فقط، وإنما في كثير من القيم الأخلاقية والاجتماعية الأخري.. والقضية ببساطة هنا. هل يجوز نقد القيم السلبية في حياتنا، بطريقتها نفسها التي جعلت منها قيما سلبية؟! السؤال بصيغة أخري.. إذا افترضنا أن الواقع يعاني من فوضي أخلاقية شاملة، وانحطاط عام في القيم والأطر والمفاهيم، وترد واسع في المعايير الصائبة والآداب السليمة والذوق الرفيع.... الخ، وان السمة البارزة، والظاهرة المسيطرة، علي كافة مناحي الحياة.. هي اختلاط الحابل بالنابل فعلا... الخ... الخ. فهل من الصحيح، عند تعرضي لنقد كل ذلك في عمل فني (أغاني - دراما - شعر - مسرح ........الخ) أن أصطنع لغته المنحطة - الواقع أقصد - وأسلوبه المتدني، ومصطلحاته السوقية.. لكي أنقده!.. ولكي أضمن أن يصل النقد إلي مستحقيه الذين لا يفهمون إلا هذه اللغة؟.. هذا هو السؤال، وهل في هذه الحالة، يكون هذا هو النقد السليم، والأسلوب الأمثل للتعامل مع مثل هذا الانحراف الاجتماعي والأخلاقي.. فنياً، أم انني في الواقع، إذا اتبعت هذا الأسلوب، أكون - من حيث أدري أو لا أدري - قد كرست لهذا الانحطاط نفسه، بإشاعة مفاهيمه ولغته ومفرداته ومصطلحاته، وبالتالي، ساهمت في تأكيد رؤيته المتخلفة والمنحرفة للواقع باصطناع لغته نفسها.. لأن اللغة عند استخدامها بطريقة معينة، في وقت معين، ولدي سريحة أو طبقة اجتماعية معينة.. تعبر عن منظورهم في وعي العالم والواقع والوجود .. فهي ليست مبرأة من ثقافة ومنطق وفهم ورؤية مستعمليها لهذا الواقع والرضا بهذا المستوي من اللغة لدي تلك الشريحة الاجتماعية المعنية.. فيه - بدون شك - انعكاس مؤكد لمستوي وعيهم، وقدر فهمهم، ومدي رؤيتهم لهذا الواقع ولقضاياه. وإذن.. فحينما تستخدم أنت أيها الشاعر أو الفنان المثقف هذه اللغة الإصطلاحية نفسها.. مدعيا انك تضعها في سياق ناقد أو شاجب لهذه الممارسات.. فأنت واهم في الحقيقة.. لأنك تكرس لها ولانحطاطها ولمنطقها القاصر في فهم العالم والواقع والناس! ... وما أشبه ذلك، بهذا الأب الذي أراد أن يضرب لابنه مثلا عن مخاطر الإدمان والهيروين.. فأدمن وتعاطي الهيروين لكي يبلغ اقناعه لابنه إلي أقصي درجات الاقناع، وغاية غايات ضرب المثل! بمعني أن السيد مؤلف الأغنية الذي أراد أن يشجب الواقع ويدينه باعتبار أن (العملية بقت كشري، وكله فاتح ع الرابع) لم يفعل علي مستوي الشعر والأغنية والمقدمة الغنائية التي يرددها الناس كل يوم.. إلا أن يكرس ويلمع تلك القيم الهابطة التي أراد أن يدينها ويشجبها! ... وفي كلمة أخيرة.. حينما ينبري الفن الممتاز، والإبداع الحق، لنقد القيم السلبية في المجتمع.. فليس عليه أن يستخدم لغة الواقع المنحط، ولا يستعمل أساليبه المنحرفة، ولا يلجأ إلي مصطلحاته المتدنية المبتذلة العابرة المؤقتة لكي يفعل ذلك، إذ هو في الحقيقة يؤكد هذه القيم السلبية بهذا الأسلوب.. وإنما عليه أن يقوم بنقده الفني والإبداعي مستخدما لغة أرقي وأسلوبا أنقي، وطرائق فنية وجمالية ترتقي باللحظة شكلا ومضمونا.. فيما هي تنقدها وتعريها بلغة الفن المبدع الراقي، الذي يرتفع بالناس وبوعيهم الإنساني والفني والأخلاقي والشعري والغنائي عن مستوي (الكشري) أو (الملوخية) كما كتب رئيس تحرير جريدة كبري في يوم غابر وأغبر من ذات الأيام!!