تطور جديد بشأن حماية المسنين والقومي لحقوق الإنسان يعلق    خطيب الجمعة الأخيرة من شوال: يكفي الأمين شرفًا أن شهد له الرسول بكمال الإيمان    تراجع ملحوظ في أسعار السلع الغذائية بالأسواق اليوم    وزير التنمية المحلية: بدء تلقي طلبات التصالح على مخالفات البناء 7 مايو    المجتمعات العمرانية: تكثيف العمل للانتهاء من تطوير المنطقة الصناعية بالعاشر من رمضان    توريد 107 آلاف و849 طن قمح لصوامع وشون كفر الشيخ    نائب وزيرة التخطيط يفتتح أعمال الدورة الثالثة للجنة تمويل التنمية في الدول الأعضاء بالإسكوا    استلام 90 ألف طن قمح من المزارعين في المنيا    الشرطة الفرنسية تقتحم جامعة سيانس بو في باريس لتفريق داعمي فلسطين    تركيا: تعليق التجارة مع الاحتلال حتى وقف إطلاق نار دائم في غزة    نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين: 140 صحفيا فلسطينيا استشهدوا منذ 7 أكتوبر    كلوب يفتح النار قبل رحيله: بإمكان الناس البقاء على قيد الحياة بدون مباريات من وقت لآخر    علام يكشف الخطوة المقبلة في أزمة الشحات والشيبي.. موقف شرط فيتوريا الجزائي وهل يترشح للانتخابات مجددا؟    ضبط سيدة في بني سويف بتهمة النصب على مواطنين    تحرير 2582 محضراً في حملات تفتيشية ورقابية على الأنشطة التجارية بالشرقية    3.8 مليون جنيه إيرادات 4 أفلام بالسينما في يوم واحد    اليوم.. الإعلامي جابر القرموطي يقدم حلقة خاصة من معرض أبوظبي للكتاب على cbc    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    أحمد السقا: التاريخ والدين مينفعش نهزر فيهم    التضامن تكرم إياد نصار عن مسلسل صلة رحم    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    هيئة الدواء تكشف طرق علاج قصور القلب، وهذه أهم أسبابه    المطران شامي يترأس خدمة الآلام الخلاصية ورتبة الصلب وقراءة الأناجيل الاثنى عشر بالإسكندرية    الوزراء: 2679 شكوى من التلاعب في وزن الخبز وتفعيل 3129 كارت تكافل وكرامة    وزير الرياضة يطلق شارة بدء ماراثون دهب بجنوب سيناء    برشلونة يستهدف التعاقد مع الجوهرة الإفريقية    صحف إيطاليا تبرز قتل ذئاب روما على يد ليفركوزن    زيادة جديدة ب عيار 21 الآن.. ارتفاع سعر الذهب اليوم الجمعة 3-5-2024 في مصر    أسعار الأسماك اليوم الجمعة 3-5-2024 في الدقهلية    "مضوني وسرقوا العربية".. تفاصيل اختطاف شاب في القاهرة    ضبط 101 مخالفة تموينية في حملة على المخابز ببني سويف    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا وإصابة 6 أشخاص    البابا تواضروس يترأس صلاة الجمعة العظيمة    مصر أكتوبر: اتحاد القبائل العربية يعمل على تعزيز أمن واستقرار سيناء    خطوات التقديم على 3408 فرص عمل جديدة في 55 شركة    رئيس البرلمان العربي: الصحافة لعبت دورا مهما في كشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    مدير مكتبة الإسكندرية: العالم يعيش أزمة أخلاق والدليل أحداث غزة (صور)    الليلة.. تامر حسني يحيي حفلا غنائيا بالعين السخنة    قصور الثقافة: إقبال كبير على فيلم السرب في سينما الشعب.. ونشكر «المتحدة»    البنتاجون: نراقب الروس الموجودين في قاعدة يتواجد فيها الجيش الأمريكي في النيجر    «اللهم احفظنا من عذاب القبر وحلول الفقر وتقلُّب الدهر».. دعاء يوم الجمعة لطلب الرزق وفك الكرب    «أمانة العامل والصانع وإتقانهما».. تعرف على نص خطبة الجمعة اليوم    أيمن سلامة ل«الشاهد»: مرافعة مصر أمام العدل الدولية دحضت كافة الأكاذيب الإسرائيلية    لإنقاذ حياة المرضى والمصابين.. أمن بورسعيد ينظم حملة للتبرع بالدم    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    عبد المنصف: "نجاح خالد بيبو جزء منه بسبب مباراة ال6-1"    محظورات امتحانات نهاية العام لطلاب الأول والثاني الثانوي    السنوار يعارض منح إسرائيل الحق في منع المعتقلين الفلسطنيين من العيش بالضفة    هل مسموح للأطفال تناول الرنجة والفسيخ؟ استشاري تغذية علاجية تجيب    حكم لبس النقاب للمرأة المحرمة.. دار الإفتاء تجيب    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر كما تريدها أمريكا (1)
نشر في الشعب يوم 19 - 03 - 2014

فاروق اشتكى بمرارة إلى السفير الأمريكى بالقاهرة رفض واشنطن بيع أسلحة لمصر
بعد سفر السادات إلى القدس وعقده سلامًا منفردًا مع إسرائيل تدفقت الأسلحة إلى مصر
موسكو أيدت مطالب القاهرة بجلاء البريطانيين عن القاعدة العسكرية والاعتراف بالسودان جزءًا من مصر
بعد الثورة كان الوضع فى مصر أسوأ من العرب بسبب الضغط السكانى وقلة مساحة الأراضى الزراعية
فى ربيع عام 1947، ومع الإعلان عن «مبدأ ترومان» (الذى دعا إلى دعم شعوب العالم الحرة ضد الأنظمة الاستبدادية) بالعناوين الرئيسية للصحف، اقترب النزاع الأنجلو-مصرى حول استمرار احتلال بريطانيا للسويس من نقطة الاشتعال.
استدعى إرنست بفين وزير الخارجية البريطانى، لويس دوجلاس السفير الأمريكى؛ ليحذره من أية محاولة أمريكية للتوسط فى الأزمة. كانت بريطانيا قد عرضت سحب جميع قواتها بحلول سبتمبر 1949، لكن من الواضح أن هذا لم يرض المصريين الذين كانوا يسعون إلى إحالة النزاع إلى الأمم المتحدة؛ الأمر الذى لم يلق ترحيبا من لندن أو واشنطن، مقابل ما قوبل به لجوء الإيرانيين إلى مجلس الأمن قبل ذلك بعام واحد للفصل فى مسألة وجود القوات السوفييتية بإيران الذى قوبل بتهليل أنجلو-أمريكى.
وعلى حين أن بيفن كان على استعداد للتفاوض حول تعديل معاهدة 1936، رفض تدخل الأمم المتحدة أو أية دولة لإجبار حكومته «على نقض بنود معاهدة عُقدت بناء على رضا الطرفين».
وعلى الرغم من أن أحدا فى واشنطن لم يكن يرغب فى إجبار لندن على قبول الوساطة، فإن الإدارة لم تكن تتوقع أن تتنحى جانبا لتراقب البريطانيين وهم يخاطرون بخسارة كل شىء، ورأت أن أفضل ما يمكن فعله على المدى القصير هو دعم رغبة بريطانيا فى الحصول على حق العودة إلى المنطقة لدى حدوث أى طارئ بالسويس، وأيضا دعم مصالحها بإقامة قواعد عسكرية أخرى لها فى ليبيا؛ وذلك لتخفيف الضغوط عن محادثات تعديل المعاهدة.
لكن الأمور تحسنت فى عام1948؛ حينما اقترح البريطانيون إجراء محادثات بين الأركان الأنجلو-مصرية حول الدفاع العسكرى عن قناة السويس. واستجاب المصريون باقتراحات فحواها أنهم لن يعارضوا إقامة قواعد عسكرية بريطانية فى ليبيا أو فى السودان. وعلى الرغم من انهيار تلك المحادثات فإنه بدا أن ثمة مؤشرا على وجود أسلوب للاستجابة لطلبات المصريين للسلاح بإدماجها فى ترتيب سياسى لا تعارضه إسرائيل وأصدقاؤها بالكونجرس الذين كانوا قد أصبحوا يشكلون قوة ناجحة ومتنامية تؤثر فى السياسة الداخلية الأمريكية.
فى اليوم السابق لاعتراف الولايات المتحدة بالحكومة المؤقتة لإسرائيل فى 14 مايو 1948، أرسل السفير تاك تقريرا من القاهرة يقول فيه إن مصر كانت تحاول «بجهد وتصميم» الحصول على أسلحة «من أى مصدر متاح بما فى هذا تشيكوسلوفاكيا».
والآن، غدا لدى صناع السياسة الأمريكية مصادر كثيرة للقلق، بما فى هذا الخوف من إمكان أن يتيح الخلاف الأنجلو-مصرى حول السويس ومستقبل السودان، الفرصة للسوفييت أن يدقوا إسفينا بالأمم المتحدة بين الغرب وبلدان الشرق الأوسط؛ وذلك لأن موسكو كانت تؤيد مطالب القاهرة بجلاء البريطانيين عن القاعدة العسكرية، والاعتراف بالسودان جزءا من مصر.
اشتكى فاروق بمرارة إلى جيفرسون كافرى السفير الأمريكى الجديد بالقاهرة من أن واشنطون بسياستها فى فلسطين ورفضها بيع أسلحة لمصر، تجعل من المستحيل إقامة علاقات طيبة بين البلدين قال فاروق: «لقد رفضتم كل شىء طلبناه».
استبقت شكاوى فاروق ومثيلاتها من جانب القادة المصريين على مدى السنين، ولم تكد تختلف عنها، حتى سافر أنور السادات إلى القدس، وعقد سلاما منفردا مع إسرائيل؛ عندئذ تدفقت الأسلحة إلى مصر فى سيل مطرد، فيما أصبحت مصر قوة استقرار للسياسة الأمريكية بالمنطقة، وأعفت بهذا واشنطن من جزء من عبئها بصفتها الراعى الأصلى لإسرائيل وداعمتها الأكثر إخلاصا على مر السنين، لكن كان ثمة أمر آخر فشل فيه فاروق ولم يتغلب عليه من خلفوه: كان روزفلت قد حذر فاروق من أن عليه اتخاذ الخطوات لتحسين أحوال الفلاحين الأجراء، لكن وفيما كان كبرياء مصر القومى على المحك أثناء قضيتى السويس وفلسطين، أثبتت المشكلة الاقتصادية أنها الأكثر إزعاجا وصعوبة للقادة بالقاهرة.
فى عام 1949، حذر أحد الدبلوماسيين الأمريكيين فى تقرير له عن حديث جرى بينه وبين نظيره البريطانى؛ واشنطن من ثمة شعورا فى لندن عن قرب حدوث ثورة وشيكة فى مصر، وأنه يمكن وقفها بتدخل مستنير من فاروق، لكن يبدو أن هناك الملك الشاب يشارك ملاك أراضى الرجعيين وجهات نظرهم ومصالحهم الخاصة.
كان الوضع فى مصر أسوأ من باقى البلدان العربية؛ وذلك بسبب الضغط السكانى وقلة مساحة الأراضى الزراعية.
جاء بتقرير الدبلوماسى الأمريكى أن «المسئول البريطانى لم يكن يعرف المدة التى يمكن للمعدمين الصبورين الاستمرار فى تحمل عبء الموسرين غير المستنيرين، لكنه تصور أن الثورة ستندلع قبل وقت ليس بالطويل».
أضاف الدبلوماسى أنه يعتقد أنه فاروق سيكون أول المغادرين وقدماه فى المقدمة بعد أن يقتله الثوار. بيد أنه حينما قامت ثورة عام1925، قام الجيش بمصاحبته حتى اعتلى متن السفينة التى أقلته إلى الخارج مكرما مع أداء التحية العسكرية له. وفيما عدا ذلك، فقد تحققت نبوءات الدبلوماسى، بما فى هذا رأيه بأنه لن يحدث تغيير كبير بالنسبة لمعظم المصريين، ثم أضاف قائلا إنه بدلا من ذلك ستظهر أهداف سياسية من «الرجال الذين سيستولون على الثورة ويحولونها لخدمة مصالحهم الخاصة».
كان التحدى بالنسبة لصناع السياسة الأمريكيين هو أن يتأكد لهم أن تلك «الأهداف» ستتلاقى مع غايات واشنطون.

فلسطين وإسرائيل

فى حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1944، قدم الحزبان فى مؤتمريها القوميين تشجيعا للحركة الصهيونية. وعلى خليفة الضغوط المتصاعدة بالكونجرس للالتزام بفكرة «وطن قومى» لليهود بفلسطين، أطلقت وزارة الخارجية إشارات تحذيرية حول ردود الفعل السعودية المتوقعة. جاء بمذكرة لوزارة الخارجية قبيل انعقاد مؤتمر يالطا، أن الملك مسلم أولا وعربى ثانيا، ويعتبر نفسه إمام المسلمين، ويضطلع بالدفاع عن حقوقهم، ومن ثم كانت معارضته للصهيونية، «أى أن أى تغيير فى موقفه قد يؤدى إلى فقدانه احترام المسلمين عامة، بل احتمال الإطاحة بحكم سلالته».
فى مذكرة له وجهها إلى روزفلت أضاف إدوارد آر. ستيتنيوس الابن وزير الخارجية الأمريكية الذى خلف كوردال هال عام 1944، أضاف قائلا: «إنه لا يمكن استمالة الملك إلى الجانب الآخر. لقد صرح ابن سعود بأنه يعتبر نفسه نصيرا لعرب فلسطين، وأنه سيشعر بالفخر لو أنه مات فى المعركة دفاعا عن قضيته. وهذا تصريح على قدر كبير من الأهمية».
لكن الملك حينما التقى روزفلت على متن البارجة QUINCY بعد يوم واحد من زيارة فاروق، رأى روزفلت رجلا من غير المحتمل له أن يقاتل أى أحد فى الميدان، أو على الأقل أن يخوض القتال شخصيا. أتاحت حالة التعويق الجسمى التى كان ابن سعود يعانى منها الفرصة للرئيس للشكوى من مشكلاتهما فى الحركة، وعرض أن يرسل إليه أحد المقاعد المتحركة المصممة خصيصا له، لكن لم يجد عرضه، أو تعاطفه فى جعل ابن سعود يغير موقفه قيد أنملة. قال روزفلت إن هؤلاء اليهود قد طردوا من أوطانهم، وإن على العالم التزاما إنسانيا تجاه هؤلاء اللاجئين. أجاب ابن سعود بأنه مع احتمال صحة هذه المزاعم، فمن الواجب منحهم أراضى فى دول المحور لا أراضى تملكها الشعوب العربية.
لجأ روزفلت إلى أطروحات عديدة محاولا إقناع ابن سعود، لكن دونما جدوى، ولم يجد بدا سوى اللجوء إلى تكتيك التسويف القديم. وفى مذكرة عن محادثاتهما وافق عليها الطرفان، قدم روزفلت الصيغة المعيارية المتعارف عليها؛ وعد الملك أنه لن يفعل شيئا لمساعدة اليهود ضد العرب، ولن يتخذ أية خطوات معادية للشعب العربى، وبعد أن شعر بالرضا لهذا الوعد، شكر الملك روزفلت، وأشار إلى أنه يفكر فى إرسال وفد عربى إلى الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى لشرح قضية العرب وفلسطين. لم يطلع روزفلت أحدا على رأيه فى هذا الاقتراح، واكتفى بالقول إنها ستكون فكرة جيدة جدا.
وبمجرد عودة روزفلت إلى البيت الأبيض بعد مؤتمر يالطا، وجد الحاخام ستيفن إس. وايز رئيس مجلس الطوارئ الصهيونى الأمريكى بانتظاره. وبعد اجتماع مع الرئيس استغرق خمسا وأربعين دقيقة، خرج الحاخام بإعلان مهم أدلى به إلى المراسلين الصحفيين الذين كانوا منتظرين؛ قال إن الرئيس أكد له أنه لم يغير موقفه حول الهجرة غير المقيدة إلى كومنولث ديمقراطى حر لليهود فى فلسطين، ثم تلا وايز بيانا كان روزفلت قد وافق عليه: «لقد أوضحت موقفى حول الصهيونية، ولم أغيره، وسأواصل السعى لتحقيقه فى أقرب وقت ممكن».
والآن، غدا القادة العرب فى موقف يريدون فيه معرفة توجه السياسة الأمريكية. أما روزفلت فقد أبقى على موقف ملتبس بأسلوب مدروس حتى ساعة وفاته. وفى اليوم الذى أصابته فيه النوبة المميتة فى وورم سبرينج جورجيا، فى 12 إبريل عام 1945، وقع الرئيس خطابا إلى ولى عهد العراق يؤكد له فيه أنه «لن يتم التوصل إلى قرار يؤثر فى الوضع الأساسى بفلسطين من دون إجراء استشارات كاملة مع العرب واليهود». بيد أن القراءة المتمعنة لتفاصيل لقائه مع ابن سعود ولهذا الخطاب، تبين ميلا نحو الموقف الصهيونى.
وكما كان الأمر بخصوص قضايا كثيرة أخرى، فقد تُرك لهارى إس ترومان، خليفة روزفلت، مهمة التعاطى مع معضلة إرضاء الطرفين، وكان هذا أمرا يفوق قدرته وقدرة البيت الأبيض معا.
بعد وفاة روزفلت بأقل من أسبوع، حذر ستيتنيوس وزير الخارجية، الرئيس الجديد من الخطر الذى تمثله القضية الفلسطينية، ومن مغبة وجود إشارات لخضوع الولايات المتحدة للضغوط الصهيونية: «ثمة توتر مستمر فى الوضع بالشرق الأوسط، ناجم إلى حد كبير عن القضية الفلسطينية. وبما أن مصالحنا فى تلك المنطقة حيوية، فإننا نشعر أنه ينبغى التعاطى مع هذا الموضوع برمته بمنتهى الحرص، مع الأخذ فى الاعتبار مصالح هذا البلد طويلة المدى فى المنطقة».
كان ترومان قد علم لتوه أن العلماء الأمريكيين يعملون على سلاح سيؤدى إلى إثارة الحروب ويدفع بالولايات المتحدة إلى وضع الهيمنة وسط موجة من قضايا ما بعد الحرب التى كانت على وشك اجتياح العالم. لم يستطع أن يتبين هو وغيره كيف سيساعده امتلاك هذا السلاح فى التعاطى مع مشكلة فلسطين التى أخبره مستشاروه أنها تهدد المصالح الأمريكية فى المناطق المنتجة للبترول، كما تهدد مستقبل السلام فى الشرق الأوسط والعالم.
فى 17 أغسطس 1945،لم يكن قد مر أسبوع على إلقاء الولايات المتحدة القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكى، التقى محمود فوزى رئيس ممثلى مصر بواشنطون مع لوى هندرسون مكتب الشرق الأدنى بوزارة الخارجية. ومثل غيره من الدبلوماسيين العرب، ألح فوزى فى طلب معلومات حول القضية الفلسطينية، وتحديد أكثر لما كان روزفلت يعنيه بتأكيداته حول استشارة العرب واليهود بالنسبة لمصير فلسطين، وبخاصة فى ضوء تعليقات ترومان اللافتة بمؤتمره الصحفى فى اليوم السابق.
جاء التعليق بعد سؤال أحد المراسلين الصحفيين عما إن كان قد تم نقاش إقامة دولة قومية لليهود أثناء مؤتمر بوتسدام مع ستالين وتشرشل. أجاب ترومان بأسلوب سرعان ما أصبح توجها واثقا شائكا باستخدام تعميم عن عدم الحاجة لاستشارة الاتحاد السوفييتى حتى حول مثل تلك المشكلة التى كان يحتمل أن يكون لها أكبر الأثر فى العلاقات مع موسكو وأيضا مع الدول العربية؛ قال إنه قد ناقش المسألة مع تشرشل، وإنه ما زال يناقشها مع كلمنت أتلى رئيس الوزراء البريطانى الجديد، لكن حينما ألح عليه المراسل حول ما إن كان النقاش قد شمل ستالين، أجاب ترومان بالنفى قائلا إنه «ليس ثمة ما يمكن أن يفعله ستالين إزاءها»، وأضاف: «نريد إدخال أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين»، لكن بالطبع فلا بد من التوصل إلى هذا بالأساليب الدبلوماسية بين العرب والبريطانيين على أسس سلمية «لأننا ليس لدينا رغبة فى إرسال نصف مليون جندى أمريكى للحفاظ على السلام فى فلسطين».
كان لتجاهل ترومان مساعدة ستالين فى حل المشكلة، علاقة أيضا بالجدل المنبثق مع البريطانيين حول كيفية إنهاء انتدابهم على فلسطين؛ حيث كانت لندن فى وضع مشرف يواجه مشكلات معقدة فى منطقة سرعان ما شهدت «حربا أهلية»، فيما انتشرت المصادمات بين الفلسطينيين والقادمين الجدد من اليهود.
أخبر فوزى هندرسون أن مصر كانت حريصة جدا على أن يكون لها علاقات ودية وثيقة مع الولايات المتحدة، لكن القاهرة عليها التزام «بتحمل مسئوليتها فى المساعدة على حفظ السلام فى الشرق الأوسط الأدنى»، وأضاف قائلا إنه من أجل أن تنجح القاهرة فى مهمتها، فعليها أن تكسب ثقة البلاد العربية، ومن ثم فهو يأمل أن تتفهم واشنطون «وضع مصر الحساس». مما لاشك فيه، أنه كان ثمة مشاعر حول فلسطين فى العالم العربى تحت ما بدا كأنه سطح هادئ أو كما عبر هندرسون فإن «أى تحرك فجائى للقوى العظمى معاد للمصالح العربية فى فلسطين، قد يحرك الأمور فى العالم العربى وتنجم عنه أعمال عنف على مدى واسع».
وعد هندرسون أن يطلع مسئولى وزارة الخارجية على آراء فوزى، لكنه لم يكن فى حاجة إلى تحذير فوزى، أو أى مسئول عربى آخر ليقتنع أن ترومان كان يندفع فى طريق شديد الخطورة. وبعد شهر، زلزلت القاهرة والعواصم العربية الأخرى أنباء إلحاح ترومان على أتلى للسماح بدخول مائة ألف مهاجر يهودى آخرين من معسكرات أوروبا إلى فلسطين فى أسرع وقت ممكن. تأكد هندرسون من أن يخبر دين أتشسون القائم بأعمال وزير الخارجية بمغبات ذلك، واستشهد بسؤال وجهه أحد الدبلوماسيين إلى واشنطون، وكان كالتالى: «نشرت الصحف هذا التصريح بأسلوب مثير، وفى ضوء هذا ومعه الدعاية الإعلامية التى حظيت بها زيارة أعضاء الكونجرس لفلسطين.. هل تفوضنى الوزارة للإدلاء بتصريح يخفف من وقع الصدمة التى أحدثها الإعلان الرئاسى فى البلاد العربية؟».
بيد أنه لم يكن ثمة الكثير مما يقال؛ حيث إن مستشارى ترومان السياسيين كانوا فى حالة من الخلاف. أضاف هندرسون فى مذكرته أن الوضع قد أصبح حرجا من حيث إمكان إنقاذ البرستيج الأمريكى الذى تأسس على مدى سنوات كى يوفر الحماية لمصالح أمريكا المادية. وعلى الرغم من أن مجرد الاستياء من تجاهل أمريكا لرأى العرب كان أمرا سيئا، فإن الأمر سيصبح أكثر خطورة «إذا أعطيناهم أساسا للاعتقاد أننا لن نوفى بوعودنا الحاسمة التى قطعناها على أنفسنا، تأكيدات مكتوبة صدرت من الرئيس روزفلت والرئيس ترومان أيضا».
وبعد يومين التقى فوزى ومعه دبلوماسى عربى آخر هندرسون؛ حيث عبر فوزى عن دهشته من أن الولايات المتحدة كانت تضغط بالفعل على بريطانيا العظمى لفتح فلسطين أمام 100 ألف مهاجر يهودى، واستشهد بوعود الرئيسين بعدم فعل أى شىء لتغيير الوضع من دون استشارة مسبقة مع الطرفين. وقال فوزى إن روزفلت قد أخبره شخصيا لدى لقائه مع الملك فاروق، أنه لن يفعل شيئا بدون التشاور مع مصر والدول العربية الأخرى، علاوة على أن الولايات المتحدة بحثها بريطانيا العظمى على القيام بهذا التغيير الذى سيكون له أعظم الأثر على الشعب الفلسطينى، فإنها تشجع انتهاك القوانين الدولية، وبخاصة شروط الانتداب على فلسطين التى تحظر مثل هذا الإجراء دونما موافقة السكان المحليين. وانتهى بالقول: «بالتأكيد فإن لبلد تحت الانتداب مثل فلسطين حقوقا تفوق حقوق المحليات».
وفى محاولة للتخفيف من وطأة الاحتجاجات العربية، التقى جيمس إف بيرنز وزير خارجية ترومان الجديد، الدبلوماسيين العرب بعد بضعة أيام، وحاول طمأنتهم بعدم وجود تغييرات قائلا: «إن الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بالسياسة التى لا تدعم أى تغييرات فيما تعتبره الوضع الأساسى بفلسطين، إلا إذا خضع مثل هذا التغيير لنقاش كامل مع العرب واليهود». وبالطبع، كان هذا يماثل إغلاق باب الإسطبل بعد فرار الخيول.
وطوال الأسابيع والأشهر التالية، تصارع ترومان بأسلوب علنى وحاد مع إرنست بيفن وزير الخارجية البريطانى، بشأن إصرار الرئيس على السماح بدخول 100 ألف مهاجر يهودى إلى فلسطين بأسرع وقت ممكن. وفى إحدى المناسبات، تساءل أحد الصحفيين عن إمكانية «الوصول إلى تفاهم مع بريطانيا إن نحن أومأنا إلى الترحيب بقدوم بعض هؤلاء المهاجرين إلى الولايات المتحدة». كان رد ترومان يعبر عن الضيق والانفعال، وكأنما أراد إنهاء الموضوع، وتساءل ما إن كان الصحفى على علم بقوانين الهجرة، وأضاف: «علينا الالتزام بها»، لكن هذه الإجابة عرضته لسؤال تال؛ حيث سأله الصحفى إن كان الرئيس ينوى التوصية لتغيير القوانين، وكانت إجابة ترومان: «لا، لا أنوى ذلك».

لكن بيفن، وقد أحبطه نقد العالم لرفض بريطانيا السماح لحمولات السفن من المهاجرين اليهود بالرسو فى فلسطين وغضبه من ذلك النقد، وشن هجوما شديدا فى أحد مؤتمرات حزب العمال حيث قال " أرجو ألا يساء فهمى فى أمريكا إن قلت إن الاقتراح بالسماح لمائة ألف يهودى بدخول فلسطين لم تكن دوافعه خالصة نقية إنهم لا يريدون وجود أعداد كبيرة من اليهود فى نيويورك".وعلى الرغم من أن زملاء بيفن شعروا بالحرج والضيق لهذا التصريح، إلا أ، ترومان فاجأ أحد الصحفيين بقوله إنه يتفهم الضغوط على وزير الخارجية البريطانى، لأنه نفسه كثيرا ما كان يشعر بالرغبة فى " تفجير نفسه" بسبب الضغوط والمضايقات التى تمارس علية من نيويورك وكانت هذه ملاحظة لا يمكن عدم فهم مغزاها.
لكن ترومان، وبالرغم من ذلك لم يتزحزح عن مطلبه بالسماح لمائة ألف يهودى بالدخول إلى فلسطين، وكان يعرف كنه اللعبة، إذا إنه أدرك أن هدف بيفن كان هو جر الولايات المتحدة إلى تحمل مسئولية مشتركة عن اى شىء يحدث بحيث يكون ثمة طرف ثالث يلقى عليه العرب باللائمة. وعلى الرغم من ان الأمريكيين كانوا قد استخدموا الحرب العالمية الثانية للإعلاء من شانهم فى الشرق الأوسط وإحكام قبضتهم على شئونه، لكنهم بموقفهم هذا كانوا يخاطرون بإفساد الأمور للجميع. على أيه حال، فقد التقطت الحكومة السعودية تصريحات ترومان حول الهجرات اليهودية وطالبت بنشر الخطابات التى كانت قد تبودلت بين ابن سعود وروزفلت، الأمر الذى شعر معه وزير الخارجية الأمريكية بيرنز بأنه فى ورطة. من ثم أجبر الوزير من جهة على إبلاغ السفير البريطانى أن روزفلت كان آنذاك مريضا بدرجة عدم قدرته على التعاطى مع مثل تلك الإجراءات المهمة، ومن جهة أخرى. أجبر الوزير على إعادة تأكيداته لممثلى دول الشرق الأوسط بأنه لم تطرأ أيه تغيرات على السياسة الأمريكية منذ خطابات روزفلت إلى ابن سعود، وان الولايات المتحدة كانت مازالت تنوى " استشارة " العرب واليهود قبل فعل أى شىء يتعلق بمستقبل فلسطين. ومن الواضح أن تعبير " استشارة" كان أكثر ضعفا بكثير من الانطباع الذى تركته مراسلات روزفلت وبخاصة خطابه المؤرخ فى 5 أبريل 1945 والذى جاء به أنه لن "يتخذ أى قرار" من دون "الاستشارة الكاملة" مع العرب واليهود وأنه لن يتخذ "أى إجراء قد يثبت أنه معادٍ للشعب العربى".
وعلى الرغم من أن خطابات روزفلت لم تتضمن أى تعهد مُلزم، كما قال ترومان عن صواب، فقد شكا القادة العرب كم أنه قد تم تضليلهم إلى احد الأقصى، ولم يكن هذا اتهاما غير منصف. حاول الوزير بيرنز أن يفسر للورد هاليفاكس، السفير البريطانى الذى تملكته الحيرة بشأن كيفية فهم ترومان للوضع، حيث أبلغه "أن المشكلة الآن هى أن يقرر العدد الذى يمكن استيعابه فى السكان ولا يمكنه الاشتراك فى خطة تثنيه عن ذلك". كان ويليام إيدى، خبير روزفلت فى شئون السعودية، قد عاد إلى الوطن فى خريف عام 1945 لحضور مؤتمر لرؤساء البعثات الديبلوماسية وأمل فى أن يستبق أى إجراء يلزم واشنطون بتبنى قضية الصهاينة. كان ابن سعود قد أوضح له قبل مغادرته عدم كفاية الوعود ب "الاستشارة" وتوقع الملك أن نشر مراسلات روزفلت ستنهى مطالبة الصهاينة باتخاذ إجراء أحادى، وإن لم تفعل، فستكون مغبات ذلك على السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط خطيرة. قال الملك إن استقلال دولة فلسطين العربية وبقاءها هو شأن تقرره دول المنطقة وليس من شأن الأمريكيين يهودا كانوا أم أغيارا والذين يعيشون على بعد خمسة آلاف ميل. لم يقل سعود إنه سيتخذ خطوات ثأرية ضد شركة أرامكو الأمريكية للنفط إذا مضت واشنطون قدما فى خططها وأتت بالمهاجرين اليهود إلى فلسطين، بيد أنه كان ثمة أخطار أخرى قائمة وبخاصة تلك التى تتعلق بمستقبل قاعدة الظهران الجوية التى كان من المزمع إقامتها. ذكر إيدى فى تقرير له أن " العرب الأكثر تعصبا كانوا يقولون بالفعل إنها قاعدة للعدوان السياسى الاستعمار الأجنبى".
وفى 10 نوفمبر 1945 وافق الرئيس على لقاء رؤساء البعثات الذين كانوا يحضرون المؤتمر والاستماع إلى أطروحاتهم لمدة نصف ساعة فقط. رأى الحضور أن العالم العربى يستحق مكانا أفضل فى فكر السياسة الخارجية ليس فقط بصفته "قوة توازن" الطموحات الصهيونية، أو لأنه مركز الاهتمامات الإستراتيجية البريطانية، أو لأن الطرق الجوية العظمى لابد وأن تمر عبره فى المستقبل، أو حتى لأنه يضم " مهدى الحضارة وأكبر احتياطات مثبتة من نفط العالم غير المعالج"، بل لأنه يجب توجيه مزيد من الاهتمام للعرب بسبب التيارات الثورية الآخذة فى الانتشار فى أنحاء المنطقة، أكد الحضور أنه "إذا أثبطتهم الولايات المتحدة فسيتوجهون إلى روسيا وستفقدهم حضارتنا بكل تأكيد". وفوق كل شئ، سأل الديبلوماسيون عما بإمكانهم قوله لتلك الحكومات حول السياسة الأمريكية إزاء "الصهيونية السياسية؟" تبسم ترومان لارتداد خطابه الوليد الخاص بالحرب الباردة إليه، وأقر بأن هذا السؤال قد أقلقه بأكثر من أية قضية أخرى تواجه الولايات المتحدة، بيد أنه احتفظ فى ذهنه بتعبير "الصهيونية السياسية" الذى استخدموه كى يصوغ إجابته حيث رد قائلاً إنه يأمل أن السماح بدخول بعض المهاجرين من أوروبا سيعمل على "التخفيف" من حدة الموقف لوقت كافٍ على الأقل حتى يتم التوصل إلى تسوية مع الصهيونية "ذات التوجهات الإنسانية". لكنه اعترف بأنه غير واثق من التوصل إلى تلك التسوية وذلك لأن فلسطين كانت "قضية ملتهبة" فى الحياة السياسية الداخلية، وأنها ستستمر كذلك فعام 1946 وفى عام 1948.
نوع من الاتفاق حول إسرائيل:
بيد أن ترومان تلقى دعماً من مصدر آخر، أى من ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا السابق. كان تشرشل الذى ظل موالياً للصهيونية منذ سنوات، يدعو فوق كل شئ لعمل أنجلو / أمريكى جماعى كأفضل وسيلة، بل والوسيلة الوحيدة، للحفاظ على وضع لهما فى الشرق الأوسط وبخاصة فى مواجهة تحديات التيارات القومية بمصر وإيران، وتحدث عن تلك التحديات بأسلوب يماثل ذلك الذى كان جورج كنان قد استخدمه عندما قدم خطة لتشارك الدولتين فى المرافق العسكرية بالمنطقة. ووفقاً لرؤية تشرشل للوضع فقد كانت بريطانيا العظمى من الناحية الجغرافية وخلافه بين فكى ] مسّاكة[ مُلزمة أى بين فلسطين من ناحية ومصر من ناحية أخرى فى وجود الويس محشورة من الناحيتين. بل إنه يمكن القول حماية السويس والقاعدة العسكرية هناك كانت القيمة التحتية الرئيسية فى خطاب "الستار الحديدى" الشهير الذى ألقاه تشرشل بكلية وستمينستر فى فولتون بولاية ميسورى فى وجود ترومان جالساً على المسرح خلفه. كان من الصواب أن ينصب كل الاهتمام على وصفه لأوروبا مابعد الحرب وهى مقسمة بين الكتلة الشرقية والغربية بواسطة ستار حديدى، لكنه بعد ذلك تحول إلى الشرق الأوسط وعرض أن يتشارك مع واشنطون فى أمر قد يثبت أن قيمته لا تقدّر كمضاد للاتحاد السوفيتى قواعد عسكرية تضاعف قوة الولايات المتحدة، وكانت السويس بلا ريب أحد أهم المواقع فى تلك الحسبة.
مضى تشرشل قائلاً" تشعر تركيا وبلاد فارس بعميق القلق بسبب مطالب روسيا منها والضغوط التى تمارسها عليهما"، وقال إن على بريطانيا والولايات المتحدة فى مواجهة تلك التحديات العامة والمحددة تطوير استراتيجية مشتركة. ثم تساءل " أمن الممكن ألا يتسلق تطوير علاقة خاصة بين الولايات المتحدة والكومنولث البريطانى مع أولويات ولاءاتنا للمنظمة العالمية؟ أجيب عن هذا التساؤل بالنفى، بل إن هذا قد يكون الوسيلة الوحيدة التى من خلالها تحقق تلك المنظمة مكانتها الكاملة وتثبت قوتها"، ذلك لأن الإمبراطورية البريطانية المثير مما يمكن لها أن تقدمه، كما أن لديها قواعد فى جميع أنحاء العالم" وقد يؤدى هذا إلى مضاعفة إمكانات الأسطول الأمريكى وقواتها الجوية على الحركة ويوسع المدى التى تستطيع به قوات الإمبراطورية التحرك، كما أن سيؤدى، فيما تهدأ الأمور فى العالم، إلى توفير أموال كثيرة. فنحن معاً نستخدم بالفعل عدداً كبيراً من الجزر، ومن الممكن أن توكل لكلينا مهمة الحفاظ على المزيد منها فى المتقبل القريب".
مثّل موقف تشرشل الموالى للصهيونية، والذى كان مخالفاً للمزاج العام بحزب العمال، رؤيته لإنقاذ الإمبراطورية أو أكبر قدر منها على الأقل، إذ إنه اعتبر ان الحركة الصهيونية وأطماعها دعامة لتوجهات بريطانيا الاستعمارية. لكن هذا الموقف استدعى كثيراً من النقد لترومان حليف تشرشل. وضع تشرشل، قائد بريطانيا أثناء الحرب والقائد العام لمدافعين عن الإمبريالية، وضع حكومته فى موقف الدفاع عن النفس حول هذه القضية بأن اضمر أن وجود جبهة أنجلو / أمريكية موحدة ستعمل على تعويق " المتعصبين" العرب الذين كثر الحديث عنهم ]يقصد المناضلين المعادين لأطماع الصهاينة ودعاة الاستقلال والقومية العربية!![ والذين رأى تشرشل أنهم لا يمثلون مشكلة بنفس قدر مهمة منع وجود موطئ قدم للروس فى المنطقة. وفيما أنه كان من المؤكد أن بإمكان القضية الفلسطينية أن تؤدى إلى تفكيك تلك " العلاقة الخاصة" إلى خيوط منفصلة، فقد كان التعظيم من شأن التهديد السوفيتى كوسيلة لتشجيع الأمريكيين لأخذ الوضع العام فى الشرق الأوسط على محمل الجد قد أصبح اهتماما مركزياً لصناع السياسة البريطانيين.وعلى حين أن توجهات تشرشل إزاء فلسطين كانت تختلف عن رؤية بقين وأتلى، إلا أن توكيداته السابق ذكرها كانت تتناغم مع هدف إشراك الأمريكيين فى أمور الشرق الأوسط. كتب المؤرخ جون كى يقول إن الهدف البريطانى طوال الوقت كان هو جر الأمريكيين للدفاع عن الهوامش، أى اليونان وتركيا، نظراً لأهميتهما لغاياتهم المشتركة.
فى بداية صيف عام 1946، أصدرت لجنة أنجلو / أمريكية تقريراً يؤيد اقتراح السماح لمائة ألف يهودى بالهجرة إلى فلسطين. كان العرب الذين تمت دعوتهم للتعبير عن آرائهم حول الموضوع قد قاطعوا اللجنة. وقد أتاح ذلك الفرصة لإدارة ترومان أن تقول إن الالتزام الذى كان روزفلت قد قطعه بشأن مشورة الطرفين قد تم، ثم أضافت الإدارة على أى حال، نحن مازلنا منفتحين على أية مشورات تصدر التنصل، توجهت السياسة الأمريكية نحو خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، مع محاولة لتعيين حدود للدولة المتقطعة. حينما وصلت الأخبار إلى عبد الرحمن عزام رئيس الجامعة العربية عبر عن غضبه العارم استنكاراً للسياسة الأمريكية، بيد أن أحد الدبلوماسيين المصريين أبلغ مسئولاً فى السفارة الأمريكية، بشكل شخصى، أن حكومته ستقبل دعوتها إلى مؤتمر بعقد بلندن حول التعاطى مع مسألة الهجرة اليهودية " من دون شروط مسبقة".
كان ترومان ومستشاروه قد تلقوا المناشدة البريطانية فى بداية عام 1947للإسهام فى تقديم المساعدة العسكرية لليونان وتركيا وحولوها إلى ما وصفوه بأنه " مبدأ" لمقاومة ما يحدثه السوفييت من تخريب، بحسب قولهم، فى أى مكان.
وبمجرد تبلور "مبدأ ترومان" وإعلان "خطة مارشال" لمعافاة الاقتصادات الأوروبية تحت التوجيه الامريكى، أصبح "الاحتواء" القاعدة العامة التى تشكلت وفقها جميع السياسات الأمريكية، بحيث أصبحت الحرب الباردة تعرف على أنها صراع بين "العالم الحر" والكتلة السوفيتية، وكما كان محتماً، غدت القضية الفلسطينية جزءاً من مناورات الحرب الباردة، فيما عمل الاتحاد السوفيتى أيضاً على زيادة التوتر بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى من خلال مساندتهم لمطالبة مصر بجلاء بريطانيا عن السويس، وأيضاً بتأييدهم طرفى القضية الفلسطينية.
فيما بعد، مضى الرؤساء الذين خلفوا ترومان فى توسيع نطاق مبدئه بحيث يتناسب مع الاحتياجات السياسية فى أماكن أخرى، وبخاصة فى الشرقيين الأوسط والأقصى. وعلاوة على ذلك، فإنه وبعد انهياره بفترة طويلة، ظل مصطلح " العالم الحر" يستخدم لتبرير السياسات الأمريكية فى الحرب على العراق وغزو أفغانستان، لكن هذا كان من شأن المستقبل. أما المشكلة الآنية المباشرة آنذاك فتمثلت فى التغلب فى النقاشات مع لندن حول فلسطين وتطلعات الصهاينة. وفى النهاية أعلن بفين وزير خارجية بريطانيا عجزه ووجه إلى ترومان تعليقات بذيئة تضمر وصفه إياه بالديوث السياسى، وألقى بالمشكلة إلى الأمم المتحدة وكأنما ليقول واشنطون " لقد خلقت المشكلة، فلتوجدى حلاً لها".
حاولت الأمم المتحدة جهدها، وأنشأت لجنة خاصة unscop لمراجعة جميع المقترحات. وكما كان متوقعاً، عادت اللجنة بتقرير يبين انقسامها. أيدت الغالبية خطة تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية. وترك القدس مدينة دولية تحت الحماية. كان ترومان قد فضّل سراً، ذاك النهج، وحينما عُرض الاقتراح على الأمم المتحدة لصالح التقسيم، وكان البيت الأبيض قد مارس الضغوط، خلف الكواليس، على عدة حكومات للتصويت لصالح التقسيم، ولم يكن خافياً أن وزارة الخارجية كانت تعارض مناورات الباب الخلفى تلك وترى فيها " تشاطراً" مفرطاً من جانب مساعدى الرئيس الموالين للصهاينة لتجنب تحمل المسئولية الأحادية عن "حل" مفروض كان لابد له وأن يعمل على اغتراب الدول العربية.
وفى الأمم المتحدة، التقى جورج سى. مارشال، وزير خارجية الولايات المتحدة بالدبلوماسيين العرب فى محاولة لتهدئة ردود أفعالهم على التصويت لصالح التقسيم. ومرة أخرى، مضت مجموعة من المتحدثين العرب تأخذ دورها محذرين من مغبات ذلك التصويت. قال أحدهم إن التجربة الصهيونية كان لابد لها أن تفشل منذ البداية بدون المساعدة الخارجية المالية والدعم الذى تلقته؛ وذهب آخر إلى أنه بمجرد أن يستقر المهاجرون اليهود فى فلسطين فسيمضون فى مسعاهم لضم المزيد والمزيد من الأراضى وأن ما يحدث كان مجرد بداية.
أكد فارس بك خورى ] من سوريا[ على أطروحة الفشل الذى سيكون مصيرهم فى النهاية وبيّن أنه بالرغم من أن الصليبين حاولوا منذ ألف عام ترسيخ هيمنتهم على الاراضى المقدسة فقد تم طردهم فى النهاية وكانت الكوارث من نصيبهم.
أنصت مارشال لهذه الشكاوى دونما تعليق، واحتفظ لنفسه بالشكوك حول تصميم البيت الأبيض على أن يجد سبيلاً للخروج من هذا المأزق بحيث يحقق مطالب الداخل الأمريكى من ترومان بدون أ تنهال اللعنات عليه من العالم العربى إلى أبد الآبدين.
فى تلك الأثناء مضى المعنيون فى توجيه اللوم إلى البريطانيين لإعاقتهم المهاجرين اليهود من الرسو فى فلسطين من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يبد العرب أى تعاطف مع البريطانيين. كان العامل الذى أسهم فى اتخاذ القرار بتشكيل لجنة unscop هو حادث السفينة "إكزوداس exodus ] الخروج [" الشهير فى صيف عام 1947 حينما أعادت السلطات البريطانية تلك السفينة التى كانت تحمل لاجئين يهوداً من ألمانيا، وغدا الحادث كابوسا بالنسبة للسلطات البريطانية حيث كان معظم من كانوا على متن السفينة والذين ينون الهجرة إلى فلسطين من الناجين من الهلوكوست جذب مصيرهم اهتمام العالم حينما أصر بيفن على اعتبارهم غير شرعيين وعلى أنه .ينبغى عودتهم إلى المرافئ الفرنسية فيما بعد أطلق على exodus "لقب السفينة التى تسببت فى إنشاء دولة" كتب المؤرخ آلان باييه يقول فيما بعد، لو ان البريطانيين أستوعبوا ما لتلك الصورة (الهلوكوست فى هذه الحالة وربطها بسفر الخروج) من قوة تلك الرحلة القادمة من ارض الهلوكوست. لكنهم لم يفعلوا فيما نأى الأمريكيون بأنفسهم عن المسئولية. كانت نتيجة القرار البريطانى الذى تجاهل حساسية الموقف " الدفع بتشكيل لجنة unsop من اجل مناقشة مصير الناجين من اليهود الأوروبيين بدلا من بحث مطالب العرب بتقرير مستقبل فلسطين على أساس الواقع الديموجرافى (بالنسبة السكانية) لعام1947".
بيد أن ترومان كان تبين ومنذ وقت مبكر فى عام 1947،ما بدا وأنه أمر حتمى اى أن الرأى العام الأمريكى سيدعم فكرة إنشاء وطن قومى لليهود بفلسطين، وكانت هذه الفكرة هى التى تصرف على أساها منذ آنذاك وحتى إنشاء إسرائيل عام1948،أملا أن يكون بإمكان المائة ألف مهاجر يهودى ان يستقروا هناك وان يكون لديه ما يكفى من الوقت للتفكير فى وسيلة يستطيع من خلالها المهاجرون اليهود والعرب الفلسطينيون لعيش بأسلوب أو أخر فى دولة مقسمة لكن حدث تطور مفاجئ أدى إلى تقليص مساحة المناورات الأمريكية : تغير أثناء النقاش فى خريف عام1947 ليعلن تأييده تقسيم فلسطين، أعتقد خبراء وزارة الخارجية الأمريكية الذين كان قد أصابهم اليأس نتيجة توجهات البيت الأبيض الموالية للصهاينة أن الروس قد قاموا بخطوة ماهرة تمكنهم من اختراق الشرق الوسط بواسطة تنمية علاقات طيبة مع إسرائيل بعد أن عمل مبدآ ترومان على إبعادهم عن المنطقة لكن وعلى المدى الطويل لم تصبح إسرائيل قاعدة سياسية أمامية بالمنطقة للإتحاد السوفييتى فيما عانت العلاقات الأمريكية/ العربية نتيجة إقامة الدولة اليهودية.
فى 15 مايوعام1948 أعلنت بريطانيا تحت ضغط حاجتها إلى الأموال للحفاظ على قواعدها بالخارج ونتيجة لاحتياطاتها أنها ستنهى انتدابها على فلسطين والذى كان جزءا من تسوية الحرب العالمية الأولى التى قسمت على إثرها الإمبراطورية العثمانية بين المنتصرين وفى وجود مائة ألف من الجنود البريطانيين من الشرطة والجيش متموقعين فى فلسطين لم يكن لشىء بما فى هذا فقدان القواعد العسكرية ان يغير اقتصاديات ذلك الوضع لذا لم يكن ثمة خيار سوى دعم عبد الله ملك ماكان يعرف آنذاك بشرق الأردن والذى كان يشتهى ضم الضفة الغربية الى مملكته مع تخيل نفسه وهو يحكم مناطق واسعة تشمل سوريا ولبنان.

كان لعبد الله صلات جيدة مع الوكالة اليهودية، التى سبقت الحكومات الاسرائلية المؤقتة وفى لقاء سرى له مع قادتها وقت التصويت على التقسيم أكد لهم انه لن يهاجم الدولة اليهودية أبدا " بل سيعمل على ضم جزء فلسطين العربى إلى مملكاته". كانت القاهرة تفهم جيدا طموحات عبد الله، وقد أدت تلك التنافسات بين/ العربية إلى تقويض اى محاولة لتشكيل جبهة موحدة ضد دولة إسرائيل التى كانت قد أقيمت مؤخرا. كان بينكنى تاك ،سفير الولايات المتحدة بالقاهرة، قد أرسل تقريرا من مصر فى 23ديسمبر عام 1947مفادة ان الملك فاروق وباتفاق مع دول عربية أخرى قد تعهد لمقاومة التقسيم " بقوة السلاح"كان لفاروق فرقتان عسكريتان على الحدود الفلسطينية، لكنهما ماكانت لتقومان بأيه عمليات سوى بعد انتهاء الانتداب البريطانى على فلسطين، وفى ذات الوقت كانت القوتان تعملان على منع "تسلل المخربين من اليهود الروس إلى مصر" وكان قد تم توقيف عدد منهم بالفعل وعثر معهم على وثائق لم تترك اى شك حول ماكانوا ينوون القيام به من أعمال تخريبية .أيضا لم تساور الشكوك مطلقا الملك فاروق أن القوات العربية ستنجح معا فى النهاية ،وبعد بعض من التعثرات والانتكاسات فى البداية، فى طرد اليهود من فلسطين. أقر أن كثيرا من اليهود قد اكتسبوا خبرات عسكرية فى الحرب العالمية الثانية لكنه كان واثقا تلك الميزة ستختفى مع مواصلة العرب للقتال. ووفقا ما قاله السفير تاك فقد اخبره "فاروق ان الملك ابن سعود قد تعهد له ان سيتبع مصر، وعبر فاروق عن اعتقاده انه على الرغم من الميزات المادية التى كان يجنيها ابن السعود من المشاريع الأمريكية فى المملكة فإن الرجل العجوز يفضل أن يدمر أباره من النفط على أن يحنث بوعده". وعلى الرغم من أن تاك اعتقد أن ذاك الانطباع كان مبالغا فيه إلا أنه لم يكن لدية أدنى شك فى عزل فاروق على ان تكون له القيادة فى مقاومة إسرائيل بواسطة القوة العسكرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.