سارعت أمريكا إلى الاعتراف بثورة الضباط الأحرار ضد فساد النخبة القديمة يوم الأربعاء 23 يوليو 1952، واعتبرتها خطوة على طريق الإصلاح الثورى إلا أن سياستها اللاحقة للاعتراف بهذه الثورة الجديدة كشفت حجم التخبط داخل إدارتى الرئيسين الأمريكيين هارى ترومان ودوايت آيزنهاور تجاه مصر ، فى وقت كان العالم يعج فيه بتغييرات سياسية واقتصادية ضخمة . هذا التخبط الواضح عكسه اعتراف دين أتشيسون، رأس الدبلوماسية الأمريكية فى إدارة الرئيس هارى ترومان أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات الذي قال "هناك حالة شعور بعدم الرضا عن كل سياساتنا فى المنطقة"، وهو اعتراف لخص حقيقة السياسات الأمريكية المرتبكة فى الشرق الأوسط على مدار ال 70 عاما الماضية .ولعل هذا الاعتراف يشكل مقدمة للسياسات التى اتبعتها الولاياتالمتحدة تجاه مصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بثورة 23 يوليو وحتى الوقت الحالى. ولعل خروج الولاياتالمتحدة من الحرب العالمية الثانية، وهى تشعر بزهوة الانتصار، وبتربعها على عرش العالم كقوة عظمى لا تخشى سوى من المد الشيوعى، وتستعد لأفول قوة الإمبراطورية البريطانية التى لا تغيب عنها الشمس، ربما يفسر بعض هذ الارتباكات لكنه لا يبررها. ومن خلال امتلاك كل مظاهر القوة، تولد لدى واشنطن اعتقاد راسخ بأنها تملك كل الحق لصنع وهدم الحكومات العربية فى المنطقة. وبدأت أمريكا تضع سياسة خارجية تقوم على تناقض المضامين والرسائل المتضاربة غير الواضحة , وفى هذه الفترة، بدأت أمريكا فى الاتصال بالملك فاروق حيث التقاه الرئيس فرانكلين روزفلت بعد نهاية الحرب، وأكد له دعم الولاياتالمتحدة لحق مصر فى تقرير مصيرها. وبالطبع، فهم المصريون هذا الكلام على أن أمريكا ربما تساعد مصر فى التخلص من الإستعمار البريطانى. لكن المفارقة أن المسئولين الأمريكيين كانوا يستخدمون هذه المصطلحات بمعنى أن الولاياتالمتحدة سوف تحمى مصر من المد الشيوعى داخليا وخارجيا. ولعب عملاء المخابرات المركزية الأمريكية والدبلوماسيون الأمريكيون دورا كبيرا فى تعيينات الوزارات المتسارعة قبل ثورة يوليو . ولعل الدور الذى لعبه ضابط المخابرات كيم روزفلت، حفيد الرئيس الأمريكي، خلال هذه الفترة وفى بدايات ثورة 23 يوليو مازال غامضا ومثيرا للكثير من الجدل. روزفلت الذي وصف الملك فاروق بأنه "وغد سمين" وأن حكمه كان فاسدا، كان يرى أن الملك فاروق عزل نفسه عن الأحزاب والقوي السياسية فى مصر التى كانت تطالب بإلغاء معاهدة 1936 وانسحاب القوات البريطانية من البلاد، إلا أن هذه التدخلات الأمريكية قوبلت بنوع من عدم الارتياح فى أوساط الجيش المصرى. والثابت تاريخيا أن ثورة الضباط الأحرار فاجأت البريطانيين أنفسهم. وإنه بمجرد قيام الثورة، احتمى الملك فاروق بالسفارة الأمريكية حتى لحظة خروجه من مصر إلى المنفى. وكانت أهداف السياسة الخارجية تجاه مصر خلال الخمسينيات تتمثل فى تأمين احتياجات الغرب من البترول، وإنهاء حكم الاستعمار البريطاني فى المنطقة مع الحق فى تقرير المصير الذى جاء فى ميثاق الأطلنطى، واحتواء المد الشيوعي وخاصة نفوذ الاتحاد السوفييتى، ودعم استقلال إسرائيل دون إستعداء الدول العربية. وبالرغم من كل هذه الأهداف المتضاربة، اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية مصر "الحليف الرئيسي" و"جوهرة التاج" بين الدول العربية. وهكذا تحكمت فى السياسة الخارجية الأمريكية "عقيدة" الرئيس الأمريكى ترومان التى تعهدت بإحتواء الشيوعية فى أوروبا، وفى كل مكان، بالإضافة إلى التعهد بتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية لكل دولة يهدد استقرارها انتشار الفكر الشيوعى أو الاتحاد السوفييتى. وبعد أن خرج الجيش من ثكناته ليلة 23 يوليو ليعرب عن غضبه ورفضه للفساد، ونهاية عصر وبداية جديدة فى تاريخ مصر، كان رد فعل إدارة ترومان أن اعتبرت أن الثورة من صميم شئون مصر الداخلية مثلما طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى خطابه إلى السفير الأمريكى جيفرسون كافيري فى القاهرة منذ اليوم الأول. لكن العلاقات بين أمريكا ومصر لم تسر على خط مستقيم لعدة اعتبارات تتعلق بالأساس بالتدخلات البريطانية. ورفضت إدارة ترومان تقديم المساعدات العسكرية التى طلبها عبد الناصر بحجة أن مصر وأمريكا وقعتا اتفاقا سريا مع حكومة فاروق بعد حريق القاهرة يقضى بتقديم مساعدات أمريكية بقيمة خمسة ملايين دولار. بالإضافة إلى أن البيت الأبيض كان على موعد مع الرئيس الجديد دوايت آيزنهاور الذى رفض بيع أسلحة إلى مصر بعد أن طالبه ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطانى بعدم تسليم أسلحة لمصر تستخدم فى قتل الجنود البريطانيين. وبعد حرب 1956، وضع آيزنهاور "مبدأه" أو "عقيدته" التى لا تختلف كثيرا عن "عقيدة ترومان" التى تؤكد أن دولة ما فى الشرق الأوسط يمكنها طلب المساعدة الاقتصادية أو مساعدة من الجيش الأمريكى فى حالة شعورها بتهديدات من قبل دولة أخرى. وهكذا خرجت مصر من مرحلة ما قبل الثورة التى كان الاستعمار البريطاني يستخدم فيها سياسة "فرق تسد" إلى مرحلة تتحكم فيها العقائد الأمريكية التى تحمل نوعا من الهوس بالمد الشيوعى والاتحاد السوفييتي ومحاولات تقسيم مناطق النفوذ فى العالم. وتكشف السياسات الأمريكية التى تم إتباعها خلال الفترة السابقة واللاحقة لثورة يوليو 1923، أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تقرأ التاريخ، وتواصل سياستها المرتبكة تجاه مصر، وهو ما تكشف أيضا فى تعاملها مع ثورة 30 يونيو.