الأهرام: 6/7/2008 لسنا في حاجة إلي التأكيد علي أهمية المعلومات في العصر الحديث, فثورة المعلومات والاتصالات جعلت من العالم ولأول مرة في التاريخ قرية كونية, ولكن المعلومات ليست فقط اداة للتواصل بين البشرفيما بينهم, فهي أيضا سلاح عسكري وقوة اقتصادية, وقد ادرك الساسة والعسكريون أهمية المعلومات منذ زمن طويل, فالانتصار في المعارك لم يكن أبدا وليد قوة السلاح وشجاعة المحاربين وحدهما, بل كثيرا ماتوقف علي ما توافر للقادة من معلومات عن العدو, ولم يكن رجال الحكم أقل تقديرا لأهمية المعلومات والاستخبارات باعتبارها أمورا لازمة لتحقيق الأمن والاستقرار للحكم, ولكن الجديد هو أن المعلومات أصبحت في الاقتصاد المعاصر قوة اقتصادية أيضا, فكلما كان الاقتصاد مفتوحا تتدفق فيه المعلومات الصحيحة وتتداول, كان الاقتصاد أكثر قدرة علي التطور والتقدم, ومن هنا أصبحت الشفافية أحد أهم مظاهر التقدم الاقتصادي. تختلف نظرة الاقتصادي إلي المعلومات عن نظرة الجنرال أو القائد, فرغم أن المعلومات قوة عند الجميع فإنها لدي الاقتصاد قوة أو ثروة يزداد دورها أو تأثيرها بانتشارها بحيث يصبح الجميع أكثر علما ومعرفة, وبالتالي أكثر قوة وثراء, وبالمقابل فإن المعلومات عند القائد العسكري هي سلاح وبالتالي لاينبغي التفريط فيه لمصلحة العدو الذي قد يستخدمه ضده, وليست نظرة أحد هذين الطرفين صحيحة والأخري خاطئة, ولكن الخطأ هو أن تسود إحدي النظرتين بشكل مطلق علي حساب الأخري, فمجتمع قائم علي السرية والأسرار مجتمع غير صحي تنتشر فيه الشائعات والأكاذيب, ويفتقد إلي الثقة والإبداع, وعلي العكس فمن المستحيل ان ينجح مجتمع إذا كانت كل مشروعاته أو نياته كتابا مفتوحا في عالم لايخلو من الأشرار والمتربصين, ومن هنا ضرورة التوازن بإتاحة أكبر الفرص أمام المجتمع المفتوح مع الاعتراف بالحاجة إلي نوع من السرية حماية لما يمثل المصالح العليا المعرضة للخطر. وفي كتاب حديث بعنوان تركة من الرماد, تناول أحد محرري صحيفة نيويورك تايمز تيم وينير تاريخ وكالة المخابرات الأمريكيةCIA بالسرد والتحليل, وحصل كتابه علي جائزة أفضل الكتب في أمريكا, وعنوان الكتاب مأخوذ من عبارة أطلقها الرئيس إيزنهاور عند تركه البيت الأبيض بعد فترتين في سدة الحكم في أقوي دولة معاصرة, حيث قال: اخشي بعد ثماني سنوات في الحكم أن تكون تركتي مجرد رماد, وهكذا اراد مؤلف الكتاب أن يقول إن تركة وكالة المخابرات المركزية, وبعد أكثر من ستين عاما علي إنشائها, قد لاتكون أكثر من رماد, فالحصيلة النهائية لقراءة الكتاب أكثر من ستمائة صفحة هي أن وكالة المخابرات المركزية كانت أكثر فشلا مما يبدو علي السطح وإن إنجازاتها الحقيقية محدودة, وهو يري أيضا أن هذه الحصيلة كانت مكلفة وغير فعالة وكثيرا ما أدت بالسياسة الأمريكية إلي فشل وراء فشل, في آسيا, وفي إفريقيا, وفي أمريكا اللاتينية, بل إن انهيار الاتحاد السوفيتي جاء مفاجئا للوكالة ولأسباب لم تدر بخلدها, ووفقا لرواية المؤلف, فلعله الرئيس كارتر الذي كان أكثر الرؤساء الأمريكيين نفورا من الأساليب السرية والأكثر التزاما بالمعايير الأخل اقية في العمل الدولي هو الأكثر فاعلية في إحداث الشرخ في الاتحاد السوفيتي, فالكاتب يري أن الدعوة لاحترام حقوق الإنسان وتوقيع معاهدة هلسنكي1975, دعمت شوكة المعارضين في نظام الاتحاد السوفيتي ونزعت بالتالي الشرعية عن نظم الحكم الشمولية. بدأ التفكير في إنشاء وكالة المخابرات المركزية مع بداية ظهور بوادر الحرب الباردة, وكانت وفاة روزفيلت في أبريل1945, وتولي هاري ترومان الرئاسة, إيذانا بظهور مشكلة في الرئاسة الأمريكية, فقد كان ترومان نائب الرئيس آنذاك علي جهل كامل بتحضيرات أمريكا للقنبلة الذرية, وكان بعيدا تماما عن السياسة الخارجية, ومن ثم فقد وجب الإسراع بتوعية الرئيس الجديد بتعقيدات الموقف العسكري والدولي, وكان في حاجة بالتالي إلي نوع من الجريدة اليومية, التي تقدم له الاخبار المهمة في العالم, وهو لم يكن يتوقع أكثر من ذلك, وفي الوقت نفسه, كان هناك عدد من المحللين الاستراتيجيين في وزارة الخارجية علي رأسهم جورج كينان الذين يفكرون في مستقبل العلاقات الدولية بعد إزالة الخطر النازي, وكان كينان يعمل بالسفارة الأمريكية في موسكو, وقد تنبه إلي خطر ستالين وتطلعاته للتوسع الشيوعي, فأرسل تقريرا إلي وزارة الخارجية في تلغراف عرف بالتلغراف الطويل, يشرح فيه هذا الخطر, ويضع تصورا للمستقبل, أوضح فيه استراتيجية الاحتواء للاتحاد السوفيتي, والتي أصبحت العقيدة السياسية للولايات المتحدة للخمسين سنة التالية وتقوم هذه الاسترا تيجية علي عدم محاربة الاتحاد السوفيتي كما اقترح ونستون تشرشل آنذاك وإنما احتواؤه وعدم السماح له بالتوسع خارج الحدود واستكمل كينان هذه الاستراتيجية بعنصرين مكملين: أحدهما إعادة تعمير أوروبا لتقف في وجه التوسع السوفيتي, والثاني وضع نظام للمخابرات لتقويض أركان النظام السوفيتي, وقد ترتب علي الأمرالأول إطلاق مشروع مارشال, كما ولدت وكالة المخابرات المركزية, عن الأمر الثاني, وقد اختلفت الرؤي حول الدور المطلوب لهذه الوكالة, فهي جهاز لتجميع المعلومات وفقا لريشارد هلمز الذي أصبح مديرا للوكالة بعد ذلك, في حين رأي فرانك وزنر والد السفير الأمريكي في مصر في الثمانينيات أن يصبح الجهاز اداة للعمل السري والتخريبي. وصدر أول قانون للوكالة في1949 واعطاها صلاحيات واسعة مع تحريم قيامها بالتجسس علي المواطنين أو رقابتهم, فليس للوكالة أي دور في الأمن الداخلي, ومع ذلك فقد مارست الوكالة بناء علي تكليف من كيندي القيام بأعمال التجسس علي المواطنين الأمريكيين, وانتقل هذا التقليد المخالف لقانون إنشاء الوكالة إلي خلفائه جونسون ونيكسون وأخيرا جورج بوش. ويعدد الكتاب ممارسات الوكالة, وأغلبها باء بالفشل وإن حققت عددا محدودا من الانتصارات ومن أهم النجاحات التي حققتها الوكالة, الانقلاب علي حكومة مصدق في إيران وعودة الشاه إلي الحكم, وبذلك أكدت الولاياتالمتحدة وجودها في هذه المنطقة الغنية بالنفط, ومع ذلك فإذا نظرنا من خلال منظور تاريخي اوسع, إلي علاقة أمريكا بإيران, فان مانراه اليوم من تعاظم شقة الخلاف بينهما قد لايكون أكثر من إحدي نتائج تدخل الوكالة في إيران في بداية الخمسينيات والتي غرست البذرة التي أثمرت الثورة الإسلامية بها فيما بعد, لقد كان نجاحا مؤقتا حمل معه جنينا للفشل بعد ربع قرن. هذا عن أهم الانتصارات, وأما أشكال الفشل التي وقعت فيها الوكالة فانها لاتكاد تحصر, ويكفي أن نسرد بعض الأمثلة, بعد نهاية الحرب مباشرة بدأت وكالة المخابرات في محاولة زعزعة نظم الحكم في دول المعسكر الاشتراكي, فانزلت عددا من المرتزقة في أوكرانيا1948, وفي ألبانيا1949, حيث تم القضاء عليهم بالكامل من قبل القوات السوفيتية, واستخدمت الوكالة نفس الأسلوب بإسقاط عدد من الكوريين والصينيين وراء الخطوط في كوريا الشمالية وفي الصين, وتم القضاء عليهم بالكامل أيضا, وعندما بدأت الحرب الكورية أكدت الوكالة للرئيس الأمريكي1951, أنه لاتوجد لدي الصين أي نية لدخول الحرب, وذلك قبل اندفاع القوات الصينية إلي كوريا بأسابيع, وفي أكتوبر1956 أبلغ آلن دلاس مدير الوكالة أيزنهاور أن التقارير عن عدوان إسرائيلي بريطاني فرنسي هي مجرد اخبار سخيفة لا أساس لها وعندما ألقي خروشوف خطابه الشهير أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الذي ادان فيه حكم ستالين, لم تتمكن الوكالة من الحصول علي نص الخطاب, حتي سربت المخابرات الإسرائيلية نسخة من الخطاب إليها, وبعد أن نجح كاسترو في الاستيلاء علي الحكم في كوبا, أبلغت الوكالة الإدارة الأمريكية أن القضاء علي كاسترو مسألة أسابيع, وعندما فشلت محاولة خلية الخنازير, كلف روبرت كيندي الوكالة بمحاولة قتل كاسترو, ولم يتحقق ذلك, بل قتل الرئيس كيندي نفسه, وصرح جونسون خليفة كيندي بأن هذا الأخير اراد القضاء علي كاسترو لكن كاسترو كان اسرع منه, وكذلك فوجئت الوكالة بالقنبلة الذرية في الهند ثم في باكستان, وفي الستينيات ساعدت الوكالة حزب البعث العراقي علي الوصول إلي الحكم, وأعلن علي صالح السعدي رجل الحزب القوي أن البعث قد جاء إلي الحكم علي قطار أمريكي, وكان صدام حسين هو أحد المستقلين لهذا القطار وليصبح بعد ذلك أكبر أعداء أمريكا, وبالمثل فان أسامة بن لادن لم يكن بعيدا عن التعامل مع هذه الوكالة, وليس مستغربا في ضوء ماتقدم ما أكدته الوكالة بأن العراق يملك يقينا أسلحة دمار شامل, فجاء الغزو علي العراق فاضحا كذب الوكالة أو جهلها.. وتتعدد الأمثلة. هذا هو سجل جهاز المخابرات في اغني دولة في العالم, فكيف بالوضع في الدول الأخري, قد تكون أعمال المخابرات والعمل السري مطلوبة ولكنها كالطلاق أبغض الحلال, ولذلك فلا أقل من أن توضع تحت رقابة ومساءلة كاملة لقد بدأت الولاياتالمتحدة في تشديد المسألة علي المخابرات بزيادة دور الكونجرس في الرقابة والاشراف عليها, فعدم المساءلة قد يغري بالانحراف, وهو يؤدي في أحسن الأحوال إلي الترهل والخمول.