لو انك سمعت تلك الكلمات : - يا ابنى فين اللحن ؟ الغناء قليل جدا ! كله طبل ! أنت بدائى خالص ! فإنك لن تنساها أبدا .. كان صديق وصديقته سائرين فى شارع معروف فى أحداث الثورة المصرية وقالتها الفتاة لصديقها الذى كان يحمل طبلا مدويا لا يقف لحظة عن قرعه وهو يغني. لم تغادر كلماتها الساخرة الذهن أبدا إذ أوجزت وببساطة كل مشاكل موسيقى اليوم بالقاهرة ... لقد قالت له أربعة عبارات كل منها عبرة « فين اللحن .. الغناء قليل .. كله طبل .. هذا بدائى « ولم تكن تتصور الفتاة إلى أى حد أصابت كلماتها الحقيقة ! لم تعرف ساعتها إن فى كلماتها تلك تكمن مشكلة التطور الموسيقى الآنى .. مشكلة أغنية اليوم «الإيقاعية» مقارنة بأغنية الأمس «اللحنية» .. أنظر معى إلى كل عبارة من الأربعة : « أين اللحن ؟ « وحقا : أين اللحن فى أغنية اليوم ؟ إنك إن بحثت اليوم عن اللحن الغنائى فلن تجد منه إلا نتفاصص مبعثرة بينما الإيقاع وصوت الطبول هادر ولا يقف لحظة ! أى أن النغم قليل وضربات الإيقاع كثيرة .. وكنا عند أغنية عبد الحليم حافظ « لايق عليك الخال « أو فايزه أحمد « يا تمر حنة « نكاد لا نلحظ الإيقاع وإنما اللحن والنغم .. وعلى الرغم من وجود إيقاع فى الأغنيتين وإيقاع عند حليم وفايزه فى كل أغانيهم! لقد كان اللحن يملئ القلوب وانخفض له صوت الإيقاع إلى المرتبة الثانية .. واليوم .. انقلبت الأوضاع رأسا على عقب ! وبداية نضع أيدينا على حقيقة واحدة خاصة بتقسيم الآلات الموسيقية، فالآلات الموسيقية على نوعين : لحنية كالعود وهى التى تأتى بالألحان وإيقاعية كالطبل وتأتى بالإيقاع. « كله طبل ! « إن للإيقاع بوجه عام وظيفة رئيسية فهو منظم للسير – سير النغم – وموحد للسرعة ضمانا لسير كل أجزاء الأغنية بوتيرة واحدة (تسير دقات الإيقاع بسرعة موحدة فينتظم سير النغم وفقا لها) آما الآن فلا يكتفى الإيقاع بكونه ضابطا للحركة بل أصبح هو الرئيسى والأعلى صوتا !! بل أصبحوا ينسجونه هو أولا ثم يرشقونه هنا وهناك بالنغمات القليلة من الغناء ! حتى إن السامع عاد لا يتذكر من الغناء واللحن شيء بعد انتهاء الأغنية. والذى يلحظ الأغانى السريعة لعلاء عبد الخالق مثلا أو أغانى نانسى عجرم مثل « ماشى حدى « وأى من أغانى الإذاعات – مرئية ومسموعة – بالقاهرة سيلحظ على الفور غلبة وعلو صوت الإيقاع علوا يبعث الضوضاء فى كل ناحية ! لماذا أصبحت كل أغانى اليوم إيقاعية؟ لماذا اقترن الهبوط الموسيقى بارتفاع شأن الإيقاع ؟ لماذا يستطيع الطبل أن يهبط بالنغم وبالموسيقى كلها إذا ما تصدر الأغنية؟ نعم .. نعم هذه الأسئلة غائبة ولم يطرحها أحد من قبل .. ورغم ذلك فإننا سنظل نحوم حولها ونبحث عن إجابة ! ما من شك فى أن الضفيرة الموسيقية فى بلادنا مجدولة من جديلتين: اللحن والإيقاع، وتصدير الإيقاع سيعنى تهميش اللحن .. وسننتظر إلى أن يعود الاتزان يوما ما ! أين يمكننا مشاهدة مثل هذه الظاهرة الموسيقية المقلوبة ؟ عند من غيرنا وقع « تصدير الإيقاع « و « تهميش اللحن « هذا ؟ « فن بدائى « وقع ذلك فى حياة الإنسان البدائى القبلية والعشائرية حيث كان الإيقاع رئيسى (والطبول من ورائه) وحيث كان اللحن قليل النغمات قصير الحجم يجرى وينتهى فى لحظات عابرة وكأنه مجرد صرخات مبعثرة. وظاهرة «تصدر الإيقاع» تلك التى ميزت الحياة القبلية قامت عندهم على تعدد الإيقاع أى على تركيب أكثر من إيقاع يصدحون معا فى وقت واحد ، وعلى أكثر من نوع من الطبول. ولقد قطعت العصور القديمة (حيث الدول العبودية الأولى مثل الفراعنة والإغريق) الخطوة التالية عندما تطورت الآلات اللحنية وسبقت الإيقاعية فنمت الألحان وأمتد زمنها، ثم قطعت العصور الوسطى بداية بفرنسا فى القرن التاسع ميلادى الخطوة الثالثة عندما بدأت الألحان فى النمو أكثر فأكثر بفضل ابتكار فن تعدد الألحان وتركيبها (وليس تعدد الإيقاعات) ما جعل الإيقاعات تتراجع عن الصدارة ويبطل تركيبها. وليست الموسيقى السيمفونية الأوروبية سوى نتيجة لنماء الألحان وتركيبها ووصول ذلك حد التقاطع والاشتباك المكثف لتلك الألحان وتبوء الألحان لذلك مركز الصدارة المطلقة . هكذا مضى التاريخ وكل خطوة فيه تفضى إلى مزيد من تطور النغم ومزيد من إخضاع الإيقاع لخدمة النغم والألحان والذى يجرى فى مصر والبلاد العربية الآن من استنهاض لعنصر الإيقاع وتصدير وتقديم وإعلاء إنما يجرى عكس مجرى التاريخ الطبيعى للحياة الفنية .. ولابد إن يؤدى السير عكس مجرى التاريخ الطبيعى للفن إلى تدهور وتخبط .. والموسيقى لدينا الآن فى تدهور وتخبط ! ماذا نرى فى أغانى اليوم التى تبعثها دور البث من إذاعة وتلفزيون ؟ أنرى موسيقى الإنسان البدائى « الإيقاعية « - وأساسها الإيقاع - تصحو وتنبعث وتسير بيننا من جديد ؟
أين اللحن ؟ أين الغناء ! أكله طبل ! هذا هو الإنسان البدائي